أندريه كونت سبونفيل والفلسفة كفنّ للعيش

الحياة تدفق لا ينضب... وهي الطبيعة الإنسانية في أسمى تجلياتها

أندريه كونت سبونفيل
أندريه كونت سبونفيل
TT

أندريه كونت سبونفيل والفلسفة كفنّ للعيش

أندريه كونت سبونفيل
أندريه كونت سبونفيل

ما يميز الفكر الفرنسي المعاصر هو قدرته على الانفصال عن ذاته، وخلق تفرده عبر أشكال التفكير التي يمارسها وينتجها. فالمفكرون هم الذين يعيدون التفكير ويفكرون فيما لم يتم التفكير فيه. فلا توجد درجة صفر للفكر، ولا يمكن التفكير من اللاشيء، إذ يتم التفكير دائماً، مع أو ضد أو من خلال أو بـ. وهذا ما ينطبق على الفلاسفة المعاصرين الذين لم ينخرطوا في القضايا ذاتها التي انخرط فيها سابقوهم، ولم يمارسوا الطرق نفسها في إثبات رؤيتهم. إذ جعلوا الفلسفة/ الحكمة مرتبطة بالحياة، بالحب، بالسعادة، بالحقيقة، بالحرية... وضد كل أشكال الحزن والقلق والوهم. يتعلق الأمر هنا، بالفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل (المولود سنة 1952 في باريس)، وخريج المدرسة العليا للأساتذة، ومبرز في الفلسفة، وأستاذ محاضر بجامعة السوربون. له كثير من المؤلفات منها «بحث موجز في الفضائل الكبرى»، و«هل الرأسمالية أخلاقية؟»، و«عروض حول الفلسفة»، و«الجنس أو الحب»، و«قيمة وحقيقة»، و«لست فيلسوفاً»، و«المعجم الفلسفي»، و«لذة التفكير»...
يميز الصحافي الفرنسي فرنسوا ليفوني، في حواراته المكتوبة مع سبونفيل، التي جمعت في كتاب بعنوان «C’est chose tendre que la vie»، وصدر في 2015، سبونفيل، بصفته واحداً من جيل الفلاسفة المعاصرين، الذين حاولوا أن يعمموا التفكير الفلسفي على فئة عريضة من الناس، ومشاركتهم الأفكار حول طبيعة الحياة نفسها، حيث يعتبره من أعمق الفلاسفة الذين يطبعون المشهد الفلسفي الراهن بتلقائيته، وخفته، وحيوية تفكيره. إذ لم يسلك الوجهة نفسها من التفكير، التي سلكها سارتر أو ميرلوبونتي أو فوكو أو دريدا أو جيل دولوز. بل حاول أن يجعل من الفلسفة جهداً فكرياً يطبق على الحياة، على الرغم من كونها ممارسة خطابية استدلالية، لكنها يجب أن تكون من أجل السعادة، لأن الفلسفة هي سبيل السعادة، حيث تبعد كل أشكال القلق والتعاسة والاضطراب. فإذا كان التحليل النفسي يشتغل على اللاوعي ويرتبط بالمرض، فإن الفلسفة تبدأ في نظره، حينما يتوقف العلاج، لأن الفلسفة «إبداع الذات»، تتأسس على المفاهيم، لكنها ترتبط بأسلوب معين في الحياة والوجود.
يؤكد سبونفيل في حواراته وكتاباته، أنه كان يحلم أن يكون كاتباً أو روائياً، لكنه حينما اكتشف الفلسفة تغير كل شيء بالنسبة له. فالحياة الصعبة والمؤلمة التي عاشها في كنف أم مكتئبة انتحارية، جعلته يترعرع في حزنها، في هشاشتها، وفي مرضها، الأمر الذي جعله يكتوي بعلتها. إذ تعرف في بداية الأمر، على باسكال، وكيركغارد، ثم ألبير كامو. فكانت الفلسفة/ الكتابة، هي المخرج والملجأ والدواء على حد سواء. ولقد اعتقد أن الفلسفة يجب أن تكون موجهة للإنسانية جمعاء، على اعتبار أنها تخاطب الحياة وتبدد كل الأوهام والعوائق التي تفصل الحكمة عن السعادة والحقيقة. فالفلسفة ليست فقط نمطاً من التفكير، بل هي كذلك «فن للعيش»، تساعد على التفكير في الحياة، وعلى بعث الحياة في الفكر، وتتعلق بالحكمة والسعادة. فإذا كانت الفلسفة هي الوسيلة فإن الحكمة هي الغاية. بمعنى أن الممارسة الفلسفية لم تعد تقتصر فقط على بناء مفاهيم وأنساق ومدارس فكرية، يتم نقلها من جيل إلى جيل آخر، بل أصبحت مع سبونفيل، تؤسس لنمط حياة وفن للعيش. فكل المجالات والمباحث، من منطق وعلوم الطبيعة وأخلاق، يجب أن تحيا تجربة وجودية وليست مشكلات إبستمولوجية (معرفية) صرفة. الأمر الذي يعكس أن التقليد الفلسفي الذي يراهن عليه سبونفيل، يعود بنا إلى أولئك الحكماء القدامى أمثال ابيقور وديوجين وسنيكا... أو الفلاسفة المحدثين، من أمثال مونتاين وباسكال وسبينوزا... الذين اختاروا نمط عيش محدداً وفق أحاسيس وطقوس فلسفية معينة.
إذن، فكل فكرة من أفكارنا هي إنسانية وذاتية ومحدودة بتجربة وجودية. فأن نعيش يعني أن نتغير، لأننا في إطار الزمن نشيخ، ومن المستحيل أن نبقى كما كنا، فالتغيير ليس هدفاً بل ضرورة وسيرورة. فحتى التغيرات المأساوية يجب الإيمان بكونها ترتبط إما بحظ جيد أو بحظ عثر، ولا يمكن اختزالها في القول بالمسؤولية فقط. فهناك من يتحمل وهناك من لا يستطيع التحمل. يقول نيتشه: «الذي لا يقتل يجعلك أكثر قوة». ويعلق سبونفيل على هذا القول، بقوله: «خطأ، لأن المعادلة بهذا الشكل، هي أننا سنصبح أكثر قوة ما دمنا لا نموت، لأن الموت مرتبط بالضعف وليس بالقوة... إن حياتنا ليست كذلك (نحن نشيخ... تنفذ القوة أحياناً... إنها الحياة)». وهدف الحياة في نظر سبونفيل، ليست أن نكون أكثر قوة، لأنها ليست مسابقة أو امتحاناً، بل هدفنا هو «العيش بهدف العيش»، وهذا هو العيش الحقيقي بكل بساطة. وأن نرضى بأن نقوم بما بوسعنا، لا لنكون أقوياء بل سعداء. والحياة والحقيقة ينميان قوتنا، وهذه هي الحكمة الحقيقية. لكن ما يحركنا تجاه الحياة، هي رغباتنا التي لا تتوقف. فهناك عطش دائم (أتمنى كذا أو كذا...)، حيث تقترن هذه الرغبة بالخوف الدائم والأمل. وهذا ما يؤكده سبنوزا حينما يقول: «ليس هناك أمل دون خوف»، فالأمل شيء مرتبط بالمستقبل، غير حاضر الآن، إذ إنها حالة غير مرضية.
إذن، سر الحكمة السبونفيلية - إذا جاز القول - يكمن في عدم كبح الرغبات والأمنيات، بل في التمني بشكل أقل والحب بشكل أكثر. بهذا، فالحياة عند سبونفيل، هي تدفق لا ينضب والعيش لحظة بلحظة دون أن نلغي مكامن ضعفنا وقوتنا. إنها الطبيعة الإنسانية في أسمى تجلياتها.
يبدو أن الفلسفة مع سبونفيل، لم تعد معرفة نظرية مسرفة في خطاباتها ومفاهيمها المجردة وإشكالاتها المعرفية، بل أصبحت ممارسة حياتية ونمطاً للعيش، تقاوم كل أشكال البلاهة والزيف والخوف والموت والألم. وعلى هذا الأساس، لا يمكن تصنيفه داخل أي مدرسة أو اتجاه أو حركة أو تيار. فهو، كما يعترف هو نفسه، مادي وعقلاني وإنساني وملحد وروحاني، ينتمي إلى الثقافة اليهودية - المسيحية. إلا أنه يتخذ من الانفصال الطابع الخاص لفلسفته، حينما يميز بين الشيخ والمعلم، والمريد والتلميذ، فالمعلم له تلاميذ، بينما الشيخ له مريدون. المعلم يعلم والشيخ يكشف ويلقن. المعلم يتم الإنصات إليه ومناقشته وتجاوزه، والشيخ يتم اتباعه والاعتقاد فيما يقول. المعلم ينتمي إلى مدرسة وله زملاء، والشيخ له مدرسة وليس لديه زملاء ولا منافسون. المعلم ينقل معرفة ومنهجاً، بينما الشيخ يرسخ الإيمان والأسرار. المعلم تتم مغادرته، الشيخ يتم اتباعه.
أمام هذه الثنائيات، يحاول سبونفيل أن يجعل من الفلسفة فعلاً تحررياً من كل تبعية أو سلطة. إذ يحذرنا ليس فقط من المعلمين والشيوخ، بل وكذلك من الفلسفة ذاتها، لأن الفلسفة ليست إلا طريقاً، والمعلمين ليسوا سوى بطاقات أو ومضات، والمهم أن نتقدم ونتطور، ونطور كل أشكال الحياة فينا. يقول باسكال، إن «السخرية من الفلسفة هي أيضاً تفلسف، وإن السخرية من المعلمين، تعني الوفاء لهم والانفصال عنهم».
إن هذه الروح الفلسفية الجديدة التي يحاول سبونفيل أن يمجدها، تعبر بالفعل، عن أن هناك تقليداً فلسفياً فرنسياً بدأ يترسخ، يختلف عما كان سائداً، حيث يجعل الفلسفة فناً للعيش، ونوعاً من العلاج لأكثر الأمراض تفشياً في العالم المعاصر، وليست تكراراً واجتراراً لما قيل ويقال، أو غرقاً في توليد وتجريد المفاهيم. إنها الفلسفة بالفعل، أو لنقل، الفلسفة بوصفها فناً للعيش!



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.