من سينما الاحتمالات الممكنة إلى سينما الحال الواقع

تيارات تتناوب.. والبارانويا مازالت مهمة

ردفورد وهوفمن في «كل رجال الرئيس»
ردفورد وهوفمن في «كل رجال الرئيس»
TT

من سينما الاحتمالات الممكنة إلى سينما الحال الواقع

ردفورد وهوفمن في «كل رجال الرئيس»
ردفورد وهوفمن في «كل رجال الرئيس»

تبث الأفلام البوليسية والتشويقية (أحدثها «الدائرة» الذي خرج للعروض قبل أسبوعين) قدراً كبيراً من الخوف حتى وإن لم تكن أفلام رعب. وكتاب راي برات المعنون «عرض البارانويا: الرؤى التآمرية في الفيلم الأميركي»، الصادر قبل أكثر من عشر سنوات وضع النقاط على الحروف في هذا الموضوع، متناولا، في نحو 330 صفحة، كيف أن الخوف من المجهول ومن عواقب أمور قد لا تقع بالضرورة، لكنها تؤخذ بحسبان أكبر من الواقع، ترك تأثيره في الثقافة الأميركية على نحو متزايد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم.
وهذا الربط بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبين الأفلام التي تناولت نظرية المؤامرات ومنتجات حالة الخوف من خطر محدق، سواء أكان تعبيراً عن خطر حقيقي أم لا، قاد المؤلّـف، والكثير من الأبحاث التي سبقته وتلته، إلى طرح الموضوع السياسي الذي يظلل هذه الإنتاجات الهوليوودية من ذلك الحين إلى اليوم.
هناك أفلام تتناول تشويقاً نفسياً، لكنها ليست ذاتها الأفلام التي تستخدم عنصر البارانويا في بث الأفكار التي تقترح أن ما يتبدّى على السطح ليس ما يحدث في العمق، وأن من تعرفه ليس تماماً من هو في حقيقته، أو أن الجهة التي من المفترض بها توفير الحماية لك ليست سوى تلك التي تكنّ لك المكيدة، أو تسعى إلى تقويضك. وهذا ما يدور عنه «الدائرة» لجيمس بونسولد تحديداً.
لا حصر ممكناً، في هذا المجال، للأفلام البارانويا والمؤامرات، لكن من السهل - والضروري - البحث عن أفلام كانت بمثابة البدايات كسينما ما يعرف بـ«الفيلم نوار». هذا النوع القائم بذاته انتشر طوال الأربعينات، واستمر حتى النصف الثاني من الخمسينات، تحدّث في الواقع عن أشخاص ومؤسسات تختلف عن النظام السائد والأكثر وضوحاً. الأبطال هم عادة رجال إما يقفون على الخط الرفيع الفاصل بين القانون والخروج عنه («النوم الكبير» لهوارد هوكس: «يحيون ليلاً» لنيكولاس راي و«خارج من الأمس» لجاك تورنير) أو هم سقطوا غصباً عن رغبتهم («القتل» لستانلي كوبريك: «مجانين مسدسات» لجوزف لويس و«استدارة» لإدغار إلمر).
‫في «حرارة كبيرة» لفريتز لانغ كان على بطله (غلين فورد) أن يترك عمله الرسمي كتحري إذا ما أراد مواجهة الأشرار والفساد السياسي. لذلك؛ أفلام النوار هذه قلما تتحدّث عن تحريين منتميين إلى المؤسسة، بل تتناول «التحريين الخاصين» (Private Detectives) الذين يجدون أنفسهم، عادة، يحاربون المجرمين ورجال القانون على حد سواء.‬
* منتصف السبعينات
الخوف من الخطر الأحمر ساد الخمسينات والستينات، وهذه بدورها كانت أفلام بارانويا بامتياز. ليس لأن الخطر لم يكن محتملاً (عبر يساريي هوليوود والنقابات المختلفة)، بل لأن الطرح تجاوز المعقول ليبحث في الاحتمالات البعيدة عن الواقع. «غزاة ناهشو الجسد» لدون سيغال (1956) طرح أن الغزو سيتم من دون تغيير ملحوظ: نباتات يتم زرعها عن طريق المطر في الأرض تنبت سريعاً وتتحوّل إلى شرانق تتسلل إلى حيث يرقد الأميركيون النائمون، وتستولي على شخصياتهم. حين يستيقظون يتصرّفون جميعاً كرجل واحد. مجتمع «توتاليتارياني» كامل كذاك الذي في البلاد الشيوعية.
لكن مع اقتراب الستينات من منتصفها تغيّرت الجهة التي تسير فيها الرياح. حرب فيتنام كشفت لهوليوود ومخرجيها عن أن العدو على نوعين: واحد في البلاد البعيدة، وآخر في الداخل. والسبعينات هي الفترة التي وجدنا هوليوود فيها تعتمد، على نحو ملحوظ، على تلك الحبكات التي تبحث في نظرية المؤامرة.
إنها موجودة في «ثلاثة أيام من الكوندور» (إخراج سيدني بولاك، 1975) على نحو بيّـن: المخابرات الأميركية تستأجر قتلة للتخلص من موظفين تابعين لها لطمس معلومات قاموا بتحليلها. الناجي الوحيد (روبرت ردفود) يجد أن عليه في نهاية المطاف التهديد بكشف المخابرات إذا لم تتوقف عن مطاردته. بعد عام واحد، قام المخرج ألان ج. باكولا بتحقيق فيلم «كل رجال الرئيس» المأخوذ عن كتاب بوب وودوورد وكارل برنستين الذي قام ببطولته روبرت ردفورد ودستين هوفمن.
كلا هذين الفيلمين تمحور حول فضيحة ووترغيت أو تم بسببها. «ثلاثة أيام من الكوندور» استوحى عالمه من فترة حكم نيكسون التي انتهت بتلك الفضيحة التجسسية الداخلية، و«كل رجال الرئيس» دار عنها. ومن المفيد هنا ملاحظة أن فيلم بولاك اعتمد التشويق القائم على الحركة، بينما صاغ الفيلم الآخر تشويقه بمداد من تأليف الأجواء الغامضة، حيث يبقى الخطر الماثل خفياً.
لكن ألان ج. باكولا كانت لديه سابقة مهمّـة جداً تتعلق بالعدو الخفي الذي يجب على الأميركيين مواجهته. في سنة 1974 أخرج فيلماً تشويقياً رائعاً من بطولة وورن بيتي بعنوان «المنظر الموازي» The Parallax View حول الصحافي الذي يكتشف مؤامرة داخلية ينتج منها مقتل عدد من القضاة ورجال الكونغرس. سريعاً ما يصبح هو تحت تهديد القتل بدوره.
وفي العام نفسه، أنجز فرنسيس فورد كوبولا إسهامه في هذه الدائرة من الأفلام عندما قدّم «المحادثة» حول رجل يعمل في مؤسسة حكومية مهمتها التنصت على المواطنين. المهمّـة الأخيرة المسنودة إليه تنتهي بجريمة قتل؛ ما يجعله يشعر بأنه ساهم في تمكين المؤسسة من تنفيذ جريمتها. حين يعود إلى البيت، وقد انهارت نظرته إلى نفسه والعالم المحيط، يسوده الإيمان بأن المؤسسة تتجسس عليه بدوره.
بعده بعامين، أدلى المخرج البريطاني جون شليسنجر بدلوه في هذا الموضوع، ولو أن الاتجاه في النهاية يصب في موضوع التنقيب عن النازيين الذين أفلتوا من العقاب. دستين هوفمن هو الآتي ذكره في عنوان الفيلم: «رجل الماراثون». شقيقه (روي شايدر) يُـقتل خلال تحقيقه عن مؤامرة تتضمن التجارة الممنوعة بالذهب والماس. بعد حين يكتشف أن الجناة لهم علاقة وثيقة بنازيين «باتوا يعيشون الآن بيننا» يمثلهم لورنس أوليفييه الذي يختطف هوفمن ويجري له عملية خلع ضرس سليم من دون مخدر.
من سوء الحظ أن السينما الأميركية، التي تطلق تياراتها على نحو متناوب متصل بالأحداث السياسية وطروحاتها، تخلّـت عن الأفلام التي تبحث في نظرية المؤامرات التي أثمرت عن هذه الأفلام وسواها حتى الثمانينات، لتتبنى منذ عقدين نوعاً آخر من الأفلام التي تتمحور حول الخطر المحدق بنا، وهي الأفلام المتعاملة مع مسلسلات السوبر هيرو والقوى الخارقة الأخرى الذين يدافعون عن أميركا وعن العالم بأسره ضد قوى توازيها في القدرات.
وبينما تحدثت أفلام البارانويا والمؤامرات عن احتمالات منسوجة من وقائع، قفزت أفلام اليوم إلى إثبات الاحتمالات متخلية عن الإيحاء وعن الطروحات السياسية والفن الكامن في طريقة طرحها. إنها مثل شخص لم يرض بالنظر إلى المائدة العامرة أمامه وقرر أن يقفز فوقها ويدوس على ما فيها من أطباق.
ما تطرحه أفلام اليوم هو استباق لكل الاحتمالات. عوض القول: إن هذا قد يحدث، فإن «المنتقمون» و«فلاش غوردون» و«حراس المجرّة» يؤكدون أنه حدث ويحدث. وبذلك يستبدلون الخوف الذي كانت أفلام الأمس تثيره وتبني عليه صرح السينما المشاركة في حياتنا الاجتماعية والسياسية، باتت مجرد استعراضات تقع فعلاً في عالم آخر لا علاقة له بنا.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.