بغداد مدينة حية، فالخراب الذي يأكل أبنيتها وشوارعها لم ينل من نفوس أهلها الذين بدأوا العد التنازلي لاقتراع يوم غد. شوارعها مزدحمة بالمارة والسيارات، مقاهيها ومطاعمها تزدهر ومنذ ساعات المساء الأولى بالعوائل خاصة في مناطقها الراقية، مثل شارع الكندي في منطقة الحارثية، والمنصور، والكرادة التي فجعت بانفجارين خلال أقل من أسبوعين.
الحياة هنا تجري بلا تخطيط مسبق، لكنها متدفقة مثل نهر دجلة الذي قلت مناسيب مياهه، والموت هنا يشبه إلى حد كبير لعبة «اليانصيب»، الموت حسب الحظ والقدر الذي يرسمه الإرهابيون، لا أحد يعرف أي سيارة ستنفجر بعد لحظات وأين وأي أرواح بريئة ستزهق. مع ذلك، تفتح مقاه ومطاعم راقية جديدة أبوابها مرحبة بمئات العائلات التي لم تعد خاضعة للخوف والتهديد.
العراقيون يحولون المآسي إلى سخرية، ويتندرون على الملصقات الانتخابية وما تحمله من صور وشعارات ووعود، رغم أنهم عازمون على الذهاب إلى المراكز الانتخابية للإدلاء بأصواتهم بلا تردد، فقد هيأوا أسماء المرشحين وأرقام قوائمهم وتسلسلهم مسبقا وتحضروا لهذا الحدث الذي يعتقدون أنه سيغير ولو قليلا من المشهد الحياتي وواقعهم.
ولعل آخر النوادر التي ترافق التحضير للتصويت التي يتداولها العراقيون في الشارع البغدادي هي دخول المنجمين ومن يدعون ممارسة السحر من قراء الكف والتوقع بما سيحدث مستقبلا على خط الانتخابات. ويتداول الناس قصصا عن استدعاء بعض المرشحين لهؤلاء المنجمين لقراءة طالعهم ومعرفة عدد الأصوات التي سيجنونها ولمساعدتهم على الفوز بالمقعد البرلماني المأمول، كما يتداول العراقيون معلومات عن خواتم غالية (خاتم الحظ) المصوغ من الفضة والمرصع بحجر «مبارك» أسود أو بني غامق. وبسؤال أحد قادة الكتل الانتخابية عن صحة هذه الحكايات والمعلومات أجاب مبتسما: «نعم هذا صحيح»، مستطردا: «أنا من بين من عرض خاتم الحظ عليه وأنه خاتم مبارك ومنقوش على حجره البني الغامق أو الأسود كلمات تجلب الحظ ويضمن فوزي في الانتخابات»، مشيرا إلى أن «سعر الخاتم يعتمد على أهمية المرشح، سواء كان زعيم كتلة أو مرشحا اعتياديا، وعلى عدد الأصوات التي يريد الحصول عليها، وفي الغالب فإن الخاتم الذي عرض علي سعره عشرة آلاف دولار لكنني سخرت من القصة كلها ورأيتها نكتة، والنكتة الكبرى أن هناك بعض المرشحين بالفعل لجأوا إلى المنجمين واشتروا بعض هذه الخواتم».
العراقيون، مثل أي شعب حي، لا يستحقون كل ما يمرون به، فالحفلات الموسيقية والعروض المسرحية والمعارض التشكيلية مستمرة والجمهور لم يقاطعها. ويقول الموسيقي العراقي حسين فجر (عازف على آلتي العود والكمان) إنه «قبل أسبوعين تقريبا أحيينا حفلة موسيقية في منتدى المسرح وازدحم الجمهور فيها»، موضحا: «جمعنا مواهب موسيقية شابة وقمت بتدريبهم وتكوين فرقة موسيقية حملت اسم (بغداد)، وأعددنا منهاجا من المؤلفات التراثية والحديثة وأقمنا حفلا متواضعا بإمكانياته المادية، لكنه كان غنيا بإبداعه».
بعض البغداديين استغل العطلة الرسمية (أسبوع كامل)، التي بدأت أمس، وشد الرحال إلى مدن إقليم كردستان، أو إلى عمان حيث تمكنهم القوانين من الإدلاء بأصواتهم خارج مناطقهم طالما هم يحملون البطاقة الانتخابية الإلكترونية حسب الإيضاح الذي أعلنت عنه المفوضية المستقلة للانتخابات.
قادة الكتل والمرشحون للانتخابات البرلمانية هم الأكثر قلقا من سواهم، فهم يظهرون بين الفينة والأخرى على شاشات التلفزيون، داعين العراقيين إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع «لانتخاب من تثقون به وبنزاهته»، وتعلق زينب، مدرسة لغة إنجليزية، قائلة: «بالتأكيد يجهد المرشحون أنفسهم من أجل الوصول إلى البرلمان لأن عضويته ستغير حياتهم كليا من حيث الامتيازات المادية الضخمة للغاية من رواتب ومخصصات وسفر وبيوت وسيارات وحمايات ووجاهة، ناهيك عن الصفقات والعقود والمصالح التي سيعقدونها هم أو عائلاتهم»، مشيرة إلى أنها قررت «التصويت لمرشحة اعتقدها نزيهة ويمكن أن تخدم البلد والناس وشجعت صديقاتي على أن لا ينتخبن أيا من الأسماء القديمة التي سرقت أموالنا واستغلت موقعها ولم تقدم أي شيء للمواطن». وتضيف زينب قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «نعم نحن في انتظار يوم التصويت أنا وولدي وابنتي، وسنذهب رغم أننا نعتقد أنه لن يحدث تغيير كبير، لكننا سنكون سعداء بأي تغيير يحصل لأنه البداية لتغيير أكبر».
رأي زينب يعبر عن آراء الكثير من البغداديين الذين التقتهم «الشرق الأوسط» في الشوارع أو في المقاهي أو الأسواق، إنهم يقولون: «لن ننتخب الأسماء المكررة والقديمة التي لم تقدم لنا شيئا». وهناك شباب يبشرون بالخير ومنهم حسن السامرائي (21 سنة) الذي يقول: «عندما اخترت أن أنتخب مرشحة هي أستاذة جامعية اكتشفت فيما بعد أنها شيعية بينما أنا سني، نريد أن ننتهي من قصة الشيعة ينتخبون شيعة والسنة ينتخبون سنة والأكراد ينتخبون الأكراد»، مشيرا إلى أن «أصدقائي سينتخبون مرشحا كرديا». ويضيف: «لقد تمعنا بقراءة البرامج الانتخابية والمستوى العلمي للمرشحين، ذلك أن هناك شبه أميين في البرلمان العراقي الحالي وهناك طائفيون يطلقون الشعارات فقط».
وعلى ما يبدو، فإن ردة فعل غالبية العراقيين ضد أعضاء البرلمان المنتهية ولايته وما أطلقوه من وعود دون تنفيذ ستدفعهم لانتخاب أسماء جديدة من فئة الشباب ومن فئات علمية واجتماعية متطورة ذات تفكير مديني (من مدينة). لكن الصورة تختلف في بقية المدن العراقية ذات الخلفيات الريفية إذ يعتمد المرشح على عشيرته، وفي موضوع العشائر حدثت أكثر من مشكلة خاصة عندما يبرز أكثر من مرشح من العشيرة نفسها ويطالب شيخ عشيرته بأن يدعمه وليس المرشح الآخر.
شباب العراق ينحازون للوجوه الجديدة على حساب العرق والمذهب والعشيرة
المرشحون الأكثر قلقا.. وبعضهم يستنجد بالمنجمين لحسم مقاعدهم
شباب العراق ينحازون للوجوه الجديدة على حساب العرق والمذهب والعشيرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة