إذا كانت ثمة حاجة إلى إظهار أن جان لوك ميلونشون، مرشح ما يمكن وصفه بـ«فرنسا المتمردة»، أخذ يقض مضاجع المرشحين الثلاثة الأوائل مارين لوبان (اليمين المتطرف) وإيمانويل ماكرون (الوسط) وفرنسوا فيّون (اليمين التقليدي)، فهو تركيز الثلاثة، دفعة واحدة، على مهاجمته وتشبيهه برموز اليسار العالمي المتشدد تروتسكي وكاسترو وتشافيز، والتنديد ببرنامجه الانتخابي الذي سيعيد فرنسا سنوات إلى الوراء.
معظم الفرنسيين يتذكرون أن جان لوك ميلونشون، الخارج أساساً من حضن الحزب الاشتراكي قبل أن يهجره ويستدير استدارة إضافية نحو اليسار المتشدد، لديه برنامج معلن ومطبوع وموزع بمئات الآلاف من النسخ. ومن ثم، فإن هجاءه فحسب لا يكفي. وعليه لا بد من نسف الدينامية التي أطلقها، والتي جعلته يصل إلى المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي - بعد لوبان وماكرون، وقبل فيّون - يفترض تهشيم برنامجه وإيهام الناس بأن وصوله إلى رئاسة الجمهورية سيعني عودة الشيوعية ووصول الدبابات «السوفياتية» إلى أبواب باريس، وإعادة تأميم الشركات، وتشريع الأبواب أمام زحف اللاجئين والمهاجرين... وغير ذلك من الحجج السريالية التي لها غرض واحد: تخويف الناس ودفعهم للانفضاض عن هذا المرشح غير العادي.
المتحدي المغمور
قبل أقل من شهر، لم يكن أي من المرشحين الثلاثة مهتما بميلونشون أو شاعرا حتى بوجوده. لا بل إن بونوا هامون، مرشح الحزب الاشتراكي الذي يحكم فرنسا منذ خمس سنوات، ذهب إلى حد دعوة ميلونشون إلى الانسحاب من السباق لصالحه بغرض توحيد صفوف اليسار، وتمكينه من الوصول إلى الجولة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية. يومذاك كانت استطلاعات الرأي تعطي ميلونشون ما بين 10 و12 في المائة، بينما كانت شعبية هامون أعلى من ذلك بقليل. لكن الأمور تبدّلت جذرياً اليوم: فميلونشون يجاوز 20 في المائة مقابل دون الـ10 في المائة هامون. والواضح أن الأول امتص أصوات الثاني من الحزب الاشتراكي المنقسم على نفسه بين جناح ليبرالي التحق كثرة من أعلامه - وبينهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، ووزير الدفاع جان إيف لو دريان - بالمرشح ماكرون، وآخر يساري يفضل اللحاق بركب ميلونشون؛ لأنه «الأوفر حظاً» في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات.
حقيقة الأمر، أن ميلونشون اقترب كثيراً من دائرة الخطر. وبينما المرشحان الأولان، لوبان وماكرون، يتراجعان في استطلاعات الرأي، حاصلين على ما بين 22 و23 في المائة، ما زال ميلونشون ينتقل من مربع إلى مربع أعلى في تكرار لظاهرة المرشح اليساري للرئاسة الأميركية بيرني ساندرز. وخوف الطبقة السياسية الفرنسية اليوم أن يحافظ على وتيرة تقدمه بحيث ينجح في التأهل للجولة الثانية من الانتخابات التي ستجرى يوم 7 مايو (أيار) المقبل، وسيكون عندها المنافس النهائي لمارين لوبان.
السيناريو - الكابوس
هذا «السيناريو ــ الكابوس» بالنسبة للكثير من الفرنسيين، لم يكن أحد يتوقعه قبل أسابيع عدة. ميلونشون (المترشح للرئاسة للمرة الثانية؛ إذ كانت المرة الأولى عام 2012)، تحسنت صورته كثيرا لدى الفرنسيين، ويبدو، وفق استطلاعات الرأي، الأصدق، والأقرب إلى الناس، والأنظف كفاً في حمأة الفضائح التي تحاصر مرشح اليمين ومرشحة اليمين المتطرف. الكل يعترف بقدرته على الحديث إلى الناس وكسب اهتمامهم واتساع ثقافته. لكنه اليوم، أصبح يشكل تهديدا لليمين واليسار والوسط على السواء. وإذا استمر تراجع أسهم ماكرون خلال الفترة المتبقية حتى الجولة الأولى من الانتخابات في 23 الحالي، وبقي فيّون غارقا في فضائحه العائلية، فإن الطريق ستمهد أمام ميلونشون. وعندها ستدخل فرنسا في دائرة المجهول ومعها العملة الموحدة ومصير الاتحاد الأوروبي. ولذا؛ فإن نواقيس الخطر قرعت من كل جانب، بل إن الرئيس فرنسوا هولاند الذي أوصل الحزب الاشتراكي إلى حالة الانفجار حذّر من انتخاب ميلونشون من غير أن يسميه. إذ قال هولاند في حديث هذا الأسبوع لصحيفة «لو موند» إن «التبسيطات تستبطن الكثير من المخاطر؛ لأننا نشاهد الخطيب ونتناسى المضمون والبرامج» في إشارة إلى كون ميلونشون خطيباً مفوّهاً، وهي الخصلة التي يعترف بها خصومه قبل أصدقائه. وفي حين يشبه التعبير عن تفضيله المرشح ماكرون، الذي كان مساعد أمين عام قصر الإليزيه، قبل أن يعينه هولاند وزيرا للاقتصاد، أعلن الرئيس الفرنسي أن الحياة السياسية «في حاجة إلى التجديد» في تلميح واضح لعمر ماكرون البالغ 39 سنة فقط. من ناحية أخرى، معروف في فرنسا أن صحيفة «لو فيغارو»، التي يملكها صاحب شركة «داسو» لتصنيع الطائرات، تخصصت في مهاجمة خصوم فيّون والدفاع عن برنامجه الانتخابي. ويوم الأربعاء خصصت هذه الصحيفة اليمينية أربع صفحات لمهاجمة ميلونشون، وخوفها الأكبر أن ينجح في تجاوز فيّون... بل والتأهل للدورة الثانية. وجاء في افتتاحية الصحيفة قولها «من الآن فصاعدا أصبح ميلونشون أحد أصحاب الحظوظ في هذه الانتخابات. لكن المشكلة أنه أعد لنا برنامجاً انتخابياً مستوحى من ثوار أميركا الجنوبية، وتحديداً «الرفيق» الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز. وليس سرا أن مرشح «فرنسا المتمردة» يكنّ له إعجاباً منقطع النظير. وبرنامج الأخير ينص على زيادة في المصاريف العامة بمبلغ 270 مليار يورو وزيادة الضرائب بما يبلغ 120 مليار يورو، كما ينوي استلاب كل ما يكسبه المرء ويتخطى الـ400 ألف يورو سنوياً، ناهيك عن زيادة أسبوع إضافي للفرصة السنوية لتصبح ستة أسابيع وخفض ساعات العمل... كل ذلك سيصيب الاقتصاد الوطني في الصميم، ومنذ الآن بدأت الأسواق المالية تبدي قلقها، في حين سعر الفائدة على الديون الفرنسية أخذت بالارتفاع».
برنامج اقتصادي راديكالي
وحقاً، يأخذ اليمين على ميلونشون أن برنامجه الاقتصادي ــ الاجتماعي «مستحيل التطبيق». ويصفه فيّون بأنه «برنامج لحكم شيوعي»، وأن الاقتصاد الفرنسي سيغرق معه كما غرقت سفينة «تايتانيك ». أما بخصوص سياسة الهجرة، فإنه «من أنصارها بالمطلق». ويتوافق حكم فيّون مع ما يقوله رئيس هيئة أرباب العمل الفرنسية الذي يحذر من وصول ميلونشون، ومن «الانهيار» الذي يرون أنه سيصيب الاقتصاد الفرنسي، والارتفاع المجنون لأرقام البطالة والكساد، ناهيك عن المخاطر المترتبة على خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي وتخليها عن العملة الموحّدة. ويركز ماكرون هجومه على منافسه اليساري المتشدد الذي يصفه بـ«الثوري الشيوعي».
من جهة ثانية، بما أن ميلونشون يقدم نفسه بأنه «مرشح السلام»، فإن رد ماكرون هو أنه يرفض «سلام بوتين» الرئيس الروسي الذي يدافع الأول عن سياسته، بما فيها سياسته السورية. ولم يتأخر ميلونشون في الرد على منتقديه، فقال خلال مهرجان انتخابي مساء الأربعاء «إذا انتخبتم أحد هؤلاء الثلاثة (لوبان وماكرون وفيّون) فإنكم ستنزفون دماً». وأعاد فيّون لمحصلة ترؤسه الحكومة الفرنسية طيلة خمس سنوات (بين 2007 ــ 2012) ليقول له وعنه إن أرقام البطالة زادت في أيامه مليونا، والدين العام ارتفع إلى 600 مليار يورو. أما عن ماكرون فيقول ميلونشون إن البطالة خلال وجوده في وزارة الاقتصاد بلغت أرقاما قياسية؛ إذ وصلت إلى 6.6 مليون شخص. كذلك هاجمه على «خيانته» للرئيس هولاند «الذي صنعه»، وذكره بأنه تخلى عن بطاقة الحزب الاشتراكي ليذهب إلى بنك روتشيلد للاستثمار الشهير.
الجولة الأولى
بعد بضعة أيام، يستدعى الـ47 مليون ناخب فرنسي إلى صناديق الاقتراع في الجولة الأولى التي ستحمل في دورتها الثانية في السابع من مايو المقبل الرئيس الثامن إلى قصر الإليزيه. ويجمع المراقبون والمحللون السياسيون في فرنسا على أن هذه الانتخابات لا تشبه أياً من الانتخابات الرئاسية السابقة التي جرت منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» عام 1958. فمن جهة، يبدو بوضوح أن الحزبين الرئيسيين اللذين تناوبا على حكم البلاد منذ نحو ستين سنة سيكونان على الأرجح غائبَين عن الجولة الثانية. ومن جهة ثانية، يبدو اليمين المتطرف ممثلا بمرشحته مارين لوبان، التي ترأس «الجبهة الوطنية» في وضع يؤهلها لاحتلال المرتبة الأولى يوم الأحد 27 أبريل (نيسان) الحالي. وهذه المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية التي يقترب فيها اليمين المتطرف واليسار المتشدّد من مقاعد السلطة، متخطين بذلك الحزبين «التقليديين»، أي حزب «الجمهوريون» (اليميني الكلاسيكي مع بعض مجموعات الوسط) والحزب الاشتراكي (مع الراديكاليين ويسار الوسط). ومن جهة ثالثة، تعرف فرنسا ظاهرة المرشح إيمانويل ماكرون، الذي ينافس لوبان على المركز الأول. وليس لماكرون قاعدة حزب يقف وراءها، بل إنه أسس الصيف الماضي حركة سياسية سماها «إلى الأمام». ويريد ماكرون أن يتخطى اليمين واليسار معاً. لكن مشكلته أنه في حال انتخابه رئيسا، قد لا تتوافر له أكثرية نيابية تدعم عمله التشريعي والتنفيذي في البرلمان، وتكفل الاستقرار السياسي في البلاد. وهذه المشكلة ستطرح أيضاً في حال فوز لوبان أو ميلونشون. لذا؛ فإن فيّون يحاول تسويق فكرة أنه «الوحيد» من بين المرشحين الأربعة قادر على توفير الاستقرار وقيادة البلاد دون هزات سياسية متلاحقة.
بطاقة هوية
يبقى السؤال الذي يجب أن يطرح: ما سر صاحب نظرية «الجمهورية السادسة» وسر ديناميته وقدرته على اجتذاب شرائح مجتمعية كثيرة وأولها الشباب؟ لا تبرز قراءة سيرة حياة ميلونشون «مفاجآت»: فالرجل المولود في مدينة طنجة، بشمال المغرب لعائلة ذات أصول إسبانية، عام 1951، ودرس في جامعة الفرانش – كومتيه بمدينة بيزانسون (شرقي فرنسا) ومارس التعليم. وسياسيا، انتمى للحزب الاشتراكي طيلة 30 سنة قبل أن ينفصل عنه في العام 2008 ويؤسس «حزب اليسار». وشغل ميلونشون منصباً وزارياً في حكومة ليونيل جوسبان (1997 ــ 2002) كما كان عضوا في مجلس الشيوخ قبل أن يصبح نائباً أوروبياً (حتى العام 2014). ومنذ وصول فرنسوا هولاند إلى الحكم قبل خمس سنوات، كان ميلونشون أحد أكبر وأشرس منتقديه، متهما إياه بـ«خيانة» قاعدته الانتخابية وانتهاجه سياسة يمينية ممالئة لأرباب العمل.
من هنا، فإن ترشيحه، الذي يحظى بدعم الحزب الشيوعي ومجموعات اليسار وجزء من البيئويين، ومن الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي، يُراد له أن يحدث في البلاد نقلة باتجاه العدالة الاجتماعية، وتثمين العمل على حساب رأس المال، واستعادة حرية الحركة الاقتصادية والمالية لفرنسا، من غير أن يقول صراحة إنه يريد الخروج من أوروبا أو من العملة الموحّدة. لكن المنطق يبين أن اتباع الطريق التي يرسمها تقود إلى إحداث تغيير أساسي في فرنسا وفي الاتحاد الأوروبي. فالرجل الذي يريد أن يتخلى عن «الجمهورية الخامسة» وينتقل إلى «جمهورية سادسة» يغلب عليها النظام البرلماني، يريد أن يهتم بالطبقتين الدنيا والوسطى. ومن الإجراءات التي يدعو إليها توفير الحماية الاجتماعية والضمان الصحي بنسبة 100 في المائة، والهبوط بسن التقاعد إلى 60 سنة وإنزال ساعات العمل إلى 32 ساعة أسبوعياً - بدل 35 ساعة حالياً - وتوفير المسكن لكل الفرنسيين مع نهاية العهدة الرئاسية المقبلة. ويخطط ميلونشون لزيادة الحد الدنى للرواتب ليصل إلى 1300 يورو، ولمنع التسريح الاعتباطي، خصوصا الهادف إلى تحقيق أرباح في البورصة. ويريد توظيف 10 آلاف رجل أمن، وتقديم فرص عمل للعاطلين، والتخلي عن الطاقة النووية لصالح الطاقة المتجددة. أما بالنسبة لقانون الضرائب، فإنه بعكس المرشحين الثلاثة الذين يريدون إلغاء «الضريبة على الثروة»، فإنه يريد فرض ضريبة بنسبة 100 في المائة على كل ما يتخطى عشرين مرة الراتب المتوسط، أو ما يزيد على 400 ألف يورو سنويا. واجتماعيا، يقترح السماح بتعاطي حشيشة الكيف، ويدعو إلى توفير حق المشاركة في الانتخابات المحلية للأجانب الذين يعيشون في فرنسا.