يعتبر الجدل الحالي في ألمانيا حول الجيش مثالاً لتأثيرات السياسة الخارجية والداخلية في تطور الجيش الألماني منذ الحرب العالمية الثانية. وإذ تفرض الظروف الداخلية الحالية، والمعني هو تسلل التنظيمات المتطرفة إلى الجيش، فإن التحول من التجنيد الإلزامي إلى الجيش المحترف سنة 2011 سببه التحول من جيش كبير لحماية الوطن إلى جيش صغير، ومدرب جيداً، ومستعد للمهمات العسكرية الخارجية في إطار مهمات المنظمة الدولية وحلف شمال الأطلسي.
وأعلنت الحكومة الألمانية آنذاك، بقيادة الاشتراكي غيرهارد شرودر، عن «كتاب أبيض» يقود عملية تقليص حجم الجيش، وتقليص عدد القواعد والمواقع، وتحويل الجيش الألماني إلى وحدات مدربة وسريعة الحركة. وكان وزير الدفاع الألماني بيتر شتروك قد أعلن عن خطة لتقليص عدد أفراد الجيش إلى النصف حتى عام 2009، والتخلي عن نصف القواعد العسكرية في ألمانيا، وإلغاء 11 فرقة خاصة بحماية الوطن من مجموع 27 فرقة تم تأسيسها في السبعينات. والهدف طبعاً هو تحويل الجيش الكبير المترهل إلى جيش رشيق للتدخل السريع في مختلف بقاع العالم.
ومن يتابع التغييرات التي طرأت على الجيش الألماني خلال الـ62 سنة الماضية، التي أعقبت تأسيسه في سنة 1955، يلاحظ علاقة هذه التغيرات بالتطورات السياسية الدولية.
إذ تم حل الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الثانية وفق اتفاق القوى التي انتصرت في الحرب. وحرمت اتفاقية بوتسدام ألمانيا من بناء جيشها، ومن إرساله إلى الخارج، ومن حيازة الأسلحة الذرية.
إلا أن الحلفاء، عدا الاتحاد السوفياتي، ومع اندلاع الحرب الباردة، أدركوا بعد سنوات قليلة حاجتهم لألمانيا الغربية كحجر أساس في مواجهة المعسكر الشرقي، وخصوصاً في وجه ألمانيا الشرقية. وهكذا اضطر الحلفاء، مع تأسيس حلف الناتو سنة 1955، إلى قبول ألمانيا الغربية في عضوية الناتو، والسماح لها بإعادة بناء جيشها من جديد.
وقررت الحكومة الألمانية آنذاك تأسيس الجيش على أساس التجنيد الإلزامي في محاولة لطرد فكرة «القوة العسكرية» التي روجها لها أدولف هتلر وحولت الجيش من مؤسسة وطنية إلى جيش عدواني. وتحولت ألمانيا من جديد إلى قوة عسكرية، مجردة من الأسلحة النووية، في السبعينات من القرن العشرين. ولعب «القرار المزدوج» للناتو دوراً في ذلك سنة 1979 لأنه أقر نشر الصواريخ الباليستية المزودة بالرؤوس النووية في أوروبا. وسمي بالقرار المزدوج لأنه أكد في نفس الوقت على مواصلة الحوار مع الكتلة الشرقية (حلف وارسو) حول تحديد نشر الأسلحة النووية. وبعد انهيار جدار برلين، وإعادة توحيد ألمانيا، سنة 1991 اتفق حلفاء الحرب العالمية الثانية على حل جيش ألمانيا الشرقية خشية من تضخم الجيش الألماني. وتم الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي على تحديد الجيش الألماني بـ370 ألفاً وضم «الصفوة» من الجيش الألماني الشرقي إلى الجيش الموحد.
وفي سنة 1994. وفي توقيت مريب مع زيارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون إلى برلين، أعلنت محكمة الدستور الاتحادية عدم تعارض إنزال الجيش الألماني في العمليات السلمية للأمم المتحدة والناتو مع فقرات الدستور. واعتمدت المحكمة في قرارها على فقرات أخرى في الدستور تتيح تقديم المساعدات الإنسانية للدول المنكوبة بالحروب والكوارث. وهكذا تم تحرير الجيش الألماني من قيوده بشكل نهائي.
إلا أن هذه التغييرات الأساسية في تركيبة الجيش ومهامه تواجه صعوبات أخرى. وأعربت غالبية الألمان في استطلاع للرأي عن اعتقادهم بأن وزيرة دفاعهم أورسولا فون دير لاين تتحمل أيضاً جزءا من المسؤولية في فضيحة الجيش الألماني المتعلقة بالجندي فرانكو إ. المشتبه في صلته بالإرهاب. وأظهر الاستطلاع الذي نشرت نتائجه الأربعاء الماضي أن 52 في المائة من الألمان يرون أن فون دير لاين لم تتصد على نحو كاف لمشكلات القيادة والمواقف المتطرفة داخل الجيش. وفي المقابل، ذكر 45 في المائة من الذين شملهم الاستطلاع أن الجيش الألماني يعاني من مشكلة رئيسية مع اليمين المتطرف. كما أعربت نسبة مماثلة عن تأييدها لإعادة تطبيق التجنيد الإلزامي المنتهي تطبيقه منذ عام 2011. ويرى 34 في المائة من الألمان أن التجنيد الإلزامي وسيلة مناسبة للحد من النشاطات المتطرفة داخل الجيش. أجرى الاستطلاع معهد «يوجوف» خلال الفترة من 5 مايو (أيار) الجاري.
وتمس نتائج هذه الاستفتاء عصبين حساسين في موضوع الجيش الألماني الذي يحتدم الجدل حوله في ألمانيا. فهي تكشف مسؤولية وزيرة الدفاع اورسولا فون دير لاين في «فضيحة» الخلية النازية التي تم الكشف عنها في الجيش، والتي خططت لعمليات اغتيال تطال رئيس الجمهورية السابق ووزير العدل. كما أنها تكشف العلاقة بين ضعف حصانة الجيش المحترف ضد التطرف بالمقارنة من نموذج التجنيد الإلزامي السابق.
ومعروف أن المعارضة البرلمانية، يدعمها نواب الحزب الديمقراطي الاشتراكي، طالبوا فون دير لاين بتحمل المسؤولية الشخصية عن الفضيحة، وطالب بعضهم باستقالتها. كما هب النواب المعارضون في جوقة واحدة، وبينهم الكثير من نواب الحزب الديمقراطي المسيحي، للمطالبة بالعودة السريعة عن قانون الجيش المحترف وإدارة دفة الأساطيل الألمانية باتجاه التجنيد الإلزامي.
وكان رد الوزيرة المحافظة على هذه المطالبات، ودفاعاً عن موقعها السياسي، أنها تقدمت بمشروع إصلاحي شامل للجيش. وعرضت فون دير لاين، أمام لجنة الشؤون العسكرية في البرلمان الألماني، تصوراتها حول أفضل السبل لإصلاح «القيادة والقيم» في المؤسسة العسكرية. وتحدثت الوزيرة عن إصلاح شامل يمتد من المتطوع الجديد إلى الجنرال.
أكدت الوزيرة على «الإدارة والقيم» في الجيش باعتبارها الحجر الأساس في «كاتالوغ» إصلاح المؤسسة العسكرية. ووعدت بتقييم عميق لحياة ونشاط المتقدمين للانضواء تحت راية الجيش قبل قبولهم. وأشارت إلى تغييرات جذرية في برامج إعداد وتدريب وتدريس المتطوعين إلى المؤسسة العسكرية.
وعبرت فون دير لاين عن رفضها العودة إلى الجيش الإلزامي بقولها إنه لا يمكن رمي كل شيء من على ظهر السفينة مع قدوم أول عاصفة. وقالت إن خيارها عبارة عن طريق طويل ووعر، لكنه هو الطريق الصحيح. وتلقت الوزيرة دعماً مباشرا من المستشارة أنجيلا ميركل التي قالت إن العودة إلى التجنيد الإلزامي لا لزوم لها. وأضافت المستشارة أن ما يحتاجه الجيش هو «الموثوقية» في تطوره، وأن تعزيز الثقة داخل الجيش يتم عبر الإصلاح.
وكانت عمليات 11 سبتمبر (أيلول)، والحرب على الإرهاب التي تلتها، سبباً أساسيا في إصلاح الجيش الألماني في السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين. وقررت الحكومة الألمانية سنة 2004 اعتماد استراتيجية جديدة لمواجهة الكوارث القومية الناجمة عن الكوارث الطبيعية والعمليات الإرهابية. وتعتمد الاستراتيجية الجديدة على تعزيز إنزال الجيش لحماية الأهداف المدنية، وعلى مبدأ التخلي عن معسكرات وقواعد الجيش التقليدية مقابل نشر مقرات الفرق العسكرية المختصة بالتنسيق مع السلطات المدنية في الولايات والمدن والأقضية.
وأعلن هانز هاينريش ديتر، نائب المفتش العام في القوات المسلحة الألمانية آنذاك، أن الجيش الألماني أقام فرقة عسكرية، يتبع لها 50 مقراً آخر، في كل ولاية من الولايات الألمانية الـ16، إضافة إلى مراكز في كافة المدن والأقضية الألمانية، يقودها ضباط من مستوى رفيع، مهمتها التنسيق مع السلطات المدنية في مواجهة الكوارث المحتملة والممتدة بين الكوارث الطبيعية والكوارث الناجمة عن العمليات الإرهابية.
وأنشأت وزارة الدفاع 12 «معقلا» على مستوى الاتحاد مختصاً بمواجهة الكوارث القومية ومجهزة بالأجهزة والمعدات الخاصة بالتصدي للكوارث. وهناك معقلان من هذه المعاقل متخصصان في مواجهة الهجمات بأسلحة الدمار الشامل أو الكوارث الناجمة عن الأعمال التخريبية ضد المفاعلات النووية.
وتطلب الأمر سنوات من الخلاف مع محكمة الدستور الاتحادية، وفي ضوء التغيرات الداخلية والدولية (الإرهاب)، من أجل السماح بإنزال الجيش إلى المدن لمساعدة قوى الأمن الداخلية عند حصول عمليات إرهابية ذات عواقب كارثية. وهو قرار اتخذته الحكومة قبل بضعة أشهر، لكنه تخطى القيود الدستورية بأن وضع قيادة الجيش تحت إمرة الشرطة أثناء التصدي لهذه المهمات.
جدير بالذكر أن قبول الإناث في الجيش الألماني سنة 2001 حدث أيضاً بالعلاقة مع التطورات على صعيد الاتحاد الأوروبي. إذ كان الجيش الألماني يرفض قبول النساء في صفوفه، لكن المحكمة الأوروبية أجبرت ألمانيا على ذلك بعد أن وجدت في موقف الجيش الألماني تعارضاً مع قوانين الاتحاد الأوروبي. وتشير وزارة الدفاع الألمانية اليوم إلى 3200 عسكري ألماني ينتشرون في أفغانستان وكوسوفو وجنوب السودان ولبنان ومالي ومنطقة البحر المتوسط وكردستان العراق.
التحولات الخارجية والداخلية تعكس نفسها على مهام الجيش الألماني
الجدل الشعبي والسياسي يتناول خروقات المتطرفين ودوره «الاحترافي» و«التجنيد الإلزامي»
التحولات الخارجية والداخلية تعكس نفسها على مهام الجيش الألماني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة