مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

كوريا الجنوبية بلد الصراع الدائم بين قوى التسلط وقوى المجتمع المدني

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»
TT

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

مون جاي إن ناشط حقوقي في «البيت الأزرق»

انتخبت كوريا الجنوبية أخيراً رئيساً جديداً للجمهورية خلفاً للرئيسة المعزولة بعد إدانتها بالفساد بارك غيون هي. ويشكل الرئيس الجديد مون جاي إن، المحامي والناشط السابق في مجال حقوق الإنسان، نقيضاً سياسياً كاملاً للرئيسة السابقة التي هي ابنة الديكتاتور العسكري بارك تشونغ هي الذين حكم البلاد بقبضة من حديد إبان حقبة «الحرب الباردة» لمدة تقرب من 16 سنة حتى اغتياله في أكتوبر (تشرين الأول) 1979.
الديمقراطية ما كانت بالضرورة صفة ملازمة للحياة السياسية لكوريا الجنوبية، منذ أبصرت النور في أعقاب تقسيم شبه الجزيرة الكورية. ولئن كانت الديكتاتورية الصارمة غدت الهوية الثابتة للشطر الشمالي من كوريا، حيث التقت الشعارات والممارسات الشيوعية المفرطة بالتوريث العائلي وعبادة الفرد، وكله على حساب العافية الاقتصادية ورخاء المواطن، فإن الشطر الجنوبي ألف الديكتاتورية لسنوات.
الواقع أن أطول فترتي حكم شهدتهما كوريا الجنوبية كانتا فترتي قائدين يمينيين متشددين هما سينغ مان ري (أو ري سينغ مان) والجنرال بارك تشونغ هي. الأول هو الزعيم التاريخي المثقف الحاصل على أعلى الدرجات العلمية من أرقى جامعات الولايات المتحدة، الذي كان في أيامه رمزاً من رموز اليمين العالمي إبان فترة الحرب الباردة، وبالأخص، فترة الحرب الكورية (1950 - 1953)، وهو رغم ثقافته ووزنه السياسي لم يتردد في اللجوء إلى القمع وممارسة التسلط. أما الثاني فكان الجنرال «الانقلابي» الصارم، الذي مثّل في حقبة ما من تاريخ الشرق الأقصى جيلاً من الزعماء الذي ارتبط بمحاربة الشيوعية في دول الهند الصينية من فيتنام إلى لاوس وكمبوديا. ومن ثم أسهم في بناء سد «تسلّطي» كبح الديمقراطية والحريات العامة تحت ذريعة مواجهة زحف اليسار في أعقاب انتصاره الكبير في الهند الصينية عام 1975... وضم هذا الجيل، بجانب بارك (1963 - 1979)، الرئيس الإندونيسي سوهارتو (1968 - 1998) والرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس (1965 - 1986).
ثم إن الديكتاتورية العسكرية في كوريا الجنوبية لم تنته باغتيال بارك تشونغ هي، الذي هو والد الرئيسة المعزولة بارك غيون هي، التي يخلفها اليوم الرئيس الجديد، يوم 26 أكتوبر 1979.
عهد تشون القمعي
إذ خلال أقل من شهرين من تولي تشوي كيو هاه - الذي كان رئيساً للحكومة - رئاسة الجمهورية بالوكالة في أعقاب اغتيال الرئيس بارك، تحرك الجيش مجدداً. وقاد جنرال آخر هو الجنرال تشون دو هوان انقلاباً عسكرياً أطاح بالسلطتين السياسية والعسكرية في البلاد.
ومن ثم تولى تشون الحكم حتى سبتمبر 1980، عندما غدا رئيساً للجمهورية واحتفظ بمنصب الرئاسة في فترة أحكام عرفية واضطرابات وقمع دام شهدت ذلك العام ارتكاب مجزرة غوانغجو (في جنوب البلاد) - التي سقط فيها أكثر من 600 قتيل خلال مظاهرات سياسية - إلى أن أُجبر على التنحي عام 1988.
وتأخرت عودة الديمقراطية إلى البلاد، مع أنها كانت تخطو خطوات جبارة في مجالي التقدم العلمي والتفوق الصناعي، إذ انتخب الجنرال نوه تاي وو - زميل تشون وحليفه السابق - المدعوم من المؤسسة العسكرية وحزب العدالة الديمقراطي رئيساً للجمهورية في الانتخابات الرئاسية. ويومذاك استفاد نوه، أولاً من الابتعاد - ظاهرياً على الأقل - عن القمع الشديد الذي مارسه زميله وسلفه، وثانياً من انقسام قوى المعارضة الديمقراطية بين تيارين معتدل وبراغماتي مثله كيم يونغ سام (تولى الرئاسة لاحقاً بين 1993 و1998) وتيار نضالي ومثالي مثله كيم داي جونغ (الملقب بـ«نيلسون مانديلا كوريا» الذي تولى أيضاً فيما بعد الرئاسة بين 1998 و2003).

الحالة الكورية الجنوبية
خلاصة القول إن الحالة الكورية الجنوبية تستحق الدراسة في جمعها عدة ظواهر لافتة، أبرزها:
- إشكالية الهوية القومية التي فاقمها انقسام شبه الجزيرة الكورية بين جنوب رأسمالي غني وشمال شيوعي فقير.
- تداخل النوازع الديمقراطية مع ميل العسكر للتدخل في السياسة، لا سيما إبان حقبة الباردة، عندما كانت كوريا الجنوبية تجاور 3 دول شيوعية هي كوريا الشمالي والصين الشعبية والاتحاد السوفياتي.
- التطور التقني والازدهار الاقتصادي، الذي خدمه لفترة الاستقرار الذي فرضته الديكتاتوريات العسكرية لبعض الوقت، قبل أن يضحي من المستحيل الإبقاء على معادلة القمع والتطور.

بطاقة هوية
الرئيس الجديد مون جاي إن، المولود يوم 24 يناير (كانون الثاني) 1953، يأتي من «معسكر الديمقراطيين»، ولقد جاء انتخابه أخيراً في أعقاب فترة حكم بارك غيون هي أول امرأة ترأس البلاد، التي يربطها في المعسكر المقابل كونها ابنة الجنرال، ووارثة تركتها السياسية وقاعدته الشعبية.
مون مسيحي كاثوليكي من مواليد مدينة جيو جيه في أقصى جنوب البلاد، وهو ابن لاجئ من مدينة هامهونغ في كوريا الشمالية وكبير أربعة أولاد للعائلة. وبعد فترة قصيرة من تاريخ مولده انتقلت العائلة للإقامة في مدينة بوسان المجاورة، ثاني كبرى مدن البلاد بعد العاصمة سيول. وفي بوسان أكمل مون دراسته الثانوية. ومن ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة كيونغ هي. وإبان فترة دراسته الجامعية، التقى بزوجة المستقبل، وكذلك ظهرت ميوله السياسية، وانخرط في الحراك الطلابي والمظاهرات السياسية ضد ديكتاتورية الرئيس بارك. وأدى حراكه الطلابي السياسي إلى سجنه، ثم طرده من الجامعة.
بعد ذلك جرى تجنيده في القوات المسلحة، وألحق بـ«القوات الخاصة». وفي أعقاب إنهاء خدمته العسكرية عاد إلى دراسة الحقوق، ونال إجازة في القانون، ودخل معهد الأبحاث والتدريب القضائي. ومع أنه تفوق في المعهد، لم يقع عليه الاختيار لكي يعين قاضياً أو مدعياً حكومياً وذلك بالنظر إلى تاريخه الطلابي النشط ومعارضته الشديدة سياسات الرئيس بارك. وبناءً عليه، شق طريقه المهني كمحامٍ.
في هذه المرحلة من حياته المهنية تعرّف مون إلى نوه موو هيون – الذي قيّض له أن يغدو رئيساً للجمهورية عام 2003، وتشارك معه في العمل كما ظلا صديقين حتى انتحار نوه عام 2009، بعد عام واحد من انتهاء فترة رئاسته. ونجح مون كمحامٍ متخصص في قضايا الحريات وحقوق الإنسان، كما انضم لجماعة «مينبيون» (التي يختصر اسمها باللغة الكورية كلمات «محامون من أجل مجتمع ديمقراطي») للمحامين التقدميين، وترأس مجموعة حقوق الإنسان في نقابة محامي بوسان. وأسهم خلال عام 1988 في تأسيس صحيفة «هانكيوريه» صوت التقدميين والليبراليين المناوئين للسلطات العسكرية وتسلط الرئيس تشون دو هوان.

الطريق إلى الرئاسة
بناء على إلحاح نوه موو هيون، الشريك والصديق، تولّى مون إدارة حملة نوه الانتخابية الرئاسية. وإثر فوز نوه بالرئاسة عينه الرئيس الجديد رئيساً لجهاز موظفي الرئاسة ومستشاراً له. وشملت صلاحياته كثيراً من المسؤوليات الحساسة، وبالأخص في مجالات الشؤون المدنية والترويج للتفاهم بين شطري شبه الجزيرة الكورية بما في ذلك القمة بين الكوريتين.
ومن ثم، عندما باشر الادعاء العام تحقيقاً في تهم فساد مزعومة بحق الرئيس نوه كان مون مستشاره القانوني. وبعد انتحار نوه كان صديقه ورفيق دربه وشريك خطه السياسي هو من أشرف على ترتيبات المأتم وقضاياه الخاصة. وبالتالي، حظي بحضور وهالة أكبر في الشارع السياسي المحسوب على خط نوه، وكسب شعبية واسعة في صفوف التقدميين والليبراليين المناوئين لمعسكر اليمين. وطرح جدياً كمرشح التقدميين في وجه مرشحة اليمين المحافظ بارك غيون هي.
وبالفعل، أخذ مون موضوع اقتحام الحلبة السياسية جدياً، وأخذت أسهمه ترتفع كأبرز الشخصيات المناوئة للمحافظين. وفي عام 2012 نجح في دخول البرلمان عن الحزب الديمقراطي المتحد ممثلاً إحدى دوائر مدينة بوسان الانتخابية. ولم يلبث أن حظي بترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة، إلا أنه خسر تلك المعركة أمام بارك التي صارت بفوزها أول امرأة تقود كوريا الجنوبية.
لكن هذه النكسة لم تَفُتّ في عضد مون، بل نشط في إعادة تشكيل قوى المعارضة وتحالفاتها بين التقدميين والليبراليين والوسطيين. وأثمرت مساعيه تأسيس الحزب الديمقراطي (مينجوو). وفي وقت سابق من العام الحالي، مع تجمع السحب السوداء فوق رئاسة الرئيسة بارك، ومن ثم اتهامها بالفساد وإدانتها وعزله، صار مون أبرز المرشحين المتنافسين لخول «البيت الأزرق» (مقر الرئيس الكوري)
وحقاً، في المعركة الانتخابية الحاسمة يوم 10 مايو (أيار) الحالي، فاز مون جاي إن متغلباً بفارق كبير على منافسيه المرشح المحافظ هونغ جون بيو ومرشح حزب الشعب وزميل مون السابق آهن شيول سو.

أبرز رؤساء كوريا الجنوبية
* سينغ مان ري (1948 - 1960): رجل دولة بارز والمؤسس الحقيقي لكوريا الجنوبية. من أسرة قروية تدين بالكونفوشية، إلا أنه اعتنق المسيحية البروتستانتية النظامية في ما بعد. بدأ حياته ناشطاً سياسياً وتولى مسؤوليات قيادية في مرحلة مبكرة من عمره. ثم استقر في الولايات المتحدة. فدرس بجامعة جورج واشنطن ونال منها البكالوريوس، ثم حاز الماجستير من جامعة هارفارد، فالدكتوراه من جامعة برينستون. تنحى عن السلطة إثر مظاهرات ضد الانتخابات التي اتهم بتزويرها وتوفي في هونولولو (هاواي) منفياً عن 90 سنة.
* بارك تشونغ هي (1962 - 1979): جنرال وسياسي قاد الانقلاب العسكري على الرئيس يون بو سيون عام 1962. ومن ثم حكم كوريا بيد من حديد طيلة 16 سنة، كان خلالها أحد أقوى زعماء دول الشرق الأقصى، وألد أعداء الشيوعية. اغتاله مدير وكالة الاستخبارات الكورية الجنوبية خلال حفل، وكان في سن الـ61. ابنته بارك غيون هي انتُخِبَت رئيسة عام 2013. وحكمت لأربع سنوات قبل إدانتها بالفساد وعزلها.
* تشون دوو هوان (1980 - 1988): جنرال آخر قاد كوريا الجنوبية - مثل بارك - في فترة نهضة اقتصادية وصناعية، وكذلك فترة قمع واسع النطاق ضد المعارضة السياسية. حكم البلاد لمدة ثماني سنوات بين الانقلاب العسكري الذي قاده وتخليه عن السلطة، واتهم بارتكاب كثير من التجاوزات وعمليات القمع.
* نوه تاي وو (1988 - 1993): جنرال وزميل للرئيس تشون دوو هوان. حاول في المرحلة اللاحقة من مسيرته السياسية اعتماد المهادنة مع قوى المعارضة. وتمكن من الفوز بالرئاسة في انتخابات تجمعت خلال القوى المحافظة خلفه، أمام انقسام أصوات المعارضة بين زعيمي بارزين، ولي كل منهما لاحقاً الرئاسة.
* كيم يونغ سام (1993 - 1998): زعيم سياسي كوري إصلاحي وديمقراطي عارض بعناد الديكتاتوريات العسكرية طيلة 30 سنة. دخل البرلمان نائباً عن حزب الرئيس الأول سينغ مان ري، غير أنه انشق عنه بعدما بدأ ينحرف نحو التسلط. ومن ثم صار من قادة المعارضة الديمقراطية.
* كيم داي جونغ (1998 - 2003): أبرز زعماء المعارضة الديمقراطية وأعندهم وأشدهم راديكالية في مقارعة الحكم العسكري. تعرّض للسجن وحُكِم عليه بالإعدام عام 1980. تولى الرئاسة بعد فترة حكم كيم يونغ سام. حائز جائزة نوبل عام 2000. أول كاثوليكي يتولى رئاسة كوريا.
* نوه موو هيون (2003 - 2008): رئيس إصلاحي وتقدمي. وناشط حقوقي من أجل الحقوق المدنية والحريات العامة. توفي منتحراً بعد سنة من مغادرته منصبه.
* بارك غيون هي (2013 - 2017): أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية. ابنة الرئيس الديكتاتور بارك تشونغ هي. انتخب رئيسة للجمهورية عن أبرز أحزاب التيار المحافظ. ولكن بعد بضع سنوات وُجّهت إليها تهم فساد ومحاباة لصديقة لها. وبعد إدانتها عزلت من منصبها وحكم عليها بالسجن.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.