لندن تحتفي بالأدب البولندي في معرضها السنوي للكتاب

ناشرو الكتب جعلوا ربيع العاصمة البريطانيّة مورقاً

لندن تحتفي بالأدب البولندي في معرضها السنوي للكتاب
TT

لندن تحتفي بالأدب البولندي في معرضها السنوي للكتاب

لندن تحتفي بالأدب البولندي في معرضها السنوي للكتاب

كأن طقس العاصمة البريطانيّة لندن تآمر مع ناشريها، فاتحد معهم في إطلاق ربيعٍ مبكرٍ مورقٍ في المدينة هذا العام من قاعة الأوليمبيا، وذلك في افتتاح الدورة الـ46 لمعرض لندن للكتاب، التظاهرة الثقافية التجارية الأنجلوفونيّة العالمية الأهم في شرق الأطلنطي، التي يتم فيها التفاوض وبيع وتوزيع المحتوى الفكري عبر الوسائط التعبيريّة المختلفة كالكتب المطبوعة والدّوريات والأعمال البصريّة والسمعية والإلكترونية في صفقات بملايين الجنيهات. معرض الكتاب الذي يستمر حتى 16 مارس (آذار) الحالي سيكون تتويجاً لأسبوع الكتاب والشاشات، الذي انطلق يوم 13 مارس، والذي يقام للسنة الرابعة على التوالي ليعكس الأهمية المتزايدة لوسائل نقل المعرفة الحديثة في الشأن الثقافي اليوم.
يقدم معرض لندن للكتاب، كعادته، سنوياً فرصة لا تضاهى للقاء الكتاب بقرائهم وللقاء الناشرين بكتّابهم. ويضم برنامج التظاهرة ما مجموعه ستة عشر ألف ساعة متنوعة من المحاضرات والحوارات والمناظرات والمناسبات الثقافية التي تستضيف مجموعة هائلة من الكتاب النجوم المشهورين في عالم النشر والكتابة الغربيين، ومنهم هذا العام ديفيد نيكولاس، وستانلي جونسون، وبيرنارد كورنويل، وأميت تشودري، ولوسي دوتي، وروزانا لي، وإيلف شافاك والعشرات غيرهم، وهو ما يفرض على الزائر - كما تنصح إدارة المعرض دائماً - أن يحدد اختياراته مبكراً حيث يستحيل عملياً تغطية كل الأنشطة. ولعل مما يساعد في إدارة الزيارات التطبيق الخاص بالمعرض الذي يعرض مجاناً للتنزيل على الهواتف الذكيّة ويسهل الاطلاع على مجمل الأنشطة، إضافة إلى الخرائط التوجيهية والأوقات.
وعلى عكس الأجواء السياسيّة المحتقنة في لندن حول مسألة البريكست والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، يحتفي معرض الكتاب اللندني ببولندا ضيفة خاصة هذا العام، حيث تحضر المعرض نخبة من أهم نجوم الثقافة والأدب البولنديين، وتنظم عدة حوارات وورشات عمل حول قضايا النشر والثقافة فيها، ومنها ندوة عن «الشعر البولندي اليوم» و«أدب الجريمة في بولندا» و«الكتابة النسائيّة في بولندا»، إضافة إلى مقابلات مع كتّاب وناشرين بولنديين أو معنيين بشؤون النشر والتوزيع في ذلك البلد ومعرض خاص للكتاب البولندي.
بولندا لن تحظى وحدها بالأضواء في معرض لندن، إذ إن هنالك مجموعة أنشطة موازية لإلقاء الضوء على الهند بوصفها جزءا من الاحتفال بسنة الثقافة البريطانيّة - الهنديّة، ومرور سبعين عاماً على استقلال الهند، وستنظم في إطار الفعاليات نقاشات حول «الهند بعد سبعين عاماً» و«الأدب الهندي المعاصر» وقراءات لكتاب هنود معروفين.
«البريكست» حاضر رغم ذلك من خلال حلقة النقاش التي ينظمها المعرض للتحاور بين الناشرين حول ما إذا كان موضوع «البريكست» بمثابة أخبار جيّدة لصناعة النشر البريطانيّة، لا سيّما بعد تدني قيمة الجنيه الإسترليني إلى مستوياته قبل ثلاثين عاماً، وهو ما يعني انخفاضاً ملحوظاً في أسعار المنتجات الثقافيّة البريطانيّة على العموم.
كان جاكس توماس، الرئيس التنفيذي لمعرض لندن للكتاب، قد أعلن افتتاح المعرض صباح الثلاثاء في مؤتمر صحافي تحدث فيه عن الاتجاهات الحديثة في النشر وتصوراته بما يخص أوضاع الصناعة في عام 2017، تلاه الإعلان عن القائمة القصيرة للأعمال المرشحّة لجائزة «ويلكوم» للكتاب لهذا العام، وأيضاً الإطلاق الرّسمي لمجموعة الأنشطة المتمحورة حول ضيفة المعرض: بولندا. ومن أهم أنشطة اليوم الأول كان الإعلان عن القائمة النهائية للمرشحين لجوائز «كوانتم» للإبداع في النشر، وحلقة نقاشيّة عن الترجمة، ولقاء بين مجموعة أدباء للحديث عن خبرتهم في النشر عبر وسائل الميديا المختلفة.
اليوم الثاني سيتوفر بدوره على مجموعة مهمة من الأنشطة، لعل أهمها حلقات النقاش حول حقوق التأليف والنشر، وانتهاء فكرة «القارئ»، والاحتفال بتعدد الأصوات في الساحة الثقافيّة البريطانيّة، وواقع روايات «الكوميكس» في آخر عشر سنوات ومستقبلها، ونشر الأعمال الكلاسيكيّة. بينما سيشتمل اليوم الثالث للمعرض على حلقة نقاشيّة موسعة حول مستقبل المكتبات العامّة في عالم متغيّر تحت عنوان «أكثر من مجرّد مبنى»، وأخرى عن تطبيقات التكنولوجيا الحديثة في عالم النشر والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى حواريّة حول مستقبل أعمال «الكوميكس» المصوّرة في بريطانيا و«لندن في اللغات العالميّة» وغيرها.
ويضم برنامج أنشطة المعرض عدة محاور متوازية متخصصة في النشر للأطفال، ومنصات النشر الإلكتروني، إضافة إلى ورشات عمل حول النجاح المهني في الكتابة وصناعة النشر وبرامج لاستعراض بعض قصص نجاح شركات النشر الكبرى، إلى جانب حفلات التوقيع وإجراء المقابلات والمؤتمرات الصحافية لعشرات الكتّاب المشهورين، ليس فقط من المملكة المتحدة وبولندا والهند (خصوصا هذا العام) بل كتّاب من أيرلندا والصين وكوريا الجنوبيّة والمكسيك وزامبيا وليتوانيا والولايات المتحدة أيضا، لكنها تظل في أغلبها ضمن المجموعة الثقافية الأنجلوفونيّة، مع غياب لافت لأي مفكرين أو أدباء من قلب أوروبا؛ حيث لا ألمان أو فرنسيين أو إسبانيين. أما من الشرق الأوسط، فباستثناء وجود خجول لبعض الناشرين الحكوميين كهيئة الشارقة للكتاب، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، ووجود إيليف شافاك الروائية التركية - الفرنسيّة المعروفة التي اشتهرت في العالم العربي بعد ترجمة كتابها «قواعد العشق الأربعون» إلى العربية - فإن المشرق لا يبدو ذا صلة بتقدّم صناعة المعرفة أو انتشارها.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟