طرق أحد أقاربنا الباب بقوة، صارخاً: «الحق يا جِد، الواد حلب النخلة». الساعة تجاوزت منتصف الليل، وجميعنا ننام مبكرا خصوصا جدي الذي يصحو عادة قُبيل الفجر ليصلي بأهل القرية إماماً.
جسد الشاب القصير النحيل ذي الشعر المجعد، لم يزل معلقاً على النخلة حين ركض جدي ونحن وراءه صغارا وكبارا خوفا من أن يكون الأمر أكبر من مجرد «سرقة بلح» فالصعيد في تلك الفترة وفي بعض أوقات السنة لا يكون آمنا تماما بسبب مسألة «الثأر». كان قريبنا عائدا من سقاية أرضه مارا بحديقتنا، فسمع خشخشة بين السعف وصوت البلح يقع في القفص، فقرر الانتقام من الشاب، خاصة أنها ليست المرة الوحيدة، فمن قبل تم ضبطه وهو يسرق العنب وقد عبأ منه أربعة أقفاص كبيرة، وكانت «عنباية» جدي معروفة بحلاوتها وكثافة إنتاجها، وبسبب بكاء أمه، غفر له جدي وأعطاه ما سرق، وحين اعترضنا وأردنا أن يترك لنا العنب ويمشي إلى حال سبيله، قال جدي: «خلاص طالما عينه راحت للعنب خليه يا خده».
ضرب أحد أعمامي «عياراً» في الهواء ليهدد الولد المتشبث بـ«جريد النخلة» حتى ينزل على الأرض، سمعت أمه صوت الطلقة، فأتت تجري كأنها تعلم بأمر ابنها. حاولت التوسل لجدي لكننا صممنا على العقاب وإبلاغ «النقطة»، قال عمي: «لو فلتناه مرة تانية، يمكن يقول دي نخلتنا وزرعناها في أرض فرغلي!». لكن مرة أخرى يصر جدي بشدة على أن يجعله وأمه يحملان البلح على رأسهما ويرجعان إلى البيت. كان جدي صوفياً حكيماً ذا هيبة وكلمة مسموعة يُرجع إليه في كبرى قضايا القرية والحكم بين الناس، قال: «اللي ما ترجعهش الرباية، وما يرجعش حتى إن قطعت إيده، يكفيه إنه شايل فضيحته على راسه وماشي والناس عارفين». كنتُ طفلة وقتذاك لكن الواقعة علقت بذاكرتي، أعجبني عقاب جدي لهما، فليس دائما ينصفنا القانون!
اليوم قررت أن أفعل مثل عمي وأضرب «عياراً» في الهواء وأتأسى بجدي ضد من سرق نصوصي ومقالاتي، وكل سارق لنصوص غيري أيضاً. أتناول مشكلة منتشرة قد لا يجدي معها فضح الأسماء بقدر جدوى مناقشتها على أساس سيكولوجي، يوضح لنا شخصية «حرامي الأدب» وتكوينه النفسي. تلك المشكلة التي أشار إليها النقاد والعلماء منذ أرسطو، التي ربما لا أستطيع أن ألملم خيوطها في مقال، لكنه مجرد تنويه قد «يخزي عين» سُرّاق أفكار الآخرين.
لماذا يقع أشخاص في فخ سرقة غيرهم، خصوصا في هذا العصر الذي أصبح مفتوحاً لدرجة يتعذر معها أن يهرب السارق بسرقته من دون أن يعلم أحد وتتحول إلى فضيحة سرية أو علنية؟!
هل السارق لجهد غيره، هو، دائما، شخص فارغ فكرياً وخال من الموهبة؟ أم أن للموضوع بُعدا نفسيا حتى ولو كان على قدر من الإبداع أو المكانة العلمية؟ كما نعلم، لم يسلم من السرقات الأدبية حتى كبار المبدعين، منذ العصور القديمة إلى الآن، في كل مجالات الإبداع. فهي كما وصفها القاضي الجرجاني: «داء قديم وعيب عتيق». ومن أشهر وأقدم القضايا الجدلية في هذا الجانب، ما دار حول أصالة قصة «روميو وجوليت» لشكسبير، ما دعا البعض إلى القول، إن شكسبير لم يكن مبدعاً لها وإنما مبتدعاً. وفي مجال الشعر، توجد نقاشات طويلة ورؤى نقدية متكررة حول السرقات الشعرية منذ قرون.
وبغض النظر عن كون من يقوم بالسرقة موهوباً أم عديم الموهبة، فهو إنسان، والاضطراب النفسي هو العامل المشترك، خصوصا في حال تكرار السلوك، ومن دوافعه:
- وقوع «اللص الأدبي» في دائرة المرضى بهوس السرقة المعروفة علمياً باسم kleptomania، الذي يصيب نحو 0.3 في المائة إلى 0.6 في المائة من الناس. وهو سلوك اندفاعي منحرف، يشعر المريض معه، بدافع قهري للسرقة، مصحوبا بحالة قلق وصراع بين أن يفعل أو لا يفعل. ويقوم بفعل السرقة بوعي كامل للتخفيف من هذا التوتر والشعور بالرضا، وغالبا ما يشعر بالنشوة واللذة بعدها. وقد لاحظت من خلال خبرتي العلاجية، أن مرضى هوس السرقة، غالبا ما يكون لديهم اضطرابات أخرى، وبخاصة في سلوكهم المجتمعي والجنسي، مثل التحرش، أو الإدمان، أو الكذب، أو نوع آخر من السرقة أو الرشوة.
- تدني الثقة بالنفس، وعدم الإحساس بجدوى ما يمتلكه من قدرات أو مكانة أو أموال، (أو ربما افتقاد كل ذلك)، يولد لديه رغبة عنيفة في سرقتها من غيره لتكون ملكه، ظنا منه أنها تكسبه قيمة.
- إذا كان «الخوف من الرفض» هو الخوف الأول عند المرأة، فإن «الخوف من الفشل» أو عدم التحقق، هو الخوف الأكبر عند الرجل، وبالتالي السارق يريد تجاوز هذا الألم النفسي ليحقق نجاحاً وإن كان مسروقاً.
- ولا تخلو السرقة من العدوان النفسي على الشخص المسروق منه، وبالتالي سلبه بعض ما يمتلك.
- السرقة هنا تشير في المقام الأول، إلى سرقة الاهتمام والحب والاحتفاء الذي ربما يتصور الشخص أنه يفتقده، أو أن الآخر يحظى به أكثر منه.
- النرجسية وتضخم الذات، تجعل لدى صاحبها رغبة في امتلاك «كل» شيء؛ «كل السلطة»؛ «كل الأفكار»؛ «كل المال»؛ «كل الاهتمام»؛ «كل الكتب». ومن هنا، يستكثر على غيره امتلاك فكرة أو شيء هو عاجز عن إنتاجها، فيلجأ إلى سرقتها.
- لا يصدّق البعض أنه سارق. ومع مرور الوقت على الإعجاب بالشيء المسروق وانتمائه له، يصدق أنه مالكه فعلا، ويدافع عنه «بصدق وهمي» يشبه ضلالات المرض النفسي، حيث جرى خداع العقل من خلال معايشة فكرة الملكية.
ويعتمد لصوص الأدب على عدم وجود قانون صارم وحاسم للسرقات الأدبية، وعلى جهل معظم الناس بالمقارنة أو قراءة كل المكتوب. وربما يطبع السارق وينشر ما قام بسرقته قبل صاحبه الأصلي. فإلى أي معيار سوف يحتكم الضحية؟! وماذا لو كان اللص ذا منصب أو شهرة، يحتمي بأحدهما أو كليهما، مستغلا نزعة الناس نحو تقديس ذوي القوة والخوف من التجرؤ على مواجهتهم، بالإضافة إلى المصالح الخاصة والشللية التي تلعب دورا جوهريا في التستر وعدم الفضح.
غير أن لص النصوص والأفكار، غالبا ما يترك خلفه ما يؤدي إلى كشفه، كأن إحساسا ما بالذنب يؤرقه. لذلك، فهو يسرق حرفياً وهو يعلم أن أحدا في أيامنا هذه، لن يعدم اكتشاف سرقته. وربما يصب هذا، في مطالبته اللاشعورية بالعقاب. ومع ذلك، وعلى الرغم من العقاب الفاضح أحيانا، فإنه لا يكف عن هذا السلوك، وكأنه يدور بنفسه في دائرة مفرغة، بين السلوك القهري والشعور بالذنب الذي يعقبه.
* استشارية علاج نفسي
سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار
الاضطراب النفسي عامل مشترك بين من يقدمون عليها
سيكولوجية «حرامي الأدب» وسارق الأفكار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة