الأدب الروسي... من قيود الرقابة إلى قوانين السوق

التغيرات السياسية تهيمن على النتاج الأدبي

ميخائيل بولغاكوف - غلاف «باتالوغيا» لـ {بريليبين}  - بوريس باسترناك
ميخائيل بولغاكوف - غلاف «باتالوغيا» لـ {بريليبين} - بوريس باسترناك
TT

الأدب الروسي... من قيود الرقابة إلى قوانين السوق

ميخائيل بولغاكوف - غلاف «باتالوغيا» لـ {بريليبين}  - بوريس باسترناك
ميخائيل بولغاكوف - غلاف «باتالوغيا» لـ {بريليبين} - بوريس باسترناك

كان الأدب في روسيا المجال الأول الذي تأثر بصورة واضحة وسريعة جدا بالتغيرات السياسية في البلاد مطلع التسعينات من القرن الماضي، حين أتاحت السلطات حرية التعبير، وحدّت بصورة كبيرة جداً من دور ومهام مؤسسات الرقابة الحكومية والحزبية. وجاء هذه كله في مرحلة بلغ فيها «الظمأ الأدبي» في المجتمع الروسي مستويات تشبه إلى حد بعيد وقوف إنسان على حافة الموت «ظمأً»، حيث كان هناك تعطش كبير جداً لقراءة مؤلفات محظورة لكتاب سوفيات، بعضهم يقيم في المهجر، وينشر كتبه في الغرب، بينما يصنف في وطنه «عدوا للأمة»، فضلا عن تعطش لقراءة الأدب والمنشورات الغربية، ذلك أن الغرب كان بمثابة لغز بالنسبة للمواطن السوفياتي، المحروم حتى من السفر خارج البلاد، إلا في حالات خاصة، بينما لم تكن تسمح بروباغاندا السلطات الشيوعية بنشر أي مؤلفات لكتاب غربيين، مهما كان نوعها.
ومنذ عام 1986 طرأت تحولات سريعة على الأدب في روسيا، وبرزت فيه مكونات رئيسية هي؛ أولاً: الأدب السوفياتي، حيث واصل عدد من كتاب الحقبة السوفياتية إصدار بعض المؤلفات، محاولين تكييف أفكار مؤلفاتهم ونصوصها الأدبية مع التحولات الجذرية الجارية في المجتمع. وثانياً: الأدب المعاصر، أي مؤلفات جيل تلك المرحلة من الكتاب. وثالثاً: الأدب المحظور، أي مؤلفات كتاب ما قبل الثورة الاشتراكية، ومؤلفات كتاب سوفيات، كانت محظورة في الحقبة السوفياتية، لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. رابعا: الأدب المترجم، حيث برز في البدايات اهتمام كبير بترجمة الروايات الاجتماعية وقصص الحب، والروايات البوليسية، ومع الوقت، استمر الاهتمام بذلك النوع من المؤلفات، لكن بمستويات أقل، مقابل دخول المؤلفات السياسية والتاريخية والعلمية البحثية إلى «سوق الأدب» في روسيا.
ولأول مرة بعد طول غياب، ظهرت في المكتبات الروسية مؤلفات كتاب وشعراء «الحقبة الفضية»، وهي الحقبة الممتدة من العقد الأخير في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، كما عادت إلى المكتبات الروسية مؤلفات كتاب مثل ألكسندر سولجينيتسين، الذي أصبحت عبارة «نعيش ليس بالكذب»، وهي عنوان أحد مؤلفاته، عنواناً عريضاً وشعاراً للنشاط الأدبي في تلك المرحلة. عندها، في عام 1990 نُشرت لأول مرة في الاتحاد السوفياتي روايته «أرخبيل غولاغ» كاملة، وهي رواية تتناول القمع في الاتحاد السوفياتي منذ الثورة البلشفية وحتى تولي نيكيتا خروشوف السلطة. وكانت مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد) قد نشرت قبل ذلك، وتحديداً عام 1986، فصولا مختارة من تلك الرواية، التي كانت أحد أهم أعمال سولجينتسين، وسبب غضب السلطات السوفياتية عليه. وفي الوقت ذاته، صدرت لأول مرة رواية «دكتور زيفاغو» للكاتب السوفياتي الشهير بوريس باسترناك، الذي لم تكن علاقته دوما على ما يرام مع السلطات السوفياتية، واتهمته بأنه يتهجم في تلك الرواية على الثورة البلشفية. وزاد غضب الحزب الشيوعي السوفياتي على باسترناك حين فاز بجازة نوبل للآداب عن تلك الرواية، وقام الإعلام الرسمي بشن حملة واسعة ضده. ولم تقتصر قائمة الكتاب الذين عادت مؤلفاتهم إلى رفوف المكتبات الروسية في حقبة البريسترويكا على سولجينتسين وباسترناك، بل شمل الأمر عدداً كبيراً من الكتاب والمؤلفات التي كانت محظورة، مثل مؤلفات ميخائيل بولغاكوف صاحب «المعلم ومارغاريتا»، وحكاية «كروكوديل» (التمساح) للأطفال التي ألفها كورنيي تشيكوفسكي، وحظرها الحزب الشيوعي، فضلا عن ديوان «من ست كتب» للشاعرة آنا أخماتوفا، وكثير غيرهم.
في ذلك الوقت تحرر الأدب في روسيا من قيود الرقابة، لكنه أصبح محكوماً إلى حد بعيد بقوانين السوق، وأصبح الكتاب يأخذون بالحسبان مزاجية الشارع، خلال وضعهم المؤلفات الجديدة، حرصاً على تحقيق أكبر قدر ممكن من المبيعات. حينها كان التنافس قاسيا، كما هي قوانين السوق، بين المؤلفين والإصدارات الروسية من جانب، والمؤلفين والإصدارات الأجنبية المترجمة من جانب آخر، وكان وضع المؤلفين الشباب صعبا للغاية، لأن القارئ الروسي كان في بداية عصر الانفتاح يعطي الأولوية للكتب الأجنبية ومؤلفات الكتاب السوفيات المحظورين، ودفعته إلى ذلك حاجته للاطلاع على كل ما هو جديد وغير مألوف، ولم يُسمح له بالاطلاع عليه على مدار سبعة عقود من الزمن. ونظراً للرواج الكبير لروايات الدراما الغربية، مثل «ذهب مع الريح» وسلسلتها الكبيرة، والإقبال الكبير في الوقت ذاته على كتابات المؤلفين السوفيات المحظورين، الذين يحكون عبر الدراما أو الشعر معاناة المواطن البسيط في الحقبة السوفياتية، فقد برزت توجهات رئيسية في الأدب الروسي حينها، حاولت مجاراة «مزاجية السوق»، وبأسلوب الروايات البوليسية والدراما الغربية، فظهرت روايات تحكي قصص رجال العصابات في روسيا في حبكات تعتمد على التشويق، وتمتزج فيها الدراما مع البوليسي. وفي الوقت نفسه ظهرت مؤلفات تروي مزيدا من خفايا الحقبة السوفياتية، بعضها على شكل مؤلفات سياسية، تتضمن مذكرات شخصيات قيادية، وبعضها على شكل روايات.
إلا أن الأدب الروسي دخل خلال السنوات الأخيرة مرحلة «استعادة العافية»، وبدأت تظهر روايات ومؤلفات مميزة، ساهمت في بلورة هوية الأدب الروسي المعاصر، الذي أخذت ترتسم توجهاته الرئيسية، كما برزت أسماء لامعة لعدد من الكتاب الروس. ويمكن القول إن الأدب السياسي بشكل عام هو المهيمن في الأعمال الأدبية المعاصرة، ويعود ذلك لجملة أسباب رئيسية، في مقدمتها أن هذا الأدب يتناول موضوعات ما زالت محط اهتمام واسع في المجتمع الروسي؛ إذ يعرض الكُتاب بأسلوب روائي نقدي جوانب من تاريخ روسيا، وجوانب أخرى من حياتها السياسية في المرحلة الراهنة، فضلا عن ذلك، فقد أثبت الأدباء المهتمين بهذا المجال مهاراتهم الأدبية المميزة في صياغة رواياتهم، بما يلبي الذوق الرفيع للقراء الروس. ومن عام لآخر، يتقاسم الصدارة على قائمة أفضل روائي روسي عدد كبير من الكتاب الروائيين، منهم زاخارو بريليبين، وهو من مواليد مدينة نيجني نوفغورود عام 1975، وتخرج عام 1999 من قسم فقه اللغة بجامعة المدينة، ونشر كثيرا من المقالات والدراسات الأدبية، وعمل في عدد كبير من الدوريات الأدبية، وله نشاط سياسي، وهو بلشفي وطني، كان مناهضا لسياسة الكرملين، وبعد ضم القرم إلى روسيا أصبح من مؤيدي تلك السياسة، ويشارك حالياً في القتال جنوب شرقي أوكرانيا، إلى جانب الميليشيات المحلية التي تدعمها موسكو.
كتب كثيرا من الأعمال الروائية التي تتناول مراحل مختلفة من تاريخ روسيا السياسي، بما في ذلك روايات تناول فيها المرحلة الراهنة، وروايات أخرى حول الحرب في الشيشان، مثل روايته «حالة مرضية» أو «باتالوغيا»، فضلا عن روايات توقف فيها عند الحقبة السوفياتية، مثل رواية «المقيم» أو «أبيتيل»، ويعرض فيها واقع معسكرات الاعتقال في الثلاثينات من القرن الماضي. ومن أشهر رواياته: «سانكا» وهو لفظ تودد من الاسم الروسي «ساشا». تحكي الرواية قصة شاب عضو في حزب يساري أسسه أحد المفكرين القوميين الروس، وعندما تشتد المواجهة مع السلطات ينتقل الحزب إلى العمل السري. وقد رأى البعض في رواية «سانكا» دعوة يوجهها الكاتب لاعتماد العنف مع السلطات الروسية، التي يتهمها القوميون الروس بأنها «ليبرالية خاضعة للغرب». وفي تعليقه على تلك الرواية، يقول الكاتب الروائي والناقد الأدبي الروسي بافل باسينسكي: «الرواية جدية جدا، جدية لدرجة أنني كنت لأنصح مؤيدي السلطات بإلحاح أن يطلعوا عليها، على الأقل ليفهموا طبيعة جيل الشباب الذي عليهم العمل معه، وليدركوا من أين تظهر الرغبة بتحطيم (ماكدونالدزيات)، (في إشارة إلى المطاعم الغربية للوجبات السريعة)، والمحال التجارية الفاخرة وواجهات المطاعم، وفي نهاية المطاف السيطرة على المباني الإدارية في المدن الكبرى».
أعماله الأدبية حققت مبيعات عالية جداً، وجعلته عام 2014 يدخل قائمة أهم مائة شخصية روسية، وفي العام ذاته شغل المرتبة الثامنة على قائمة أفضل الكتاب الواعدين. وفي عام 2015 احتلت روايته «أبيتيل» المكانة الأولى على قائمة «الروايات الأكثر رواجاً وقراءة». في عام 2016 احتل المرتبة الثالثة في استطلاع للرأي حول أهم الأدباء الروس المعاصرين. أخيراً، تُرجمت أعماله ونشرت باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والصينية والدنماركية، والنرويجية والبولندية والبلغارية والرومانية والأرمينية. وإلى جانب بريليبين، هناك العشرات من الأدباء والروائيين الروس الذين يساهمون بإنجازات أدبية وشعرية مميزة، تجعلهم يتربعون على الصدارة في «مصنع» الأدب الروسي الحديث، ومنهم الكاتب بوريس آكونين الذي تميز بكتابه سلاسل خاصة؛ منها حكايات للأطفال الذكور، وأخرى للفتيات، وروايات في السياسة والحب، فضلا عن سلسة قصص بوليسية، وأخرى في الخيال، ورومان ساودولايف، وأليكسي إيفانوف، والروائية الداغستانية الشابة أليسا غانييفا، وديمتروي نوفيكوف... وغيرهم.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.