تيد هيوز... الشاعر أم الوحش؟https://aawsat.com/home/article/903221/%D8%AA%D9%8A%D8%AF-%D9%87%D9%8A%D9%88%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%B4%D8%9F
هناك في التاريخ الأدبي، كما في غيره، ما يمكن أن نسميه أساطير أدبية تكونت نتيجة ظروف معينة، يختلط فيها الشخصي والأدبي، وقد يطغى الأول على الثاني غالباً، أو يزيحه إلى حد كبير. ولعل الموت المأساوي المبكر لشخصية أدبية وفنية، خاصة إذا كانت ضحية، يلعب لعبته هنا، كما حصل مع الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت ببريطانيا من خلال دراستها وإقامتها، والأهم زواجها من الشاعر البريطاني الشهير تيد هيوز، ومن هنا بدأت أسطورتها الخاصة، التي لا تزال تكبر وتكبر. منذ انتحارها المفجع في فرن غاز عام 1963، لا تكف سيلفيا بلاث عن الحضور، ويعاد إنتاج قصتها من جديد. كل تفاصيل هذه القصة الاستثنائية صارت معروفة، وكنا نتصور أنها انتهت بعدما استهلكت طويلاً، خاصة مع موت تيد هيوز، شريك بلاث الآخر في صناعة الأسطورة. ومن المعروف أيضاً، أن الرجل شبع اتهاماً بأنه وراء انتحارها بخيانته لها مع صديقتهما المشتركة آسيا ويفل، التي انتحرت هي أيضاً بعد 6 سنوات من انتحار بلاث، وبشكل أكثر مأساوية منها، إذ قتلت طفلتها أيضاً، طفلة هيوز. ماذا كان يفعل هيوز بنسائه؟ آخر فصل في هذه القصة - الأسطورة التي لا تريد أن تنتهي - رسائل من بلاث تم اكتشافها حديثاً، وخصصت لها صحيفة «الغارديان» البريطانية صفحة كاملة نشرت في الحادي عشر من هذا الشهر. وهي 9 رسائل كانت بلاث قد بعثتها إلى الدكتور راوث بانهاوس، أول من عالجها في الولايات المتحدة بعد محاولتها الانتحار للمرة الأولى عام 1953. وهذه هي الوثائق الوحيدة التي تروي ما جرى في الشهور الأخيرة من حياة الشاعرة. وكان هيوز قد مزق دفتر يومياتها بعد انتحارها؛ مبرراً ذلك بقوله: «لقد مزقته، أو مزقت أجزاء منه لأنني لم أرد لأولادي أن يقرأوه». لكن أين الأجزاء غير الممزقة؟ لا أحد يدري. وتتحدث بلاث في هذه الرسائل عن العنف الجسدي الذي كان يمارسه هيوز ضدها، قبل وقت قصير من إجهاض ابنهما الثاني عام 1961، الحدث الذي أشارت إليه بلاث في بعض قصائدها، كما ذكرت في رسالة لها أن هيوز قال لها إنه «يريدها ميتة». هل كان هيوز وحشاً حقاً؟ من المعروف، أنه صمت تماماً منذ انتحار بلاث، ولم يرد على الاتهامات المنصبة عليه وخاصة من المنظمات النسوية بكونه السبب الأساسي وراء ذلك الانتحار، الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن... لم يقل شيئاً، ما عدا مرات قليلة كان يصحح فيها هذه المعلومة أو تلك. قضى وقته متوحداً مع الطبيعة، بشكل شبه صوفي، كما كان دائماً، وخاصة منذ مجموعته «غراب»، التي أطلقت شهرته. لكنه فاجأ الجميع عام 1998 في الذكرى الخامسة والثلاثين لانتحار بلاث، وقبل أشهر قليلة من موته، بمجموعته «رسائل عيد الميلاد» التي كرسها لها. غطت هذه المجموعة، التي ضمت 88 قصيدة تقطر حزناً وحباً ورقة، على قصتهما الحزينة، ولو لحين، واكتشف الناس في سطورها أي حب كبير كان يكنه الرجل لتلك المرأة التي اختارت له حتى اسمه الأدبي، تيد. لكن جاء كشف الرسائل التسع ليعيد القصة لبدايتها الأولى، وليعيد الأسئلة ذاتها. هل كان هيوز، وهو واحد من أهم الشعراء البريطانيين في القرن العشرين، وشاعر البلاط من 1984 حتى وفاته عام 1998، وحشاً حقاً؟ هل يمكن أن يكون شاعر مثله، أو أي شاعر، وحشاً؟ أما تُرانا، مرة أخرى، أمام ذلك الانفصام المريع، الذي يمتلئ به التاريخ الأدبي، بين الإنسان والمبدع؟ هل نصدق هيوز الشاعر، أم هيوز الإنسان؟
كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.
سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.
لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.
ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.
ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.
لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.
الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟
قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته
اللقاء الأخير
كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!