تظهر مؤشرات حديثة أن الاقتصاد الفرنسي مستقر نسبيا، بمعدل نمو «معتدل»، وارتفاع في نسب التشغيل، إلى جانب وعود من المسؤولين بتحسن خلال العام الحالي... لكن المؤشرات رغم ارتفاعها كانت «غير مريحة»، نظرا لأنها جاءت أقل من توقعات سابقة أكثر تفاؤلا، إضافة إلى السؤال الأهم الذي سيحدد بشكل كبير مسار مستقبل الاقتصاد، وهو من الذي سيحكم فرنسا في النصف الثاني من العام الحالي؟
وفي ظل انتخابات رئاسية على الأبواب، التي تحل جولتها الأولى في شهر أبريل (نيسان) المقبل، فإن اتجاه السياسية سيؤثر بشكل كبير على بوصلة الاقتصاد. ومع اختلاط الأوراق وعدم اتضاح كامل لجميع البرامج الانتخابية، وبخاصة الشطر الاقتصادي والمالي منها، وهو الاتهام الرئيسي الذي يوجهه المنتقدون إلى المرشح إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد الفرنسي السابق، فإن الغموض ما زال يسيطر على توجهات الاقتصاد الفرنسي العام المقبل.
وإلى جانب المشكلات الاقتصادية الكبرى والمخاوف التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، على غرار الركود وتداعيات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ومخاطر الديون اليونانية على منطقة اليورو، وتصاعد الحديث عن «الحمائية» بقيادة أميركا، فإن الأمور الداخلية أيضا في فرنسا لها وقعها على الاقتصاد، بداية من البطالة، وصولا إلى التخوفات من العنصرية، ومرورا بالتأثيرات التي تترتب على العنف والإرهاب.
ويشير مراقبون إلى أن مرشحي الرئاسة في فرنسا تتراوح وعودهم ما بين الدعوة إلى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بـ«فريكسيت» على غرار «البريكسيت» البريطاني، إلى النقيض، بمزيد من الانخراط الاقتصادي في أوروبا. كما تمتد الخريطة من التوجهات الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن مزيد من الانفتاح الخارجي إلى التركيز على الشعبوية والحمائية.
وعلى سبيل المثال، تدعو مرشحة أقصى اليمين مارين لوبان صراحة إلى الانفصال، وإلى مراجعة الاتفاقيات الأوروبية، فيما يقترح منافسها المستقل ماكرون إنشاء حكومة أوروبية مشتركة تضم جميع الدول الأعضاء تتمتع بميزانية خاصة بها، إضافة إلى برلمان أوروبي تشارك فيه دول منطقة اليورو فقط وهي 19 دولة، إضافة إلى العمل على توحيد السياسات الضريبية والاجتماعية.
وفي ظل تلك التباينات الواسعة، حافظ الاقتصاد الفرنسي على مستوى نمو معتدل في الربع الأخير من عام 2016 وذلك بنسبة 0.4 في المائة، و1.1 في المائة لمجمل العام الماضي، بحسب تقديرات نشرها المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء أمس، وأتت هذه الأرقام متطابقة مع تقديرات أولية للمعهد نشرها في نهاية يناير (كانون الثاني) من العام الماضي.
وتسارع نمو الناتج الإجمالي في الفصل الأخير من العام بعد ارتفاع طفيف في الفصل الثالث بنسبة 0.2 في المائة. وكانت نسبة نمو الاقتصاد الفرنسي بلغت في 2015 نسبة 1.2 في المائة. وجاء مستوى الارتفاع في 2016، وهي آخر سنة كاملة في ولاية الرئيس فرنسوا هولاند، أدنى بنسبة 0.3 في المائة من توقعات الحكومة التي كانت تأمل في تحقيق 1.4 في المائة، فيما توقع المعهد أن ينمو الاقتصاد الفرنسي بنسبة 0.4 في المائة في الفصلين الأول والثاني من عام 2017.
وتأتي تلك الأرقام في وقت أكد فيه وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي، ميشال سابان، التزام بلاده بتحقيق معدل نمو مقداره 1.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي خلال عام 2017.
وقال سابان، في تصريح له مساء أول من أمس: «نحن اليوم في اتجاه يسمح لي بأن أكرر أن هدف النمو بواقع 1.5 في المائة خلال هذا العام هدف معقول»، موضحًا أن كل الأرقام المتوفرة تظهر أن الوضع اليوم، بعيدًا عن الآفاق الانتخابية، يتحسن بشكل كبير في فرنسا، ومشيرًا إلى ارتفاع النشاط الاقتصادي وثقة الأسر والشركات والاستثمارات وفرص عمل.
وكانت نتائج نشرت منتصف فبراير (شباط) الماضي عن المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (إنسي) في فرنسا، أظهرت أن معدل البطالة في البلاد تراجع في سنة 2016 للعام الثاني على التوالي على نحو طفيف بمقدار 0.2 نقطة، ليصل إلى 9.7 في المائة بالأراضي الفرنسية، وإلى 10 في المائة عند إضافة أقاليم ما وراء البحار التابعة لفرنسا.
لكن المعهد قال إن تراجع البطالة في 2016 جاء «أقل من توقعاته» في آخر جدول له في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، الذي أشار فيه إلى انخفاض بمقدار ثلاث نقاط.
ويتوافق ذلك مع وفاء الرئيس هولاند بتعهده الذي قطعه على نفسه نهاية السنة الماضية بعدم الترشح لولاية ثانية حال عدم تحسن وضع البطالة بالبلاد، مقرا بأن «عكس منحنى البطالة جاء متأخرًا»، خصوصا أن ملف البطالة يعد إحدى أهم النقاط التي تهم الناخب الفرنسي، وتوجه بوصلة التصويت.
وفي هذا الإطار، يعد ماكرون في حال انتخابه بتخصيص 50 مليار يورو من أجل الاستثمار، من بينها 15 مليار يورو لتمويل دورات تكوينية للشبان الفرنسيين والعاطلين لكسب مؤهلات جديدة تسمح لهم بالعودة إلى عالم العمل، كما ينوي إنفاق 15 مليار يورو خلال خمس سنوات لتعزيز ما يسمى «الاقتصاد التضامني الجديد» الذي يحترم البيئة، وتحديث وسائل النقل العمومية والصحة وتعزيز الإدارة الرقمية، فضلا عن التخلي عن الطاقة النووية بشكل تدريجي واستبدال الطاقة المتجددة بها.
لكنه من جهة أخرى، يخطط لإلغاء 120 ألف وظيفة في القطاع العام خلال خمس سنوات، والتحكم في الميزانية العامة لكي لا يتجاوز العجز المالي 3 في المائة وفق ما ينص عليه الاتحاد الأوروبي، كما تعهد أيضا بعدم رفع قيمة الضرائب المفروضة على الفرنسيين، بل تخفيضها بهدف «تعزيز قدرتهم الشرائية وتشجيع الاستثمار»، كما يخطط أيضا لإلغاء ضريبة السكن التي يدفعها بعض الفرنسيين ذوو الدخل المتدني ابتداء من عام 2019، وكل ذلك بحسب ما نقلته عنه شبكة «فرانس 24» الفرنسية أول من أمس. وفي عام 2015، مثلت النفقات العامة في فرنسا نحو 57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع متوسط بلغ 47 في المائة فقط في العام نفسه ببقية دول منطقة اليورو. ومع مستوى دين عام مرتفع للغاية يمثل أكثر من 97 في المائة من الناتج الإجمالي، متجاوزا السقف الأوروبي عند 60 في المائة، ومن أجل تحسين مؤشرات اقتصادها الكلية، فإن كثيرا من المراقبين يرون أن باريس ربما تضطر إلى الدخول في «مرحلة تقشف إجباري» إذا لم يتحسن الوضع حتى نهاية العام الحالي؛ أي أن الحكومة المقبلة سيكون عليها فعليا تحسين تلك المؤشرات في غضون ما يزيد قليلا على 6 أشهر فقط.
اقتصاد فرنسا بين «مؤشرات مستقرة» ومستقبل يرسمه الناجحون
نمو معتدل وتقلص مؤشر البطالة... لكن مهمة صعبة في انتظار الإدارة المقبلة
اقتصاد فرنسا بين «مؤشرات مستقرة» ومستقبل يرسمه الناجحون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة