سبق أن أبدى الروائيون إدراكهم لهذه الحقيقة، ربما لأن حياتهم بأكملها محشورة داخل الكتب - فقد قال فلاديمير نابوكوف: «ليس ثمة شيء قادر على إحياء الماضي بصورة كاملة مثل رائحة كانت مرتبطة به ذات يوم». وبالنسبة للكثيرين، تعد رائحة الكتب على وجه الخصوص واحدة من المحفزات القوية لاستعادة ذكريات الماضي، خصوصاً في وقت بدأت فيه الصفحات المطبوعة بوجهها الكلاسيكي في إفساح الطريق أمام الكتب الرقمية.
في الواقع، ظلت رائحة الورق والباكرام داخل إحدى مكتبات مقاطعة ويست تكساس، حيث عملت خلال فترة المراهقة، باقيةً معي لعقود بعدها، مثيرة في خيالي من حين لآخر ذكريات الصبا بمجرد أن ألمس صفحات كتاب قديم.
وعلى امتداد العام الماضي، عكف خبير في شؤون الحفظ بجامعة كولومبيا، الذي يعمل في الوقت ذاته أميناً في مكتبة ومتحف مورغان، على تجربة شعرية علمية فريدة من نوعها تتعلق بحاسة الشم واتصالها بالتاريخ، في محاولة لإثبات وجود علاقة قوية بين الرائحة والذاكرة - في هذه الحالة، الذاكرة الجمعية.
في هذا الصدد، قال جورج أوتيرو بايلوس، بروفسور ومدير شؤون الحفظ التاريخي بجامعة كولومبيا، خلال مقابلة أجريت معه: «عادة ما يبدي العاملون بمجالي اهتمامهم بما يجعل المباني مميزة. في الواقع، فإن الذكريات التي يحملها الأفراد بداخلهم هي ما يضفي على المباني دلالة ثقافية. وتعد الرائحة السبيل الأكثر مباشرة نحو هذه الذكريات، ومع ذلك لا نوليها اهتماماً يُذكر». على مدار العام الماضي، عكف هو وسبعة من طلاب الدراسات العليا على مشروع بالتعاون مع مكتبة متحف مورغان، وبمعاونة كريستين نيلسون، أمينة المكتبة المعنية بالمخطوطات الأدبية والتاريخية. وتمثل هدفهم في خلق شعور بتاريخية مبنى ما يتجاوز مجرد شكله. أما الأداة الرئيسية التي اعتمدوا عليها، فكانت جهازاً لأخذ العينات يشبه قبة كريستالية تخرج منها قناة بلاستيكية من أحد جوانبها.
وخلال التجربة، كان يجري وضع جهاز أخذ العينات برفق فوق مواد - كتب وقطع أثاث وسجاد نادرة - بهدف التقاط الجزيئات المنبعثة منها، التي تخلق رائحة مميزة.
وعلى امتداد زيارات متعددة للمكتبة في وقت متأخر من الشهر الماضي، زار فريق البحث برفقة نيلسون المكتبة الخاصة بجون بيربونت مورغان، الخبير المالي وجامع مقتنيات، الذي بني المكتبة عام 1906، في ماديسون أفنيو قرب 36 ستريت بنيويورك، تضم كنزه الضخم من الكتب والقطع الفنية النادرة. (جرى الجمع بين المباني الثلاثة الأصلية للمكتبة من خلال إضافة حديثة من جانب المعماري رينزو بيانو عام 2006).
في هذا الصدد، قال أوتيرو بايلوس، الذي يدرس دور الرائحة في عملية الحفظ منذ قرابة عقد: «في ظل الظروف العادية، كنا سنتعرض للطرد من أي متحف حال تصرفنا على النحو الذي كنا نتصرف به داخل هذا المتحف، ذلك أننا كنا نجلس على أطرافنا الأربعة ونضع رؤوسنا فوق مكتب مورغان ونعمد إلى شم رائحة صندوق السيجار الخاص به، واستنشاق العبق الموجود داخل القبو الذي يضم مجموعته الشخصية من الكتب، الذي كان لا يزال قوياً للغاية».
وقد تنامى اهتمام أوتيرو بايلوس بمورغان ليس فقط لدوره كواحد من أصحاب المخزونات الرئيسية على مستوى العالم من الكتب والمخطوطات النادرة، وإنما أيضاً، لأن «هذا المبنى يحمل أهمية كبرى للتاريخ الأميركي. ومع هذا، لا يعي أهميته سوى عدد محدود للغاية من الأشخاص»، حسبما قال.
واستطرد موضحاً أنه «واحد من الأماكن التي تحدد داخلها شكل الاقتصاد الأميركي من خلال نفوذ (مورغان) وسطوته».
من ناحيتها، قالت نيلسون: «بالنسبة لي كمسؤولة في مكتبة، كان واحداً من التساؤلات التي لطالما شغلت ذهني: هل هناك رائحة واحدة مميزة للكتب القديمة؟ أميل بقوة نحو الاعتقاد بعدم وجود مثل هذه الرائحة، لكنني الآن على وشك أن أعاين بنفسي الدليل على ذلك».
جدير بالذكر أن هذا «الدليل» من المقرر بلورته على امتداد الشهور القليلة المقبلة داخل أحد معامل مانهاتن التابعة لشركة «إنترناشونال فلافر آند فراغرانسيز» المعنية بإنتاج الروائح والمذاقات الخاصة بكل شيء تقريباً، من العطور إلى المنظفات والحلوى».
من ناحيته، أوضح كارلوس بنايم، كبير خبراء العطور لدى الشركة، الذي شارك في مشروع «مورغان»، إنه سيجري تصنيف آلاف الجزيئات المحصورة داخل جهاز جمع العينات بهدف تحديد أي منها يشكل الرائحة الأساسية لقطع وأسطح من مكتبة «مورغان».
*خدمة «نيويورك تايمز»