هل سيعوض مجتمع الشبكات المجتمع الصناعي والزراعي؟

يمحو الاعتبارات الأخلاقية والدينية واللغوية والتمايزات العصبية والقبلية

مانويل كاستلز
مانويل كاستلز
TT

هل سيعوض مجتمع الشبكات المجتمع الصناعي والزراعي؟

مانويل كاستلز
مانويل كاستلز

ولد السوسيولوجي الإنساني مانويل كاستلز، سنة 1942 بهيلين (إسبانيا). وهو أستاذ علم الاجتماع ومخطط حضري وجهوي منذ 1979 بجامعة كاليفورنيا بيركلي في الولايات المتحدة. حصل على جائزة هولبرت سنة 2012، وجائزة بالزان سنة 2013. غادر إسبانيا في عقده الثاني، بسبب نضاله ضد فاشية فرنكو. عن ذلك قال: «كنت في الثامنة عشرة من عمري. كان توقي للحرية يصطدم بالجدران التي أقامها الديكتاتور حول الحياة. حياتي وحياة الآخرين. وكتبت مقالا في مجلة مدرسة الحقوق وأغلقت المجلة».
درس السوسيولوجيا الحضرية، حيث صرح في حواره مع سيرج ليلوش بمجلة العلوم الإنسانية الفرنسية، عدد 29 يونيو (حزيران) 2000 (والمخصص للوجوه الجديدة للرأسمالية): «لم أغادر مجال تخصصي حتى عندما رحلت إلى بيركلي: أي السوسيولوجيا الحضرية التي أمارسها دوماً».
بلور كاستلز رؤية مهمة في بنيوية الأشكال الحضرية، تجد أثرها البارز في مختلف كتاباته الكثيرة التي نذكر منها: «المسألة الحضرية» (1972)، و«النضالات الحضرية والسلطة السياسية» (1975)، و«المسألة الحضرية: المقاربة الماركسية» (1977)، و«كائن الاتصال: الجزء الأول مجتمع الاتصال» (1998)، والجزء الثاني «سُلطة الهوية» (1999)، والجزء الثالث «نهاية الألفية» (1999). وفي سنة 2001 أصدر عمله القيم: في أي عالم نعيش؟ الشغل، والعائلة والرابطة الاجتماعية في عصر الاتصال بالاشتراك مع مارتن كارنوي وبول شيملا، وفي 2009 كتب سلطة الاتصال.
بعد مغادرته إسبانيا، درس ما بين 1967 و1979 بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس. ولأن عمه يشغل منصب رقيب في وسائل الإعلام، فقد استفاد منه بعضا من سلوك وفطنة وحدس الرقابة، حيث يقول: «ما استشعرته، في ذلك الوقت، وأؤمن به الآن، هو أن السلطة تقوم على السيطرة على الاتصال والإعلام، سواء كانت السلطة العملاقة للدولة وشركات وسائل الإعلام الكبرى، أو السلطة الصغيرة للمنظمات من كل نوع. ولهذا كان كفاحي للاتصال الحر، ومدونتي البدائية، لذاك العصر، ذات الحبر الأرجواني، تحديا بالفعل. وكان الفاشيون، من وجهة نظرهم، على حق في أن يُلقوا القبض علينا ويخرسوا أصواتنا. فالسلطة أكبر من كونها اتصال، والاتصال أكبر من كونه سلطة. لكن السلطة تعتمد على التحكم في الاتصال، لأن السلطة المضادة تعتمد على خرق هذه السيطرة». (سلطة الاتصال: 27).
عُد كتابه «سلطة الاتصال»، أهم ما يُلخص فكره السوسيولوجي والسياسي معاً، حيث عالج فيه مجموع القضايا المتصلة بالإعلام والسياسة والسلطة، مستفيدا من نتائج العلوم المعاصرة ومن تحليل فوكو للسلطة، لينحت مفهوم «مجتمع الشبكات» الذي اعتبره كثيرا من المهتمين بفكره، نظرية معاصرة تستحق كامل الاهتمام لارتباطها بالتغيرات الحاصلة في عالم اليوم، وعلى الرغم من أن مجموع الشواهد والأمثلة والوقائع، التي ارتكز عليها تحليله، تمحورت حول المجتمع الأميركي، فإن النتائج التي توصل إليها بخصوص السلطة نجدها في كل رقعة من عالمنا المعاصر.
نعيش فعلا في مجتمع شبكي لم تعد فيه وسائل التنشئة تلعب أدوارا مهمة، حيث تحول دور الأسرة والمدرسة إلى مستويات أدنى مما كان عليه قبل ثلاثة عقود. في هذا يقول: «يمثل مجتمع الشبكات مجتمعا يقوم هيكله الاجتماعي حول شبكات تنشطها تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تعالج رقميا وقائمة على تقنيات الإلكترونيات الدقيقة. والشبكات الرقمية عالمية، لأنها قادرة على إعادة تشكيل نفسها وفق توجيه مبرمجيها، وتتجاوز الحدود المؤسسية والحدودية عبر شبكات كومبيوتر متصلة عن بعد» (...)، لذا يقوم بـ«تحليل مجتمع الشبكات:
* أولاً، باعتباره بناءً معمارياً عالمياً مكوناً من شبكات تُعيدُ تشكيل نفسها، ويبرمجها ويعيد برمجتها أصحاب النُفوذ في كل نطاق.
* ثانياً، باعتباره نتيجة التفاعل بين أنماط الهندسة والجغرافيا المختلفة للشبكات التي تتضمن الأنشطة المحورية، أي الأنشطة التي تشكل الحياة والعمل في المجتمع.
* ثالثاً، باعتباره نتيجة لتفاعل من المرتبة الثانية بين الشبكات المُهيمنة تلك، وبين هندسة وجغرافيا عدم اتصال الصور الاجتماعية التي تركت خارج منطق إقامة شبكات العولمة». (المصدر نفسه 57).
مجتمع الشبكات إذن، هو بناء اجتماعي محدد، أي ذاك البناء الاجتماعي الذي يميز المجتمع مع بداية الألفية الثالثة، بناءٌ أقيم حول شبكات الاتصال الرقمية، لأن علاقات السُلطة تغيرت بشكل حاسم مع السياق التكنولوجي والتنظيمي الجديد، الناتج عن ظهور شبكات الاتصال الرقمية العالمية، باعتبارها النظام الأساسي لمعالجة الرموز في عصرنا.
يتساءل كاستلز في كتابه «سلطة الاتصال»: من يبني علاقات السلطة ويمارسها من خلال إدارة عمليات الاتصال، ولماذا؟ وكيف؟ كيف يمكن لعلاقات السلطة هذه أن تتغير من خلال أطراف اجتماعية تستهدف التغيير الاجتماعي عبر التأثير على عقول الجماهير؟ وذلك ليقارب سؤال الاتصال والسلطة السياسية وواقع الحركات الاجتماعية مميزا بين شبكتين أساسيتين تتحكمان في عملية الاتصال ككل: شبكة وسائل الإعلام، وشبكة الإنترنت، وذلك لفحص فرضيته الأساس، والمتمثلة في أن الصيغة الأكثر أصولية للسلطة، تكمن في القدرة على تشكيل العقل البشري، لأن الطريقة التي نشعر ونفكر بها، تحدد الطريقة التي نتصرف بها فردياً وجماعياً.
خصص كاستلز الفصول الثلاثة الأولى من كتابه لاستقصاء وضع السلطة في مجتمع الشبكات، وطبيعة الاتصال في العصر الرقمي، لإبراز العلاقة بين شبكات العقل والسلطة. وقد حدد معنى السلطة بالاعتماد على بعض المساهمات الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية، كصندوق أدوات لفهم الواقع الاجتماعي، فإذا كان المجتمع الصناعي قد ارتبط بالعصر الصناعي، فإن مجتمع الشبكات يرتبط بعصر المعلومات. وشرع في تحليل الاتصال، وتحديدا الاتصال الجماهيري في زمن العولمة والرقمنة، وما صاحبه من تحول في جوهر الشخص الذي تحول من متلق إلى مرسل، ليكشف عن الروابط بين النشاط الاقتصادي ووسائل الإعلام والسياسة.
إذا كانت السلطة تسير من خلال العمل على العقل البشري بوسائل توصيل الرسائل، فنحن في حاجة إلى فهم كيف يعالج العقل البشري هذه الرسائل، وكيف تترجم هذه المعالجة في المجال السياسي، مركزا تحليله على ما وصلت إليه مدرسة الذكاء العاطفي والأعمال الأخرى للاتصال السياسي، والتي توفر جسرا بين الهيكلة الاجتماعية والمعالجة الفردية لعلاقات السلطة، إلى جانب الاكتشافات الجديدة لعلم الأعضاء وعلم الإدراك المعرفي.
يستشهد بالتضليل الإعلامي الذي مارسته إدارة الرئيس بوش على الجمهور الأميركي، فيما يتعلق بحرب العراق لبيان العلاقات الخاصة بين الانفعال والإدراك المعرفي والسياسة. هكذا إذن، يتطلب فهم بناء علاقات السُلطة خلال الاتصال في مجتمع الشبكات إدماج ثلاثة عناصر:
* المحددات الهيكلية للسلطة السياسية والاجتماعية في مجتمع الشبكات في ظل العولمة.
* المحددات الهيكلية لعملية الاتصال الجماهيري في ظل الظروف التكنولوجية والثقافية في عصرنا.
• المعالجة المعرفية للإشارات التي يحملها نظام الاتصال إلى العقل البشري، لأنها ترتبط بالممارسة الاجتماعية ذات الصلة السياسية.
ويرصد في الفصل الرابع كيف أنه في ظل مجتمعات الشبكات تكون السياسة في الأساس سياسة الإعلام، وعلى الأخص سياسة الفضائح في زمن أزمة المشروعية السياسية التي تتحدى معنى الديمقراطية في معظم البلدان. وفي الفصل الخامس، سيكشف عن كيفية عمل الحركات الاجتماعية وعوامل التغيير السياسي من خلال إعادة برمجة شبكات الاتصال للتأثير وإيصال صوتها. فالإعلام السياسي والحركات الاجتماعية، تستعمل كلا النمطين من الشبكات: شبكات وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، من منطلق أن الحركات الاجتماعية كلما انخرطت في وسائل الاتصال الجماهيري عبر شبكة الإنترنت كانت حظوظها أوفر في تحقيق التغيير الاجتماعي.
وانتقل إلى إعادة برمجة شبكات الاتصال والحركات الاجتماعية والسياسة المتمردة والفضاء العمومي الجديد، ليشدد على دور وسائل الاتصال الجديدة في ظهور هذا الفضاء الذي يتم فيه التحكم في الرأي العام وفي صناعة القرار السياسي، عن طريق الشبكات التي تنامت مع الشبكات الاجتماعية والإنترنت، على الرغم مما تحمله من خطورة على السيادة الوطنية، لأنه مع مجتمع الشبكات، ستنمحي الاعتبارات الأخلاقية والدينية واللغوية، والتمايزات العصبية والقبلية، لصالح ثقافة جديدة قوامها الارتباط المباشر بشبكات افتراضية غير مستقلة عن الرؤى الآيديولوجية، لذا نتساءل: هل سيعوض حقا مجتمع الشبكات العالمي المجتمع الصناعي والزراعي؟



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.