بعد سبع مجموعات شعرية وخمس روايات، أصدرت الشاعرة والروائية المغربية فاتحة مرشيد مجموعتها القصصية الأولى التي تحمل عنوان «لأن الحُب لا يكفي» وباللغتين العربية والإنجليزية. وقد ضمّت هذه المجموعة الصادرة عن «مركز الكتاب العربي» بالدار البيضاء ثمانية نصوص قصصية متنوعة في ثيماتها وأشكالها ومقارباتها الفنية. تقتصر هذه الدراسة النقدية على ثلاث قصص مختلفة المضامين، نعتقد أنها تمثل الرؤية الفنية للقاصة فاتحة مرشيد وترصد محاولاتها الأولى في خلق أنساق سردية ليست جديدة تماماً لكنها مغايرة على الأقل للأنماط القصصية السائدة التي تعتمد على مُعطيات وعناصر متقشفة جداً.
تبدو قصة «السرّ في الأنامل» هي الأكثر إثارة للجدل من بقية القصص السبع بسبب جرأة موضوعها، وتعدد شخصياتها، واتساع مساحة الزمان والمكان فيها، الأمر الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأنها «نوفيلا» مضغوطة وليست قصة قصيرة؛ لأن هذه الأخيرة تُعالج موقفاً أو حالة شعورية ما قد تنتاب البطل أو القاص نفسه، وغالباً ما يكون الحدث خاطفاً، والشخصيات قليلة جداً، أما «الزمكان» فقد يتضاءل أو يغيب تماماً من دون أن يؤثِّر على النسق السردي للقصة القصيرة.
تكتظ هذه المجموعة القصصية بثيمات متعددة، مثل الحُب والخطيئة، والحُريّة والقمع، والهجرة والحنين، والتأقلم والنسيان، بل إن النص الواحد قد يدور على أكثر من ثيمة، ويحلّق في أكثر من مَدار. ولو تأملنا القصة الاستهلالية لوجدنا فيها الزواج، وقراءة البخت، والبطالة المُقنّعة، والاحتيال، والمتاجرة بالممنوعات، وموهبة الأنامل الساحرة، التي تشكِّل العمود الفقري للقصة، بينما لا يتعدّى المضمون رغبة سعيد البَزْناس في إقناع شهرزاد بالزواج من مسيو فيليب، بغية الاستيلاء على بيته القديم الذي رممه وأسماه «رياض الأحلام» ليعيش فيه حكايات «ألف ليلة وليلة».
تتمتع هذه القصة ببنية تنبؤية موازية ترِد على لسان العرّافة «منانة» وتكاد تختصر الأحداث الحقيقية التي تقع على أرض الواقع: «سيأتيكِ السعد من البعيد قاطعاً البحار، يفوقكِ سناً وثروة وجاهاً، والسرُّ في الأنامل» (ص13) وإذا ما أضفنا النبوءة الثانية، فإن المشهد الناقص سيكتمل تماماً حين تقول لها العرّافة: «هناك أفعى ببيتكِ، تتلوّى تحت فراشك، احذري الأفعى يا ابنتي» (ص28). ومثلما تكشف قراءة العرافة الأولى أنّ «السعد» القادم من وراء البحار هو مسيو فيليب الذي ستقترن به لاحقاً، فإن القراءة الثانية تشير إلى «ليلى»، خليلة البَزْناس وشريكته التي خطّطت لعملية الاستيلاء على المنزل، وبيعه، وتهريب الأموال إلى الخارج. وفي خضمّ المشادة العنيفة التي حدثت بين الطرفين في المنزل تباغتهم الشرطة لتزجّ البَزْناس وشريكته ليلى في السجن، ويُخلى سبيل شهرزاد كي تتفرّغ للاهتمام بزوجها الذي أُصيب مؤخراً بجلطة دماغية وتدلِّكه «تدليكاً طبياً» علّه يتعافى من شلله النصفي، فالسرّ يكمن في أناملها الذكيّة كما تقول النوفيلا.
تبرع فاتحة مرشيد في رصد الثنائيات في هذه القصص، فحينما تتحدث عن الغربة لا بدّ أن تُعرِّج على الحنين، وحينما تتكلّم عن الثلج القارس لا بدّ أن تتذكّر الشمس الحارقة وهكذا دواليك. وقصة «شِراك الحنين» هي أفضل نموذج قصصي في هذا الإطار. لا شك في أنّ الراوي هو الشخصية الرئيسية في هذه القصة، فلا غرابة أن يعود إلى الوراء خمسين عاماً ليتحدث لنا عن حُبه لابنة عمّه «فاطمة» التي زوّجوها بالإكراه لشقيقه الأكبر على وفق الأعراف القبلية، الأمر الذي يدفعه للهجرة إلى مونتريال ومقاطعة الأهل والأقرباء جميعاً. ما يهمنا في هذه القصة ليس التأثيث رغم أهميته، وإنما الحالة الشعورية التي تنتاب الأب الراوي وهو ينتظر قدوم أبنائه الثلاثة في عيد ميلاده. وإذا كان يختلق الأعذار لعدم حضور ولديه؛ لأنهما يتأخران في النوم يوم الأحد، فإن ابنته «مريم» لا بد أن تأتي لأنها لا يمكن أن تنسى عيد ميلاده، فهي: «مثل فاطمة جميلة وحنون». ولكي يُنهي حالة القلق التي يمرّ بها الراوي بعد أن هبط الليل يقول بيقين ثابت: «لا بد أن مريم قد جاءت ووجدت النور مُنطفئاً، من دون شك اعتقدت أنني نمتُ وتحاشت إزعاجي» (ص88).
تحضر المرأة بقوة في قصص هذه المجموعة، فهي إمّا عاملة أو موظفة أو متقاعدة، كما في قصة «مسلسل تركي» الذي تناصفت فيه البطولة امرأتان متقاعدتان، وهما آمال، موظفة سابقة في بنك ومطلّقة ربّت بناتها الثلاث وزوّجتهنّ قبل أن تتفرغ لنفسها كلياً في خريف العمر، وخديجة التي تعمل في وكالة للأسفار أُحيلت على التقاعد بعد ستة أشهر من وفاة زوجها، ولا تنتظر شيئاً سوى حُسن الختام. تقوم هذه القصة على المفارقة التي ستقلب حياة خديجة رأساً على عقب، فرئيس الجمعية الذي تأخر قليلاً في الوصول إلى المطار لم يكن في واقع الأمر إلا فارس أحلامها الذي لم تستطع الزواج منه رغم أنها أحبته وتعلّقت به لأن الأب قرّر أن يزوِّجها لابن صديقه، بينما ينتقل الحبيب إلى مدينة «فاس» ليلتقي بخديجة بعد أربعين عاماً في مطار الرباط، ويكون مقعده ملاصقاً لمقعدها، ثم نعرف أنه طلّق ثلاث مرات، وهو الآن أب لخمسة أبناء مستقلين بحياتهم. لعل إجابة خديجة على سؤال آمال الاستفهامي: مِن أين عرفتِ رئيس الجمعية؟ يضع حداً لمفعول المفاجأة حينما نعرف: «إنه حُب أول العمر يعود في نهايته» (ص66).
تتوفر قصص فاتحة مرشيد على بنى معمارية متماسكة، وشخصيات رئيسية، ولغة حيوية، مكثفة، خالية من الزوائد والاستطرادات. كما يتسم بعض قصصها بالنكهة المحلية التي يستشفها القارئ من خلال الأمثال ومنظومة القِيم والتقاليد الاجتماعية المغربية التي توظفها القاصّة في نصوصها السردية. بل إن بعض المسلسلات التلفازية، والأماكن الأثرية، والقصائد المُغنّاة التي ترِد في بعض القصص تحيل إلى روح العصر وتؤشِّر إلى أبرز العلامات المضيئة فيه.
ما مِن قاص يعتمد كلياً على مخيلته مهما كانت مُجنّحة، فلا بد أن ينهل من خزين حياته وتجاربه الشخصية المتراكمة. ولو تفحّصنا هذه المجموعة القصصية لوجدنا فيها باقة من الآراء الشخصية التي تعود لفاتحة مرشيد نفسها، حتى وإن جاءت على ألسنة الشخصيات الرئيسة في الأعمّ الأغلب، بل إنها استعملت في قصة «اللعنة الجميلة للشِّعر» الاسم الحقيقي لديوانها الموسوم «ورقٌ عاشق» وجعلته جزءاً مهماً من اللعبة الفنية التي تتكئ عليها القصة.
ليس بالضرورة أن تتبع القاصة الشروط والضوابط الصارمة في كتابة النص القصصي، فنحن مع حرية الكاتب في أن يذهب بالتجربة إلى أقصاها، شرط ألا يقدّم نصوصاً مشوّهة لا تنتمي إلى جنس أدبي محدد.
لا يكمن نجاح القاصة فاتحة مرشيد في جرأتها على كشف المستور، وفضح المسكوت عنه، وتعرية الموضوعات اللا مُفكَّر فيها، وإنما في اقتحام الثيمات المجهولة التي لا تعرف عنها أشياء كثيرة تُعينها في الولوج إلى غابة السؤال العلمي أو الفلسفي أو النفسي، الذي يرتدي لبوساً أدبياً قادراً على أن يطوِّعه أو يروِّضه في أقل تقدير.
لا بد أن نشيد في خاتمة المطاف بالترجمة الإنجليزية الموفقة التي أبدع فيها نور الدين زويتني، متجاوزاً فيها كثيراً من الصعوبات التي تتعلق بالأمثال، والأشعار، والمصطلحات الشعبية التي تخللت متن المجموعة القصصية برمتها.
النكهة المحلية في قصص مغربية
«لأن الحُب لا يكفي» لفاتحة مرشيد ... مجموعة قصصية بثيمات متعددة
النكهة المحلية في قصص مغربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة