الذاكرة بين ثقل جاثم ومعلم موجه

هل ينبغي نسيان الماضي؟

الذاكرة بين ثقل جاثم ومعلم موجه
TT

الذاكرة بين ثقل جاثم ومعلم موجه

الذاكرة بين ثقل جاثم ومعلم موجه

يتقدم الإنسان في السن وتتضخم معه ذاكرته تدريجيا، إلى درجة يحس معها بثقل يجره إلى الخلف، مما يعوق أحيانا فعله في الحاضر، وبالتالي عرقلة تطوره إلى الأمام، الأمر الذي يجعل النصيحة جاهزة بضرورة نسيان الماضي لكي يعطي المرء نفسه فرصة لاستثمار الحاضر، واستغلاله بوصفه قوة دافعة نحو التقدم وتطوير ملكات أخرى لوضعيات جديدة. لكن، هل يمكن نسيان الماضي حقا؟ ألسنا بحاجة إلى نقط ارتكاز وإلى معالم منه لفهم الحاضر؟ أليس فقدان الماضي يعني التيه في الزمن وضياع هويتنا؟
هذا ما سنحاول معالجته هنا، حيث نجد أنفسنا بين فكي دعاة نسيان الماضي، ودعاة ضرورته.

* التخلص من الماضي

* إن أي وعي وأي سلوك يجري في حقيقته في الزمن الحاضر، على أساس أن الماضي ولى والمستقبل مجهول؛ فالزمن مجرد أنّات أو لحظات متوالية، وكل مرة بشكل وبطريقة مختلفة عن الأخرى. فالمرء الذي يريد أن يستفيد من حاضره، ليست لديه فسحة للتفكير في الماضي أو المستقبل؛ إذ سيلبسه الحاضر السريع الطازج بكل حيويته وطرافته وجدته. لهذا عليه ألا يترك نفسه يستهلك بزمن الماضي أو المستقبل. إن الحاضر العابر والمتلاشي نادر. والنادر كنز ثمين، لهذا فهو يشبه التحفة الفنية. إنه تجربة تجعل الإنسان يحس كل مرة بالجمال.
إن الحاضر لا يعوض أبدا، فهو فريد من نوعه. ومن يعش التكرار، فهو يعلن انتصار الموت على الحياة. إضافة إلى ذلك، نجد أن الحاضر هو زمن الحرية بامتياز؛ ففيه أحقق تفردي وخصوصيتي؛ إذ لا يمكن القول إن الحرية تتحقق في الماضي، لأنه ببساطة، انصرف، ولا في المستقبل لأنه غير موجود أصلا... فما بقي لي إلا لحظتي هذه، التي لا يملكها أحد غيري، فبيدي أن أهدرها وأضيعها، أو أنجز فيها وجودي بطريقة كيفية ومتميزة، فلا أكون نسخة من الآخر، وتكون لي هويتي المتميزة والخالصة.
هذا الموقف يجعل من النسيان ملكة إيجابية، وعلامة واضحة على روح عالية يتملكها المرء. وهو ما أكده الفيلسوف نيتشه (1844 - 1900)؛ حيث يرى أن نسيان الماضي يخلق هدوءا وسكينة في الحاضر، بل هو شرط أساسي لتطوير كفاءات وملكات جديدة. لهذا فمسح الطاولة وغسل الوعي من شوائب الماضي، أمر ملح لترك المجال لأشياء جديدة تتشكل. إن النسيان عنده يعد طوق نجاة من الغرق في الرتابة والقلق.
فمن دونه يحدث للمرء انطباع على أنه شاهد كل شيء وعاش كل التجارب، وهو ما سيفقده طعم الجديد، ومن ثم طعم الحياة كلها. فإن تكن لديك قوة النسيان، وأن تحرص على عدم التصاقك بذاكرتك، فهذا يعني أنك تخلق لذاتك رغبة أكيدة في أن تصير وأن تستمر؛ بل إنك تكون قد أعلنت التخلص من تلك القوة النابعة من الماضي، التي تشل حركتك وتكبح تقدم، بل تسلبك حاضرك الذي هو أعز ما تملك. وهذا ما عبر عنه نيتشه بقوله: «لا سعادة، لا سكينة، لا أمل، لا فخر، لا متعة، تتحقق في اللحظة الحاضرة، من دون ملكة النسيان».
يؤكد نيتشه أن الوحيد الذي يقول: «إنني أتذكر» هو الإنسان. وهو بذلك يقتل سعادته بيده. فحضور الماضي يمنعه من تذوق اللحظة الصافية، ويثقل كاهله ويسحقه، ويمنع مشيه السليم. فالماضي، كما يصفه نيتشه، كحمل غير مرئي من الظلمات، بل يصير، أحيانا، «كجرح متقيح»، لا خلاص منه إلا بتشغيل ملكة النسيان التي تمنع الذكريات من اجتياح الوعي، فمن دونها لن تتحقق الصحة النفسية أبدا.
إن المخرج الذي وجده نيتشه، كان مرتبطا بالزمن الحاضر؛ فعندما يعيش المرء لحظة قوية وبحرية قصوى، أو عندما يحب بجنون، أو عندما يبدع عملا، أو عندما يكتشف مجهولا من العالم، فإنه يكون متصالحا مع الواقع، ويحس بما يسميه نيتشه «خفة الراقص»، إلى درجة أن المرء يتمنى استمرار هذه اللحظات إلى الأبد.
إذن، يعد الرجاء في دوام لحظات الذروة، باعتبارها توافقا كاملا مع الحاضر من دون قيود الماضي أو هواجس المستقبل، قمة الخلاص الإنساني؛ إذ يصبح الحاضر مستحقا وليس مجهضا، ويعاش كأنه بذرة من الأبدية. وهنا بالضبط، تزول المخاوف والحيرة من الموت. إذن التصالح مع الحاضر وملامسة تلك اللذة الأبدية التي تصبح كالمطلق الذي نرجو إحياءه وإلى الأبد، هو العود الأبدي عند نيتشه.

* الماضي يرشد الحاضر
* إن الأطروحة السابقة، الداعية إلى ضرورة التخلص من الماضي والعمل على نسيانه قصد تحقيق السعادة، هي، وإن كانت تحقق بعضا من الخلاص وتشفي جراحات آتية من الماضي، فهي أطروحة قابلة للنقاش؛ إذ كيف يمكن أن تتعرف على نفسك في الحاضر من دون الماضي؟ ألست أنا في الحاضر نتاجا للسابق؟ أو ليس ضياع ذاكرتي هو ضياع لذاتي وهويتي؟
لا يمكن نكران أن الماضي يلقي بظله في اختياراتنا ومآلاتنا، فنحن نأخذ بعين الاعتبار، الأحداث السابقة، فهي كالبوصلة الموجهة. فالماضي إذن، هو الترسانة الوحيدة التي تزودنا بالوسائل التي من خلالها نشتغل في الحاضر، ومن ثم صناعة المستقبل. وهو الأمر الذي أكد عليه الفيلسوف هنري برغسون (1859 - 1941)؛ فهو يرى أن الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، هي في الحقيقة، مكونات غير معزولة، وتتحرك بديمومة، أي بترابط واندماج شامل. إنها تيار دافق وجارف. في هذا يقول: «الديمومة هي تقدم مستمر لماض يقضم المستقبل، ويتضخم بتقدمه إلى الأمام». بعبارة أخرى، هو يريد أن يبرز أنه لا وجود للحظة الراهنة إلا منغمسة في الماضي. فالحاضر تدوس عليه ذكريات الماضي، كجبل جليدي يتضخم، فيجعل اللحظة الموالية مختلفة تماما. وهو ما يفسر لنا إلحاح برغسون على فكرة تعذر الشعور بالحالة نفسها مرتين. فالماضي ليس ذكريات في درج معين، أو شيئا ندونه في سجل. طبعا لا. إنه تراكم تلقائي يشتغل بطريقة آلية، ويلاحقنا في كل لحظة، وينضم إلى الوعي الحاضر، ويزدحم عند بابه بكل ثقله، منجذبا إلى المستقبل الذي يقرض منه، ويحتل حيزا منه على الدوام.
إن الذاكرة ليست شيئا سهلا ويمكن التخلص منها بسهولة... إنها الإحداثيات التي من خلالها ندرك ذواتنا؛ بل هي المشكلة لوحدتنا وثباتنا، ومن ثم هويتنا. وهو ما تنبه له الفيلسوف جون لوك (1632 - 1704)، منذ القرن السابع عشر، فالذاكرة عنده هي التي تجعل المرء هو هو نفسه في مختلف الأزمنة والأمكنة. فالوعي بالذات، مرتبط بالزمن الماضي وممتد فيه. فالذات الموجودة الآن، تستحضر أفعال الماضي عن طريق الذاكرة. وهذه الأخيرة تعمل بوصفها رابطا بين الأحداث والحالات الشعورية المتعددة؛ فحين أعاني خبرة ما، أدرك أني الشخص نفسه الذي عانى خبرة في لحظة سابقة، بواسطة هذه الذاكرة.
فالشاب الوسيم الذي احترق جلد وجهه وأصبح دميم الخلقة، كيف سيدرك أنه هو نفسه من دون سند الماضي؟ وبالمثل نقول عن الشيخ العجوز الذي أصبح كله سقما وأمراضا وتجاعيد، كيف سيتمكن من إدراك أنه، في يوم سابق، كان طفلا وشابا كله قوة وصحة من دون معونة الذاكرة؟
ولكي نفهم دور الذاكرة في تحديد هوية الإنسان، نستحضر المثال الافتراضي الشهير الذي قدمه جون لوك؛ وهو: «لو تخيلنا إسكافيا تقمص جسم أمير، فإننا نتوقع أن هذا العامل قد احتوى كل خبرات الأمير وسماته، ولم تعد له نهائيا صلة بحياته بصفته إسكافيا، بحيث لو دخل قصر الأمير لما أحس بالغرابة ولا أدهشه الجو الملكي الذي يعيشه». نفهم من هذا المثال، أنه إذا كنت تريد هوية جديدة، فما عليك إلا الحصول على ذاكرة جديدة.
وإذا عدنا إلى الأطروحة الأولى؛ الداعية لنسيان الذاكرة من أجل الحاضر فقط، فهي تضعنا في إحراج حقوقي صعب. فمسح الذاكرة يجعلنا نحن لسنا نحن، ويضرب ثباتنا ووحدتنا في الصميم، مما يستتبع عدم تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية، بل حتى الدينية. فهل نقول في حالة المجرم التائب إننا أمام شخصين أم أمام شخص واحد؟ أكيد حسب موقف جون لوك، نحن أمام الهوية نفسها. وعليه، سيتحمل التائب تبعات ما اقترفت يداه يوم كان مجرما، ولا يمكنه التنكر لذلك، فماضيه ضامن لوحدته وثباته. فالذاكرة خصيصة بشرية وصمام أمان حقوقي من خلاله نتحمل المسؤولية. ومن دون ذلك، سنسقط في حيوانية طاحنة.
نختم هنا، بتأكيدات المحلل النفسي فرويد، بأن الإنسان لا يحمل في كيانه فقط ذاكرة واعية يمكن استحضارها، بل ذاكرة أخرى منسية هي اللاشعور، التي تعد خزانا ومقبرة ندفن فيها المكبوتات المؤلمة التي يصعب استحضارها إلا عن طريق التحليل النفسي؛ مما يعني أن الحياة النفسية للفرد، واعية كانت أم غير واعية، هي في الجزء الأكبر منها، مشكلة من الماضي، الذي ينبغي العمل على نسيانه إذا ما أصبح ثقلا جاثما علينا في الحاضر.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!