مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

الظهير «الاشتراكي» الأيسر في المباراة ضد خط الوسط «المحافظ»

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا
TT

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

بدأ مارتن شولتز، المرشح الاشتراكي لمنصب المستشارية في ألمانيا بالضد من المستشارة الألمانية المحافظة أنغيلا ميركل، حياته الشبابية لاعب كرة قدم، ولعب حينها ظهيرًا أيسر في فريق نادي رينانيا فورزيلين 05، واحتل مع فريقه المركز الثاني في بطولات الشباب بألمانيا الغربية آنذاك. ومع أن أحدًا في الحزب الديمقراطي الاشتراكي (الاجتماعي) لا يستطيع وصف شولتز بالـ«يساري»، فإن الحزب في حاجة ماسة حاليًا إلى «ظهير أيسر» ينتشل الاشتراكيين من نسبة تأييد دون الـ20 في المائة التي تهددهم في استطلاعات الرأي، ويعزز الهجمات من جهة اليسار ضد وسط الاتحاد المسيحي الذي يتخذ من سياسة «الوسط» شعارًا لكسب الناخبين. ويعتقد الاشتراكيون أن عزوف الناخبين عنهم يعود إلى التحالف الكبير مع المسيحيين، ويرون على هذا الأساس ضرورة رسم سياسة جديدة على يسار ميركل، ستعيد إليهم شعبيتهم الضائعة.

وصف مارتن شولتز مرة شغفه بلعبة كرة القدم بالقول إن «إنجيله» في السابق كان مجلة «كيكرز»، وأن مثله الأعلى كان فولغانغ أوفيرات. ومجلة «كيكرز» هي أشهر المجلات الرياضية الألمانية التي تهتم بكرة القدم، أما أوفيرات فهو لاعب الوسط في منتخب ألمانيا لكرة القدم في عقد السبعينات من القرن الماضي، وكابتن فريق 1 إف. سي. كولون السابق ورئيس النادي السابق. ولقد حاز أوفيرات كأس العالم لكرة القدم عام 1974، على حساب هولندا، إلى جانب رفاقه النجوم العالميين فرانز بيكنباور وغيرد موللر وسيب ماير وغيرهم.
ومعروف عن شولتز أنه من كبار مشجعي فريق نادي 1 إف. سي. كولن؛ لأنه ولد في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا، وعاش طوال عمره فيها، تحديدًا في مدينة فورزيلين القريبة من كولون. وتقع فورزيلين قرب مدينة آخن الحدودية، عند «المثلث» الألماني البلجيكي الهولندي، وربما كان هذا العامل السبب في إتقانه اللغتين الهولندية والفرنسية، إلى جانب اللغات الإيطالية والإنجليزية والإسبانية.
شولتز يتمتع بشعبية كبيرة في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا المزدحمة بالسكان (نحو20 مليونا)، ويعتقد زعماء الحزب الديمقراطي الاشتراكي أن تحقيقه نسبة عالية من الأصوات في هذه الولاية ربما يرجّح كفته على المستشارة أنغيلا ميركل.
* النشأة والمسيرة
ولد مارتن شولتز في إيشفايلر يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) 1955 لعائلة لها خمسة أطفال. ويوصف شولتز بأنه مولود «غروكو»، مع أنه ينبغي عليه الآن أن يضع حدًا للـ«غروكو» وأن يعيد الاشتراكيين إلى منصة الحكم. وللعلم، فالـ«غروكو» هو المختصر الذي استخدمته الصحافة الألمانية لوصف التحالف الكبير بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي (غروسه كوالاتسيون). ونال التعبير لقب أفضل مفردة ابتكرت في عالم الصحافة بألمانيا عام 2015. والحقيقة أن علاقة شولتز بـ«الغروكو» تعود إلى أنه ولد في عائلة مختلطة الولاء السياسي؛ إذ كان أبوه ألبرت ضابطًا في الشرطة ومن نشطاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي، في حين كانت أمه كلارا ربة بيت ومن نشطاء الحزب الديمقراطي المسيحي. وفي هذه البيئة «التحالفية» شق مارتن طريقه إلى منظمة الشبيبة الاشتراكية، وبنى من خلالها تاريخه في الحزب.
ولقد درس مارتن الصغير في فورزيلين بمدرسة إعدادية كاثوليكية، بيد أن عشقه كرة القدم كان يعرقل استمراره الدراسي. وبعد فشله سنتين متتاليتين وهو في الصف الحادي عشر، غادر المدرسة كي يحترف كرة القدم، لكن إصابة في الركبة أرسلته إلى التقاعد في سن مبكرة عام 1975، وكانت هذه الإصابة أيضا سبب إعفائه من الخدمة العسكرية أيضًا.
ويعترف شولتز في أكثر من مقابلة بأنه تحوّل إلى مدمن كحول بعد «تقاعده» الرياضي وهو شاب في العشرين من عمره. ويتابع القول «ليس لدي ما أخفيه»، ويؤكد أنه شرب كل ما وقعت عليه يده في تلك الفترة، وخصوصًا بين عامي 1975 – 1980، غير أن امتنع عن الشرب تمامًا، وحتى الآن، منذ 1980، وكان في هذه الأثناء قد بلغ لجنة الحزب القيادية في منطقة فورزيلين.
وأنهى الظهير الأيسر المقعد بين 1975 - 1977 دورة تأهيل مهني في مجال الكتب والمكتبات، وعمل لمدة خمس سنوات في مكتبات ومحال عدة لبيع الكتب، قبل أن يؤسس دارًا صغيرة للنشر في فورزيلين بالاشتراك مع شقيقته دوريس.
ومع أن شولتز لم يكن قد «شفي» بعد من إدمانه، انتخب في السبعينات في مجلس مدينة فورزيلين، ثم أصبح عمدة المدينة بين1987 واحتفظ بالمنصب حتى 1998. وهكذا أصبح بعمر 31 سنة أصغر عمدة لمدينة ألمانية منذ الحرب العالمية الثانية. وبعدها انتخب عضوًا في البرلمان الأوروبي عن اللائحة الاشتراكية بين 1994 و2017، وتولّى رئاسة البرلمان الأوروبي بين 2012 - 2017.
* مواقف لافتة شهيرة
ولعل من أشهر مواقف مارتن شولتز في البرلمان الأوروبي تبادله الاتهامات في جلسة برلمانية مع رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق اليميني سيلفيو بيرلوسكوني. فخلال جلسة البرلمان الأوروبي يوم 2-7-2003 انتقد مارتن شولتز سياسة بيرلوسكوني التي لا يفرق فيها بين منصبه السياسي وشخصيته بصفته مليارديرا، كما انتقد بعض تصريحات الزعيم الإيطالي المعادية للأجانب، وانتقد سياسته تجاه الأوساط الإعلامية. ورد بيرلوسكوني بالإيطالية أنه يقترح عليه أن يصبح «كابوش» في معسكر نازي للاعتقال. والـ«كابوش» هو السجين السياسي الذي يتعاون مع قيادة المعسكر النازي ضد مصلحة رفاقه. وبعد ذلك وصف بيرلوسكوني رده أمام الصحافة بأنه جاء على سبيل «نكتة»، وأنه ربط فقط بين اسم شولتز واسم هانز جورج شولتز، حارس معسكر الاعتقال النازي في المسلسل التلفزيوني الشهير «قفص يغص بالأبطال».
من ناحية أخرى، أثار شولتز حقد الأوساط اليمينية المتعصبة في إسرائيل، وتلقى تهمة العداء للسامية بهدوء، بسبب خطبة له أمام الكنيست الإسرائيلي باعتباره رئيس البرلمان الأوروبي؛ إذ قال شولتز أمام الكنيست يوم 12-2-2014 إن أكثر ما أثار عطفه هو سؤال وجهه إليه شاب فلسطيني يسأل: لماذا يتمتع الإسرائيلي بـ70 لترًا من الماء يوميًا، بينما لا يحصل الفلسطيني إلا على 17 لترًا من الماء يوميًا؟
* المعركة في الداخل
ولكن يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فاجأ مارتن شولتز الإعلام الأوروبي حينما أعلن استقالته فجأة من موقعه قائلا إنه يودّ التفرغ للعمل في البرلمان الألماني (لبوندستاغ)، وأن يرشح ضمن قائمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا.
وجرى ذلك بعد اتفاق التحالف الحكومي، بين الاشتراكيين والمحافظين ببرلين، على ترشيح وزير الخارجية الاشتراكي فرانك - فالتر شتاينماير لمنصب رئيس الجمهورية خلفًا للرئيس المستقل يواخيم غاوك. وتوقع الجميع حينها أن يرشح الاشتراكيون شولتز لموقع وزير الخارجية، أو لمنافسة المستشارة ميركل على مكتبها الواقع على نهر الشبري ببرلين.
وحسم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأمر بعد فترة قصيرة من إعلان ميركل ترشيح نفسها مجددًا. وقرّر الحزب في اجتماع للجنته المركزية أن يتولى شولتز قيادة الحزب محل زيغمار غابرييل (وزير الاقتصاد)، وأن يصار إلى ترشيح شولتز رسميًا لموقع المستشارية.
واستقبل المحافظون، أي الديمقراطيين المسيحيين، في البداية ترشيح شولتز بشيء من قلة الاكتراث، إلا أن انقلاب موازين استطلاعات الرأي بعد أسبوعين فقط من ترشيحه لصالح الاشتراكيين، أخذ يثير القلق في صفوفهم. ودفعت الحالة قيادتي الحزب (الاتحاد) الديمقراطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (الشقيق البافاري للديمقراطيين المسيحيين)، إلى عقد اجتماع خاص اتفق خلاله الحزبان اليمينيان الشقيقان على ترشح ميركل، وتأجيل الخلافات الحادة بينهما حول سياسة اللاجئين إلى أجل غير مسمى. وعلّق هورست زيهوفر، زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، على قرارات الاجتماع بالقول إنها اتخذت لمواجهة «خصم قوي». وهكذا أصبح الاشتراكي «القوي» شولتز سببا مهمًا في توحيد صفوف المحافظين المسيحيين بعدما بلغت الخلافات بينهما حد تهديد زيهوفر بترشيح نفسه، لأول مرة في تاريخ التحالف المسيحي، ضد ميركل على موقع المستشارية.
أيضا، يبدو أن «صدمة شولتز» بين المسيحيين كانت قوية؛ لأنهم، خلافًا لتقاليدهم المعروفة منذ عقود، صاروا يخرجون عن طورهم في التصريحات؛ إذ تحدث وزير المالية فولفغانغ شويبله، رجل الحزب الديمقراطي المسيحي القوي، خلال مقابلة تلفزيونية عن أوجه شبه بين شولتز والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب. واتهم شويبله غريم حزبه شولتز بـ«الشعبوية». كذلك تحدث بعض النواب المسيحيين عن المرشح الاشتراكي بسلبية، مشيرين إلى أنه لا يحمل حتى شهادة الإعدادية، وهو ما حفز ردود البعض عليهم بالقول إن بين أولئك الذين لم يحصلوا على شهادة الإعدادية في ألمانيا يمتد رئيس الجمهورية الأسبق فالتر شيل ووزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر. وقبل أسبوع أعدت الكتلة المسيحية في البرلمان الألماني قائمة من 9 صفحات يفترض أنها تعدد أخطاء مارتن شولتز أثناء قيادته البرلمان الأوروبي. وتتهم الورقة شولتز باستخدام نفوذه الأوروبي لتعيين بعض أصدقائه وزيادة مرتباتهم. كما تتهمه بارتكاب أخطاء «شعبوية» في تصريحاته مثل مطالبته بالعدالة للجميع في المجتمع بادعاء أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء في ألمانيا تتسع. وغدا واضحًا معها أن الحزب الديمقراطي المسيحي يحاول النيل من شعبية شولتز بأساليب غير معهودة. لذا؛ حذر الاشتراكيون من «أمركة» الانتخابات الألمانية على طريقة التراشق بالتهم والفضائح الأميركية. ورد أندرياس شوير، أحد قادة الحزب الديمقراطي المسيحي، على تهمة «تلويث سمعة شولتز» بالقول: «ليس هناك أي تلويث سمعة، وعلى الحزب الاشتراكي أن يتحمل؛ لأن الحقيقة مؤلمة». وتساءل بيتر تاوبر، سكرتير الحزب الديمقراطي المسيحي «لماذا يغضب شولتز؟ إنه فعلاً كما وصفه شويبله». أما ميركل، كعادتها، أحجمت عن الخوض في هذه المناوشات، مع الإشارة إلى أن التحالف مع الاشتراكيين باق حتى سبتمبر (أيلول) المقبل. وفي حين أن المستشارة لم توجه شخصيًا أي تهمة إلى منافسها، فإنها لم تردع قادة حزبها عن مواصلة الحملة ضد شولتز.
* اتجاهات استطلاعات الرأي
في المقابل، ينهمك شولتز في الحملة الانتخابية في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا دعمًا لتحالف الاشتراكيين - الخضر الحاكم فيها. ويعوّل الاشتراكيون كثيرًا على نسبة إقبال ناخبي حزبهم في هذه الولاية الغزيرة بالسكان. وحقًا، قفزت نسبة تأييد الحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي، بعد ترشيح شولتز، من 22 في المائة إلى 28 في المائة بعد أسبوعين فقط. وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن شولتز يتفوق على ميركل في شعبيته، وصوّتت نسبة 54 في المائة إلى جانبه مقابل 39 في المائة لميركل. إلا أن الشعبية ليست كل شيء في الانتخابات الألمانية، كما هو معروف؛ لأن المستشار ينتخبه البرلمان الألماني من قبل الأغلبية التي تشكل التحالف الحاكم المقبل.
وبعد «البارومتر السياسي» الذي تبثه القناة الثانية في التلفزيون الألماني (زي دي إف)، واستطلاع الرأي الذي أجراه معهد «أمنيد»، وكشفا ارتفاع نسبة الاشتراكيين إلى 29 في المائة، كشفت آخر استطلاعات الرأي عن أن الحزب الاشتراكي تجاوز الديمقراطيين المسيحيين وحلفاءهم. كذلك، نشرت صحيفة «بيلد»، الواسعة الانتشار، استطلاعًا للرأي أجراه معهد «إينزا» يقول بأن شعبية الديمقراطيين الاشتراكيين تتجاوز الآن شعبية الديمقراطيين المسيحيين. ونال الاشتراكيون على أساس هذا الاستطلاع نسبة 31 في المائة مقابل 30 في المائة للمسيحيين. وهذه أفضل نسبة يحققها الاشتراكيون في ألمانيا منذ أربع سنوات في استطلاعات الرأي. هذا، بينما خسر المسيحيون أربع نقاط أخرى بعدما سجلوا قبل أسبوعين 35 في المائة.
المهم أيضًا أن نسبة عالية من «غير الناخبين» صارت تميل للتصويت إلى شولتز وضد ميركل. و«ير الناخبين» هم الناخبون غير الملتزمين حزبيًا الذين لم يقرّروا بعد لمن سيعطون أصواتهم في الانتخابات، وينتظرون انفراج الأمور إلى ما قبل موعد الانتخابات بقليل كي يقرروا. وكانت نسبة «غير الناخبين» في انتخابات 2013 أقل بقليل من 30 في المائة، وهي نسبة عالية تعمل الأحزاب المتنافسة على كسب أصواتها بكل قوة. وكشف استطلاع «إينزا» أن نسبة عالية من الشباب ستصوت لشولتز أيضا، وربما أن هذه هو سبب مطالبة بعض النواب الاشتراكيين بخفض سن الناخبين إلى 16 سنة.
هذا، ومنح الاستطلاع، الذي شمل 2400 شخصًا من مختلف الأعمار والمشارب، 10 في المائة إلى حزب اليسار و7 في المائة إلى حزب الخضر، ونسبة 12 في المائة إلى «حزب البديل لألمانيا» (اليميني المتطرف) و5 في المائة للحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي الوسطي). وهذا سيعزز احتمال تحالف «الاشتراكيين» و«الخضر» و«اليسار» (48 في المائة) على حساب احتمال التحالف التقليدي بين الديمقراطيين المسيحيين وليبراليي الديمقراطيين الأحرار (35 في المائة معًا). وطبيعي، لا يود أي من الأحزاب المذكورة التحالف مع «حزب البديل» الشعبوي المتطرف.
والمشكلة هنا هي أن التحالف المسيحي يرفع أيضًا شعار ضد تحالف «الحمر – الحمر – الخضر» بهدف تخويف جمهور الناخبين من شيوعيي ألمانيا الشرقية في حزب اليسار، إلا أن مارتن شولتز نفسه لم يستبعد التحالف مع حزب اليسار من أجندته.
وعليه، ليس غريبًا إذن لأن ينال شولتز لقب «الجوكر» بسبب تاريخه الكروي القديم؛ لأن «الجوكر» في كرة القدم هو اللاعب الذي يجري إنزاله إلى الملعب بمثابة الورقة الأخيرة (مهاجم اللحظة الأخيرة)، التي يلعبها المدرب في آخر دقائق المباراة... لكي يحسم النتيجة لصالح فريقه.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».