رحيل محمد بوستة... القوة الهادئة في «الاستقلال» المغربي

عد أحد البناة الأولين لصرح الدبلوماسية المغربية مع الوزير أحمد بلافريج

محمد بوستة
محمد بوستة
TT

رحيل محمد بوستة... القوة الهادئة في «الاستقلال» المغربي

محمد بوستة
محمد بوستة

توفي السياسي المغربي، والأمين العام لحزب الاستقلال الأسبق محمد بوستة، الليلة قبل الماضية، بالعاصمة الرباط، في سن الـ 92 بمدينة مراكش.
وبعث العاهل المغربي الملك محمد السادس برقية تعزية ومواساة إلى أفراد أسرة الفقيد، أعرب فيها «لكافة أهله وذويه، ومن خلالهم لعائلته السياسية الوطنية وفي حزب الاستقلال عن أحر التعازي وأصدق مشاعر المواساة في هذا المصاب الجلل، الذي لا راد لقضاء الله فيه».
وأمضى الراحل سنوات حياته موزعا بين اهتمامين كبيرين: الانخراط حتى النخاع في العمل السياسي منذ شبابه المبكر، ما أهله ليصبح عضوا في الحكومات المغربية الأولى بعد استقلال البلاد؛ إذ يعد الراحل أحد البناة الأولين لصرح الدبلوماسية المغربية إلى جانب الوطني الكبير الحاج أحمد بلافريج، أول من تقلد منصب وزارة الخارجية ووضع أسسها المادية والمعنوية.
والمتأمل في سجل الوظائف الحكومية التي تقلدها بوستة سيلاحظ أنه تولى المسؤوليات التي تتطلب التفكير وبعد النظر والحكمة والبصيرة السياسية، انسجاما مع خلفيته الفكرية وهدوء الطبع والمرح المتأصل فيه مثل أغلب سكان مراكش؛ وكذلك على اعتبار أنه درس القانون والفلسفة في جامعة «السوربون» بباريس، حيث زامل فيها الراحل عبد الرحيم بوعبيد، واشتركا معا في النشاط الوطني.
والتخصص الأول، أي الحقوق، أهله لممارسة المحاماة لسنين طويلة بالرباط، انتخب خلالها نقيبا مرتين للمهنة، وترك فيها السمعة الطيبة. أما ولعه بالفلسفة فقد ساعده من جهته على تعميق التفكير في الشأن السياسي لبلده سواء من خلال اضطلاعه بمهامه الرسمية في وزارات سيادية: العدل والوظيفة العمومية والخارجية، وكذا من خلال نشاطه الحزبي، ليصبح ساعدا أيمن لزعيم حزب الاستقلال الراحل الكبير علال الفاسي، الذي فاجأته المنية في بوخارست عام 1974، حيث كان يقوم رفقة بوستة بزيارة حزبية من أجل الدفاع عن قضيتي الصحراء وفلسطين.
وكان اصطحابه من طرف الزعيم علال في الكثير من زياراته إلى الخارج، إشارة ضمنية على أنه الخليفة غير المسمى، ومن سيقود سفينة الحزب بعد رحيل الرئيس، خاصة أنه يعرف أن مرض القلب لا يستأذن أحدا. وفعلا صار بوستة ملازما كالظل للرئيس علال، منذ أن أصيب الأخير بأزمة قلبية شديدة بداية السبعينات خضع على إثرها للعلاج والراحة أياما بإحدى مصحات الرباط، بمتابعة يقظة على مدى الساعات من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، الذي وإن اختلف أحيانا مع زعيم «الاستقلال»، فإنه كان يقدر فيه عاليا وطنيته الصادقة ودفاعه عن الملكية، فضلا عن ثقافته الموسوعية.
ولم يكن بوستة في حاجة لبذل مجهود أو خوض حملة من أجل الوصول إلى مقعد الأمين العام لحزب الاستقلال، بدل لقب «الرئيس» الذي قرر المؤتمر العام للحزب أن يظل مقرونا باسم علال الفاسي إلى الأبد؛ ولا أحد يحمله بعده، تعبيرا عن وفاء مطلق لشخصه، وتثمينا لجهاده وتضحياته من أجل الوطن.
وطوال مدة عمله قريبا من رئيس الحزب، لم يبد بوستة في وقت من الأوقات، رغبة معلنة أو خفية في تبوأ قيادة التنظيم. ولم يعرف في الوسط الحزبي أن له تيارا مؤيدا متعصبا له، أو سعى شخصيا لتأسيسه. كان يعتبر نفسه حقا واحدا من أفراد العائلة الاستقلالية، لذلك وقع عليه الإجماع بسهولة في المؤتمر الموالي لوفاة علال الفاسي.
ولم يفصح الراحل بوستة في يوم من الأيام عن حقيقة أنه حظي بسند معنوي قوي من خارج حزب الاستقلال، حسم في أمر اختياره، من دون غيره من الطامعين الذين لم يجرؤوا على رفع رؤوسهم، إن خطر ذلك ببالهم. ولم يكن ذلك السند الذي فصل في النازلة، سوى الملك الحسن الثاني الذي طالما أعجبه في بوستة هدوء طبعه وتكوينه القانوني، وإلمامه الجيد باللغة الفرنسية التي تتيح له متابعة ما يجري.
وأشعر الحسن الثاني ورثة علال الفاسي، بالتلميح والإشارة أنه لا يرى أنسب من بوستة لقيادة الحزب، بل ربما أفهمهم أنها الرغبة والوصية الضمنية لزعيمهم الراحل. وقطعا ساهم الملك الحسن الثاني في تمهيد الطريق أمام بوستة ليصبح أمينا عاما، ليس لأن الأخير كان في وضعية ضعيفة داخل الحزب، بقدر ما يعكس حرص الملك على أن يظل الحزب محصنا من الصراعات بين التيارات والأشخاص. بل يمكن القول إن «الاستقلال» شكل احتياطا استراتيجيا وسياسيا للملك الحسن الثاني، يلجأ إليه عند الضرورة؛ ولا يمانع في نشوب خلاف بين الطرفين أحيانا، فيغضب الملك ويرفع «الاستقلال» صوته في صفوف المعارضة المطالبة بالإصلاحات الدستورية والسياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، إن في إطار «الكتلة الوطنية» التي أسست عام 1971 على عهد علال الفاسي، احتجاجا على انفراد الملك الراحل بكتابة دستور عام 1970 الذي شكل تراجعا كبيرا مقارنة مع الدستور الأول عام 1962، لذلك وصف علال الفاسي التحالف بين أعضائها بالزواج الكاثوليكي، وهو تعبير مجازي أزعج الملك الراحل في حينه. واستمر النضال في إطار الكتلة الديمقراطية (الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية) من أجل ذات مطالب الإصلاح حتى استجيب إليها جزئيا خلال تسعينات القرن الماضي، (عقد التصالح السياسي بامتياز). ومن حسن حظ بوستة أن زعامة الحزب آلت إليه، وقد حدث تحول كبير في الحياة السياسية بالبلاد، علامته المميزة شعار «المغرب الجديد» الذي أطلقه الملك الحسن الثاني خريف 1974 لطي جزء من صفحات الصراع بينه وبين الأحزاب الوطنية الثلاثة، بغاية لم الصف الوطني وحشد الطاقات من أجل قضية الصحراء؛ ما مكن العاهل الراحل من تنظيم المسيرة الخضراء، المحطة المفصلية في مسار استعادة الحق المهدور.
وبدءا من منتصف سبعينات القرن الماضي حدث تقارب كبير بين القصر والمعارضة، وأمكن خوض معارك سياسية مجيدة في الساحة الخارجية، لكن بوادر الخلاف بخصوص التدبير السياسي كانت تندلع بين الفينة والأخرى؛ أعطى بوستة خلالها أكثر من دليل على أنه ليس سياسيا طيعا سهل الانقياد، يأتمر بأوامر القصر، خاصة إذا اشتم أنها من تدبير أشخاص لا يضمرون لحزب الاستقلال الود، ضمن محيط الملك الحسن الثاني، يؤمن أنهم من شجعوا الملك الراحل على التخلص من حزب الاستقلال، حيث ينعتونه بالمحافظ فكريا والتقليدي اجتماعيا؛ فاقترحوا على الملك تأسيس بدائل تنظيمية عصرية للأحزاب الوطنية التاريخية للتخلص من عبئها.
لم يسع بوستة إلى القطيعة مع القصر في أي لحظة، متحملا من أجل ذلك نقدا في حزبه ومن حلفائه بالمعارضة، وخاصة من الاتحاد الاشتراكي الذي حرص على عدم التفريط في حزب الاستقلال. ويمكن القول إن التناغم الذي حصل بين الحزبين خلال العقود الأخيرة ساهم في صنعه إلى حد كبير بوستة وعبد الرحيم بوعبيد، أكمله خليفته عبد الرحمن اليوسفي، الذي حقق مع بوستة إنجازا سياسيا وتاريخيا غير مسبوق، تمثل في تقديم مرشحين مشتركين باسم الحزبين لخوض الاستحقاقات التشريعية لعام 1992 التي كان يفترض أن تمهد للصيغة الأولى من حكومة التناوب، برئاسة بوستة، ويقال إن الذي عرقلها بكل ما أوتي من دهاء أمني هو الوزير الراحل إدريس البصري، الذي استغل اعتراض بوستة على استمراره وزيرا للداخلية في حكومة يفترض أن يرأسها، فما كان من الوزير النافذ إلا أن أوغل صدر الملك ضد بوستة فأجهضت محاولة التناوب الأولى.
بات من الطبيعي أن يخلي بوستة مقعد الأمانة العامة للحزب لشريكه المحامي عباس الفاسي، الذي سيصبح رئيس حكومة فاجأها حراك الربيع العربي فلم تكمل ولايتها القانونية.
ويصعب اختزال مسار زاخر بالعطاء والتجارب المريرة للسياسي الراحل الذي لم يعذبه المرض طويلا، فودع الدنيا بعد أن عبر في تصريح تلفزيوني عن خوفه على مستقبل الحزب الذي تتقاذفه الرياح الهوجاء في الوقت الراهن، على خلفية مستجدات الحياة السياسية في المغرب وأسلوب التعاطي معها، ولا تدري القيادة كيف تتعامل معها مثل باقي مكونات الطبقة الحزبية.
كان بوستة حكيما، قولا وفعلا. سيرته السياسية نقية بيضاء. فهو لم يتنازل عن كرامته الشخصية، ولم يتاجر بالرصيد السياسي لحزبه، لكنه بذات الوقت لم يكن خنوعا ولا مزايدا بمعارضته. كان وطنيا غيورا، بعيد النظر، عفيف اللسان، لطيف المعشر، متواضعا إلى أقصى الحدود، يخالط الناس من مختلف المستويات، حريصا على الإصغاء للفئات الشعبية، مخلصا لمهنته الأصلية أي الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم.



مخابز خيرية في صنعاء تتعرض لحملة تعسف حوثية

يمنيون يتجمعون أمام مخبز في صنعاء للحصول على أرغفة مجانية (الشرق الأوسط)
يمنيون يتجمعون أمام مخبز في صنعاء للحصول على أرغفة مجانية (الشرق الأوسط)
TT

مخابز خيرية في صنعاء تتعرض لحملة تعسف حوثية

يمنيون يتجمعون أمام مخبز في صنعاء للحصول على أرغفة مجانية (الشرق الأوسط)
يمنيون يتجمعون أمام مخبز في صنعاء للحصول على أرغفة مجانية (الشرق الأوسط)

استهلت جماعة الحوثيين شهر رمضان بتنفيذ حملات تعسف ضد أفران الخبز الخيرية بالعاصمة المختطفة صنعاء، وذلك في سياق إعاقتها المتكررة للأعمال الإنسانية والخيرية الرامية للتخفيف من حدة معاناة اليمنيين بالمناطق الخاضعة لسيطرتها.

وتحدثت مصادر محلية في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، عن بدء مشرفين حوثيين برفقة مسلحين يتبعون ما تسمى «هيئة الزكاة الحوثية» تنفيذ حملات دهم بحق مخابز خيرية تتبع مبادرات تطوعية ومؤسسات خيرية ورجال أعمال في مديريات متفرقة بصنعاء، لإرغام العاملين فيها على دفع إتاوات، أو تعرضها للإغلاق والمصادرة.

وأكدت المصادر أن الحملة المباغتة استهدفت في أول يوم من انطلاقها 14 مخبزاً خيرياً في أحياء بيت معياد وبير عبيد والجرداء والقلفان والسنينة ومذبح بمديريتي السبعين ومعين بصنعاء، وأسفرت عن إغلاق 4 مخابز منها لرفضها دفع إتاوات، بينما فرضت على البقية دفع مبالغ مالية يتم توريدها إلى حسابات ما تسمى «هيئة الزكاة».

اتساع رقعة الجوع يجبر آلاف اليمنيين للاعتماد على المبادرات الإنسانية (أ.ف.ب)

وأثار الاستهداف الحوثي موجة غضب واسعة في أوساط السكان والناشطين في صنعاء، الذين أبدوا استنكارهم الشديد لقيام الجماعة بابتزاز المخابز الخيرية، رغم أنها مُخصصة للعمل التطوعي والخيري، وإشباع جوع مئات الأسر المتعففة.

استهداف للفقراء

واشتكى عاملون في مخابز خيرية طاولها استهداف الحوثيين في صنعاء، لـ«الشرق الأوسط»، من تكثيف حملات التعسف ضد المخابز التي يعملون فيها، وأكدوا أن الحملة التي شنتها الجماعة أجبرتهم على دفع إتاوات، بينما هددت أخرى بالإغلاق حال عدم الاستجابة لأوامرها.

واتهم العاملون الجماعة الحوثية بأنها تهدف من خلال حملات التعسف لتضييق الخناق على فاعلي الخير والمؤسسات والمبادرات التطوعية الإنسانية والخيرية بغية منعهم من تقديم أي دعم للفقراء الذين تعج بهم المدن كافة التي تحت قبضتها.

امرأة في صنعاء تبحث في برميل القمامة عن علب البلاستيك لجمعها وبيعها (الشرق الأوسط)

ويزعم الانقلابيون الحوثيون أن حملتهم تستهدف الأفران التي تقوم بتوزيع الخبز خلال رمضان للفقراء بطريقة تصفها الجماعة بـ«المخالفة»، ودون الحصول على الإذن المسبق من «هيئة الزكاة»، والمجلس الأعلى للشؤون الإنسانية التابع لها، والمخول بالتحكم في المساعدات.

وبينما حذرت مصادر إغاثية من مغبة استمرار الاستهداف الحوثي للمخابز الخيرية لما له من تأثير مباشر على حياة ومعيشة مئات الأسر الفقيرة، اشتكت عائلات فقيرة في صنعاء من حرمانها من الحصول على الخبز نتيجة حملات التعسف الأخيرة بحق الأفران.

وتؤكد المصادر الإغاثية أن التعسف الحوثي يستهدف الفقراء والمحتاجين في عموم مناطق سيطرة الجماعة من خلال مواصلة انتهاج سياسات الإفقار والتجويع المتعمدة، والسعي إلى اختلاق مبررات تهدف إلى حرمانهم من الحصول على أي معونات غذائية أو نقدية.

نقص الغذاء

ويتزامن هذا الاستهداف الانقلابي مع تحذيرات دولية حديثة من نقص الغذاء في اليمن حتى منتصف العام الحالي.

وفي تقرير حديث لها، نبَّهت «شبكة الإنذار المبكر من المجاعة» إلى أن ملايين اليمنيين سيعانون من عجز حقيقي في استهلاك الغذاء حتى منتصف العام الحالي على الأقل، حيث تستمرُّ الصدمات الاقتصادية الكلية، الناجمة عن الصراع المستمر في البلاد، في تقييد وصول الأسر بشدة إلى الغذاء.

يمنيات أمام بوابة أحد المطاعم في صنعاء للحصول على وجبة مجانية (الشرق الأوسط)

ولفتت الشبكة المعنية بمراقبة أوضاع الأمن الغذائي في العالم والتحذير من المجاعة إلى أن مجموعة من المناطق تحت سيطرة الحوثيين لا تزال تواجه نتائج الطوارئ، وهي «المرحلة 4» من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، أي على بُعد مرحلة واحدة من المجاعة.

واعتاد الانقلابيون الحوثيون منذ سنوات أعقبت الانقلاب والحرب، على استخدام مختلف الأساليب والطرق لتضييق الخناق على الجمعيات والمبادرات المجتمعية الإنسانية والخيرية، بغية حرمان اليمنيين من الحصول على أي مساعدات قد تبقيهم على قيد الحياة.