في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، أصدرت الصحافية الهولندية شايلا سيتالسينغ كتاباً عن مارك روته، رئيس وزراء هولندا، وصفته فيه بأنه «ظاهرة». وتابعت الصحافية قائلة إنه «ذو شخصية سياسية مرحة، وغير قابل للتدمير، ويعمل من أجل هولندا جديدة، كما أنه يتمتع بمرونة مدهشة؛ إنه صورة مشرقة ليس لرئيس الحكومة الهولندية فحسب، بل لهولندا بشكل عام... هذا البلد الرائع جداً في القرن الحادي والعشرين».
قبل أيام، فاز حزب الشعب الليبرالي الهولندي (يمين الوسط)، بقيادة رئيس الوزراء الحالي مارك روته، بالانتخابات البرلمانية التي أجريت في هولندا يوم 15 مارس (آذار) 2017، وكان المغزى الأساسي من فوز الليبراليين، مع أنهم لم يحصلوا على الغالبية المطلقة، هو أنهم منعوا انتصار حزب الحرية اليميني المتطرف، المعادي للمسلمين والمهاجرين، وزعيمه خيرت فيلدرز.
مع هذا، وهنا المفارقة، فإن كثيرين عزوا فوز روته وحزبه على اليمين المتطرف إلى أنه: أولاً تبنى بعض «خطاب» زعيم اليمين المتطرف حول الهجرة والمهاجرين، ولكن من دون الخوض صراحةً في موضوع معاداة الإسلام والمسلمين. وثانياً للمواجهة الدبلوماسية الحادة التي وقعت بينه وبين الحكومة التركية - والرئيس رجب طيب إردوغان تحديداً - عقب منع حكومة روته وزيرين تركيين من زيارة هولندا للمشاركة في تجمّعات سياسية نظمت لكسب تأييد الجالية التركية الهولندية لخطط الرئيس إردوغان حيال تعديل الدستور التركي، وتحويل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.
ولكن ماذا عن مارك روته، الرجل والسياسي والزعيم الذي أدى نجاحه بالأمس إلى كبح مسيرة اليمين الشعبوي المتطرف في الدول الغربية نحو السلطة؟
مبدئياً، يمكن التعريف عن روته بأنه سياسي ومؤرّخ ومدرّس، وأيضاً... عازف بيانو. ثم إنه يُعدّ من الشخصيات السياسية الأوروبية المعروفة الأطول قامة، إذ يزيد طوله عن 190 سم. كذلك يعرف عنه أنه مثل معظم الهولنديين من هواة ركوب الدراجات الهوائية. وقبل الانتخابات الأخيرة، تداول عدد كبير من متابعي مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«يوتيوب»، صور «موكب» رئيس الوزراء... الذي كان عبارة عن دراجة يقودها بمفرده، وكان في الوقت نفسه يرد على أسئلة الصحافيين على مقربة من مقر رئيس الحكومة.
مع هذا، ثمة من يقول إن مارك روته من الشخصيات السياسية الهولندية التي لا يتوافر كثير من المعلومات عن حياتها الخاصة. والرجل ما كان يوماً مثار جدل أو شائعات بسبب تصرفات شخصية. ولئن اختلف الهولنديون حول سياسته، أو اتفقوا، فلا خلاف إطلاقاً بينهم على أن ابتسامته التي لا تفارقه عند ظهوره في اللقاءات العامة، أو أمام وسائل الإعلام، لها تأثير إيجابي على الآخرين، وهي تقدمه بصورة الشخص الإيجابي المتفائل المتواضع الاجتماعي، حسب وجهات نظر كثرة من المراقبين.
الخطوات السياسية الأولى
وإبان فترة الدراسة الجامعية، أصبحت علاقة روته بالسياسة جدية، فشغل أثناء دراسته منصباً في قيادة التنظيم الشبابي لحزب الشعب الليبرالي، وترأس التنظيم من عام 1988 إلى عام 1991.
وفي أعقاب تخرجه، دخل روته عالم المال والأعمال، حيث عمل في الهرم الإداري ضمن مجموعة «يونيليفر» الصناعية العملاقة. وحتى عام 1997، عمل في قسم الموارد البشرية في المجموعة الهولندية البريطانية الضخمة، ولعب دوراً بارزاً في كثير من إعادة الهيكلة، بين عامي 1997 و2000.
بعد ذلك، شغل رئيس الوزراء (الأعزب) الذي يتبع الكنيسة البروتستانتية الهولندية، بين عامي 1993 و1997، مقعداً في القيادة الوطنية لحزب الشعب. ثم دخل البرلمان الأول نائباً عن الحزب في انتخابات عام 2003. وكان في العام السابق (2002) قد عين بمنصب نائب وزير مكلف بالعمل والضمان الاجتماعي.
وتسارعت مسيرة روته صعوداً في عالم السلطة، إذ أسند إليه عام 2004 منصب وزير الإعداد المهني والتعليم العالي. إلا أن المفصل الأهم في مسيرته السياسية جاء خلال سنتين، عندما انتخب عام 2006 زعيماً للحزب، ومن ثم في الانتخابات التي أجريت عام 2010، تمكن روته من قيادة حزبه إلى فوز كبير، إذ حصل على 31 مقعداً في مجلس النواب، ليغدو أكبر الأحزاب الممثلة في المجلس.
انتخابات 2010
خلال انتخابات 2010، قاد مارك روته حملة حزبه الانتخابية، عندما كانت آثار التقشف تهيمن على الاقتصاد الهولندي. ومع ذلك، كان يؤكد تكراراً أنه لا ينوي تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز. والواقع أن موقف روته في هذا الجانب كان واضحاً منذ البداية، إذ قال «نحن لا نستبعد أي طرف، ولا حتى أي حزب على الإطلاق، ولكن في الوقت نفسه هناك اختلافات جمّة بين حزبي وحزب العمل وحزب الحرية (الأخير حزب فيلدرز)».
رئاسة الحكومة
بعد الانتصار في تلك الانتخابات، كلّفت الملكة بياتريكس (الملكة في حينه) روته بتشكيل حكومة ائتلافية يمينية، يشارك فيها حزب الشعب وحزب الديمقراطيين المسيحيين وحزب فيلدرز، ليصبح أول رئيس حكومة لهولندا منذ عام 1918، من خارج الحزب الديمقراطي المسيحي، أو حزب العمل. غير أن الخلاف سرعان ما ظهر بين روته وفيلدرز، ثم تصاعد، خصوصاً بشأن أوروبا، حتى إن كانت قد بقيت ثمة نقاط اتفاق بشأن الهجرة. وعلى الأثر، تعهد روته، الذي يطرح نفسه على أنه «رجل الحلول»، في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، بأنه لن يشكل ائتلافاً مع حزب الحرية، وزعيمه المعادي للإسلام والمعارض للهجرة. وفي المقابل، كان فيلدرز يعتب على رئيس الوزراء الحالي، ويعتبر أنه لم يف بوعوده، خصوصاً تلك المتعلقة بخفض الضرائب.
روته وأوروبا
طروحات مارك روته موالية لأوروبا، وهو يؤمن بأنه لا يمكن تصور مستقبل لهولندا على الإطلاق خارج الاتحاد الأوروبي. ومن ثم، فهو يقدم خبرته، التي تجاوزت 6 سنوات في السلطة، على أنها تشكل البديل الناجع لشعبوية فيلدرز وانعزاليته.
وحقاً، يوم 15 مارس الحالي، تمكن روته من الفوز مرة ثالثة، وقاد حزبه لتحقيق انتصار ثمين على التيار اليميني الشعبوي في هولندا. وجاء هذا الانتصار بعد انتصارين مهمين للقوى الشعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة، تمثلا بتصويت البريطانيين لصالح الخروج من أوروبا، وانتخاب الأميركيين رجل الأعمال الملياردير دونالد ترمب رئيساً للجمهورية.
مع هذا، علقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قائلة إن كثيرين يعزون فوز روته إلى تبنيه خطاباً صارماً حيال الهجرة والمهاجرين، ولكن مع الالتزام بالبعد عن قضايا معادة الإسلام والمسلمين التي سيطرت على خطابات غريمه المتطرف فيلدرز. وبالفعل، يشير كثيرون إلى أن تشدد روته في المواجهة مع إردوغان والمسؤولين الأتراك أكسبه شعبية لا تنكر، وأظهره قيادياً حازماً.
أيضاً، يرى كثير من المراقبين أن روته أظهر الحنكة والخبرة السياسية في تعامله مع هذه الأزمة، وعرف كيف يستفيد منها لصالحه، بدلاً من أن يحتكر الاستفادة فيلدرز وحزبه المتطرف. وخلال السجالات مع أنقرة، أكد رئيس الوزراء الهولندي عزمه على أن تظل بلاده الطرف الذي يتحلى بالعقلانية، والسعي لتحاشي التصعيد في الأزمة مع تركيا، بالتوازي مع الإصرار على قرار حكومته ترحيل الوزيرة التركية لشؤون الأسرة والسياسات الاجتماعية، فاطمة بتول سيان قايا، ومنع قدوم وزير آخر، هو وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو.
مفاوضات تشكيل الحكومة
حالياً، بعد فوز حزب الشعب بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، بدأ روته مفاوضات تشكيل حكومته الجديدة. ومن المتوقع أن تستمر هذه المفاوضات على مدى الأسابيع المقبلة، مع العلم بأن جميع الأحزاب أكدت نيتها ألا تدخل في أي ائتلاف مع حزب فيلدرز المتطرف. وللعلم، يتجه روته الآن لتشكيل حكومة ائتلافية من 4 أحزاب.
رئيس الوزراء يقر بأن عملية التفاوض حول التشكيل الحكومي الجديد ستكون صعبة، مبدياً استعداده للتحالف مع الديمقراطيين (الديمقراطيون 66). أما أبرز الشركاء الآخرين المحتملين، في ظل استبعاد المتطرفين، فهم «الديمقراطيون 66» والخضر اليساريون والاتحاد المسيحي.
ولقد وقال رئيس الديمقراطيين، ألكسندر بيختولد، إن «الإمكانيات كثيرة لتشكيل تحالف، ولكن الأمور تتوقف على حزب الشعب الذي يقود الأمور بصفته صاحب العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب». ومن ثم، أشار إلى إمكانية تشكيل ائتلاف يضم الديمقراطيون 66 وحزب الشعب، وأيضاً الحزب الديمقراطي المسيحي، ومعهم يمكن إضافة الخضر اليساري أو الاتحاد المسيحي، لضمان الغالبية المطلوبة في البرلمان.
تعليق روته بعد الانتخابات
جدير بالذكر أن أول تصريح صادر عن روته، عقب ظهور النتائج، جاء فيه قوله إن هولندا رفضت بتصويتها ما وصفه بـ«النوع الخاطئ من الشعبوية». وفي حين نقلت تقارير إعلامية أوروبية أن الأوروبيين عامةً تنفسوا الصعداء عقب الإعلان عن فوز روته، وهزيمة فيلدرز، تلقى رئيس الوزراء المنتصر التهاني من كثير من القيادات والعواصم الأوروبية، كما تحدث مع عدد من الزعماء الأوروبيين هاتفياً. ولقد حرصوا كلهم على تحيته، وإبداء ارتياحهم لما حققه، وسعادتهم لخيار الشعب الهولندي الذي جاء مع العد التنازلي للانتخابات الرئاسية في فرنسا (في أبريل/ نيسان ومايو/ أيار المقبلين)، والانتخابات العامة في ألمانيا (سبتمبر المقبل). ويذكر أن لليمين المتطرف والعنصري، المناوئ للمهاجرين، حضور قوي فيهما.
وجاء في تهنئة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لروته قوله له: «كان (فوزك) فوزاً واضحاً ضد التطرف»، في حين هنأ شتيفن زابير، الناطق باسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الزعيم الهولندي بفوزه في الانتخابات، موضحاً أنه يتطلع إلى «مواصلة التعاون معاً كأصدقاء وجيران وأوروبيين». كذلك قال باولو جنتيلوني، رئيس الوزراء الإيطالي: «اليمين المناهض للاتحاد الأوروبي خسر الانتخابات في هولندا».
بطاقة هوية
* ولد مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي، في مدينة لاهاي، العاصمة السياسية والقضائية لهولندا، يوم 14 فبراير (شباط)، أي «يوم الحب»، من عام 1967. وهو الولد الأصغر في عائلته، وكان أبوه (آيزاك روته) يعمل في مجال التجارة والأعمال، أما أمه (واسمها هيرمينا كورنيليا ديلينغ)، فتعمل سكرتيرة.
أنهى تعليمه الثانوي (بين 1979 و1985) متجهاً نحو التخصصات الأدبية، ولقد استهوته الموسيقى، وكان طموحه حقاً أن يغدو عازفاً محترفاً لآلة البيانو. إلا أنه عندما أزف وقت الدراسة الجامعية، التحق بجامعة لايدن، أعرق جامعات هولندا وإحدى أرقى الجامعات الأوروبية، حيث درس التاريخ، ثم حصل منها أيضاً على درجة الماجستير في عام 1992.