لعله من المستبعد أن يكون دارَ في خَلَدِ البروفسور الرّاحل السير بيرنارد كريك عند تأسيسه جائزة أورويل للكتابة السياسيّة عام 1993 أن تحولات الأزمنة ستقود يوما ما إلى صعود كتب الرجل الذي سميّت الجائزة باسمه (جورج أورويل الاسم الأدبي للروائي البريطاني المعروف لإريك بلير (1903 - 1950) – إلى قمة قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في عام 2017، لا سيما روايته الأشهر (1984) والتي يصف فيها عالماً استحكمت به (الحقائق البديلة) و(الأخبار المزورة) في أجواء من (ما بعد الحقيقة) والبروباغاندا الصريحة.
لذا فقد حظي الإعلان عن القائمة القصيرة لجائزة أورويل لهذا العام باهتمام غير مسبوق استشرى كنارٍ في هشيم الأوساط الثقافيّة الغربيّة، ونشرت الصحف البريطانيّة والأميركيّة مقالات مطولة في تقديم الكتب المختارة للقائمة وسيرة أورويل نفسه وتفسيرات لسر راهنيّة أعماله مجدداً.
الجائزة التي تمنح سنوياً منذ 1994 لكتاب صدر حديثاً وتقرر لجنة تحكيم بأنه الأقرب إلى حلم جورج أورويل «بتحويل الكتابة في السياسة إلى فن» لها قيمة مالية رمزية (ثلاثة آلاف جنيه إسترليني)، لكنها تعد دون شك من أهم الجوائز - في بريطانيا والعالم الأنجلوفوني عموماً - من حيث قيمتها الأدبية والمعنوية، وذلك فيما يتعلق بالكتابة السياسية الموجهة لغير المتخصصين، وتنتهي دوماً إلى منح الفائزين بها تنويهاً مرموقاً يزيد من انتشار الكتاب الفائز (والكتب المرشحة في واقع الحال) ومبيعاته على نحو ملموس.
القائمة القصيرة للجائزة هذا العام أعلنت منتصف مايو (أيار) الجاري وضمت ستة كتب غلب عليها التداول بشأن المخاضات العصيبة التي تدور في بطن الجزيرة البريطانيّة لتعكس أجواء حراك سياسي ملتهب يعصف بالمملكة منذ الإعلان عن نتائج الاستفتاء الشعبي حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) الماضي - أو ما يعرف بالبريكست - والذي أظهر انقساماً ملحوظاً في المواقف السياسيّة مع أغلبيّة بسيطة صوتت لصالح الخروج من الاتحاد.
(الحرب الشاملة) لتيم شيبمان أحد هذه الكتب المرشحة يستكشف هذا البريكست بالذات: الأسباب والنتائج التي تمخضت عنها أكبر صدمة في الحياة السياسيّة البريطانيّة ربما منذ الحرب العالميّة الثانيّة.
الكتب الأخرى المرشحة بقيت بدورها في أجواء الجزيرة: (وتشرق الشمس الآن) رواية توثيقيّة لمأساة هيلسبروه عام 1989 التي قضى فيها 96 شخصاً حتفهم بسبب التدافع في مباراة لكرة القدم كتبها أحد الناجين من التجربة الأليمة (أدريان تيمباني) وفيها قراءة لتأثير تلك الحادثة على اللعبة الشعبية الأولى في بريطانيا والمجتمع عموماً. أيضاً (المواطن كليم) لجون بيو يروي سيرة حياة كليمنت أتيلي رئيس الوزراء البريطاني عن حزب العمّال الذي قاد البلاد بعد الحرب العالميّة الثانية مستعيداً الحزب للحياة بعد هزيمة ماحقة في الانتخابات العامة عام 1935، مما يضيف بعداً تاريخيّاً على نضال حزب العمال للبقاء الآن لا سيما في مواجهة الانتخابات الاستثنائية في يونيو المقبل. كذلك (قصة جزيرة)، وهو تجوال جيه دي تايلور عبر أجزاء المملكة المتحدة طارحاً نوعاً من استطلاع لأحوال مناطقها المختلفة ومزاجات سكانها على نسق كتاب جورج أورويل نفسه (الطريق إلى ويغن بيير) الذي شكل وصفاً لأجواء البريطانيين في ثلاثينات القرن الماضي.
وليس بعيدا عن أجواء الجزيرة البريطانيّة يأتي كتاب (السبعة) لروث دادلي إدواردز الذي تقدّم فيه إعادة قراءة كاملة لتاريخ وتراث أبطال ثورة عيد الفصح في آيرلندا الذين أقاموا جمهوريّة تمردت على الاحتلال البريطاني قبل قمعها بالعنف الشديد خلال أيام قليلة، فكانت على نحو أو آخر بداية استقلال آيرلندا الحديثة عن المملكة المتحدة.
الاستثناء الوحيد لغلبة الشأن المحلي البريطاني على القائمة القصيرة للكتب المرشحة للجائزة كان كتاب جاري يونغ (يوم آخر في موت أميركا) وفيه انتقى مراسل ذي جارديان البريطانيّة يوماً عشوائيّاً - 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 - لسرد سيرة عشرة أطفال ومراهقين قتلوا ذلك اليوم بأسلحة ناريّة، كاشفاً عن وهن قوانين حيازة السلاح في الولايات المتحدة التي تتسبب في أذيّة الحلقات الأضعف في المجتمع.
كانت الجائزة قد أعلنت عن قائمة ترشيح مبدئية في مارس (آذار) الماضي شملت أربعة عشر عنواناً تضمنت عملاً أدبياً وحيداً: رواية (القوّة) لناعومي ألديرمان تستشرف مستقبلاً تحكم فيه النساء، لكن الخيال الأدبي استبعد عن القائمة القصيرة لمصلحة أعمال تصف وقائع حقيقيّة أشبه بالخيال - على حد تعبير أحد النّقاد - .
الجائزة منحت العام الماضي لكتاب عن روسيا (اختراع روسيا لأركادي أستروفسكي) من بين مجموعة كتب لقائمتين طويلة تلتها قصيرة، احتفلت بالتحولات السياسيّة حول العالم من الهند إلى العراق ومصر مروراً بروسيا وغيرها، مما يشير بوضوح إلى تغيّر حاد أصاب مزاج الثقافة السياسيّة للنخبة البريطانيّة التي بدت معنيّة أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الجائزة بهموم محليّة، الأمر الذي لم تخفه هيئة التحكيم عند إشارتها إلى القائمة القصيرة بكونها «معنيّة أساساً بهموم بريطانيّة، تضعها داخل سياق تاريخي وعالمي، وتقدّم طرحاً متبصراً لما يعتمل بصدر هذه البلاد اليوم».
هيئة المحكمين للجائزة - تتغير سنوياً - تشكلت هذا العام من جوناثان ديربشاير محرر الرأي في جريدة فايناشنال تايمز وهو عيّن رئيساً للهيئة، وبوني جرير الأديب والكاتب المسرحي، ومارك لوسن الكاتب والصحافي والمذيع المعروف، وإريكا وواجنر إحدى نجوم النقد الأدبي بريطانياً.
«أورويل للكتابة السياسية» كانت في سنوات سابقة منحت لكتاب وصحافيين معروفين في الأجواء السياسية البريطانية من أمثال آلان جونسون، ورجا شحادة، وأندريا جيليز وهي تشترط اقتران الأعمال بشكل ما ببريطانيا وآيرلندا (موضوعات أو جنسيّة كُتابها..)، ولهذا تأتي خياراتها وكأنها صوت المؤسسة الثقافية البريطانية ورؤيتها للعالم.
«أورويل للكتابة السياسيّة» قطعاً الأهم من ثلّة جوائز تمنحها المؤسسة الخيرية المكلّفة الحفاظ على تراث الروائي البريطاني الأشهر في القرن العشرين، إذ تقدّم أيضاً جائزة سنويّة للصحافة لشخصيّة عن مساهمتها في الجدل السياسي المكتوب، وأخرى للمقالات الصحافية الاستقصائية التي تغطي ما لا يغطى في الشؤون البريطانيّة، إضافة إلى جائزة أورويل للشبان وكان موضوعها هذا العام مقالات عن مسألة (الهويّة) استقطبت طلاب الثانويات البريطانيّة. هناك أيضاً جائزتان سنويتان شديدة الطرافة تستلهم أعمال جورج أورويل ويمنحهما المجلس الوطني لمعلمي اللغة الإنجليزية في المملكة المتحدة - جائزة للكتابة للجمهور - لمؤلف أو محرر أو منتج في أي من أشكال الميديا يساهم بتكريس الوضوح والأمانة في الخطاب الموجه للجمهور - وأيضاً جائزة الدبلسبيك (أو اللغة ذات الوجهين) التي تمنح لمثال صارخ لاستخدام لغة مخادعة من قبل متحدث بالمجال العام في الولايات المتحدة، كما وتطرح مسابقة للتلاميذ لتصميم الجائزة التي تمنح للفائزين مستلهمة أحد الأحداث السياسية وذلك لتشجيع مزيد من اندماج الطلاب في النقاش السياسي.
وسوف يتم الإعلان عن اسم الكتاب الفائز في حفل خاص ضمن مهرجان كليّة لندن الجامعيّة للثقافة الذي ينطلق الأسبوع الثاني من يونيو المقبل ويدعى إليه كبراء الثقافة والصحافة والسياسة في بريطانيا.
المخاضات السياسية البريطانية تكتسح جائزة أورويل
الرواية اليتيمة المرشحة استبعدت لمصلحة أعمال عن وقائع أشبه بالخيال

أرويل جورج - غلاف «المواطن كليم» - غلاف «الحرب الشاملة»
المخاضات السياسية البريطانية تكتسح جائزة أورويل

أرويل جورج - غلاف «المواطن كليم» - غلاف «الحرب الشاملة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة