«أخي القائد.. ربما علينا أن نغلق الحدود مع تونس ومصر». في مثل هذه الأيام من عام 2011 رأى عدد من القيادات العسكرية والأمنية الليبية ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة لمنع وصول شرارة الانتفاضة الشعبية من تونس ومصر إلى ليبيا، لكن قائد البلاد حينها معمر القذافي رفض ذلك. وحين زاد الخطر في الأيام التالية، بدأ الحديث مجددا عن غلق الحدود، لكن ذلك كان بعد فوات الأوان.
وطوال السنوات الست الأخيرة، وحتى يومنا هذا، أصبحت كثير من دول الشرق الأوسط تعيش في فوضى عارمة. فقد كانت الشعوب تتطلع إلى مزيد من الحريات بالتخلص من الأنظمة القمعية التي ظلت تحكمها لسنوات طويلة، لكن المحصلة النهائية لكل هذه الآمال، تحولت إلى كابوس مرعب، وبدلا من الاستقرار، ضربت الحروب الأهلية المنطقة، وظهرت الأعلام الملونة للأقليات، كالأكراد والأمازيغ، والأعلام السوداء للجماعات الدينية، ومنها «داعش» وأنصار الشريعة، ما أدى إلى تشريد ملايين الناس. أما في ليبيا فقد أصبح هناك سبعة أعلام وثلاث حكومات وفوضى عارمة.
من خلف شرفة زجاجية تطل على نيل القاهرة، يتذكر أحمد قذاف الدم الأيام الصعبة، حين كان يعمل مبعوثا خاصا للقذافي ومنسقا للعلاقات المصرية - الليبية. يقول قذاف الدم وهو يجلس خلف مكتبه الذي يضع عليه علما أبيض يرمز لـ«نبذ الفرقة»: «لم يتحمس الأخ معمر للأحداث في تونس، ولم يجد في انتفاضة التونسيين ما يعبر عن أي شيء فيه قدر من التفاؤل. فقد كان متشائما جدا».
وقتها لم يكن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد خرج من البلاد بعد. بينما كان الرئيس المصري حسني مبارك ما زال يكافح في الأيام الأخيرة للإبقاء على سلطته. وفي هذه الظروف اجتمع القذافي مع مساعديه مرة أخرى، وكان من بينهم قذاف الدم، وقرر إلقاء خطاب يدعو فيه سكان الدولتين المجاورتين له من الشمال الغربي ومن الشرق إلى «عدم التوسع في التدمير والحرق».
ووفقا لقذاف الدم فقد تحدث القذافي عن أن دولة مثل تونس ورغم إمكاناتها المحدودة، فإن ما يقوم به بن علي أدى لوصول النمو الاقتصاد إلى 6 في المائة، وهي نسبة جيدة، حسب رأيه، وأبدى الاستعداد لأن تسهم ليبيا في دعم الشعب التونسي من أجل مزيد من النمو والاستقرار.
وخلافا لرؤية القادة العسكريين والأمنيين المحيطين بالقذافي عن ضرورة غلق الحدود مع جيران مضطربين، قرر القذافي مرة أخرى خلال أيام الاستمرار في فتح الحدود مع تونس، وتقديم كل الدعم المادي، من وقود وتموين، في محاولة لمنع نظام بن علي من السقوط.
وعندما رأى القذافي شرارة الانتفاضة التونسية وهي تنتقل إلى جارته مصر، بدأ يعيد التفكير فيما يجري. وفي هذا السياق يقول قذاف الدم إنه حينما بدأت الأحداث في مصر حرص القذافي على متابعة ما يقوله المتظاهرون في ميدان التحرير عبر شاشات التلفزيون. ويبدو أن الزعيم الذي كان يحكم ليبيا منذ عام 1969 شعر بأن القضية أكبر مما يجري في تونس.
يقول قذاف الدم بهذا الخصوص: «لقد كنا معه في الاجتماعات التي سبقت الأحداث الليبية في 17 فبراير (شباط)، وكنا نراقب الأوضاع التي تعصف بالمنطقة. الأخ معمر نظر إلى شعارات المتظاهرين المصريين، وقال لنا إن ما يحدث ليس ثورة، وهذا عمل لدي عليه علامات استفهام كثيرة».
خلال تلك الأيام بدأت تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للتظاهر في ليبيا، فظهر الارتباك في هذه الدولة الصحراوية ذات الطبيعة القبلية، وتوجه وجهاء من قبائل كثيرة إلى طرابلس لتقديم الولاء للقذافي. يقول قذاف الدم: «لقد فوجئ الأخ معمر بوصول مشايخ لقبائل وقيادات اجتماعية لتقديم البيعة والولاء له.. وكل هذا موثق في أشرطة مرئية. بعضهم قدم البيعات كتابيا والبعض شفاهيا، وكله كان منقولا على الهواء عبر شاشات التلفزيون. وحين بدأت أحداث بنغازي، كان يمكن احتواؤها في البداية».
كان نشطاء الحركات المدنية، من محامين وحقوقيين وسياسيين، على رأس من قادوا ما أصبح يعرف بـ«ثورات الربيع العربي». لكن الأمور تغيرت سريعا بعد ذلك حين دخلت تيارات وجماعات عنف على الخط، رافعة شعارات تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، أو تأسيس «الخلافة» أو «الجهاد المسلح» ضد الخصوم، بينما كانت عدة تكتلات اجتماعية وقبائل في ليبيا تبحث عن مستقبل، خاصة بعد خطب الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، التي كانت تدعو إلى توجيه ضربات عسكرية للقوات المسلحة الليبية التي يعتمد عليها نظام الحكم الليبي.
وفي خضم الفوضى كان الكاتب الفرنسي برنار ليفي، المقرب من ساركوزي، يقوم بزيارات إلى دول المنطقة. وظهر ليفي أولا في مدينة مرسى مطروح المصرية الهادئة الواقعة على البحر المتوسط قرب الحدود مع ليبيا، وألف كتابا فيما بعد عن مجمل زياراته إلى مصر وليبيا وغيرهما، تناول فيه تفاصيل ما قام به للمساعدة على الإطاحة بنظام القذافي.
يقول قذاف الدم بهذا الصدد: «بعض زعماء القبائل التي كانت جاءت لمبايعة القذافي، وأنا كنت حاضرا، فوجئنا بأنها للأسف جلست مع ليفي.. كتب لهم البيانات»، ويقصد بها البيانات المعادية لنظام القذافي. ويضيف قذاف الدم موضحا أن «الدول الغربية يبدو أنها خططت لكل هذا منذ زمن. فقد جرى استقدام نحو مليون علم (الأعلام التي رفعها المنتفضون ضد نظام القذافي، وهو علم البلاد في الوقت الراهن) من الصين. وتم تسريب هذه الأعلام إلى داخل البلاد».
وساعد على اشتعال النار في ليبيا ضعف الحكومات التي جاءت عقب سقوط حكم بن علي ومبارك، إلى جانب القوة الضاربة لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وبعد مرور كل هذه السنوات، أصبح هناك الألوف في السجون، بينهم قيادات كبيرة، وسقط آلاف القتلى عبر دول المنطقة، كما تشرد ملايين الناس وهم يبحثون عن ملاذ آمن، حتى لو كان في أوروبا والولايات المتحدة. أما في ليبيا فما زال ألوف من القيادات والأنصار لنظام القذافي في سجون حكام ليبيا الجدد، خاصة في طرابلس ومصراتة، يطلق عليهم قذاف الدم لقب «أسرى حرب»، ويقول: «لدينا مئات الآلاف من المشردين في دول الجوار، وعشرات الآلاف من السجناء في داخل ليبيا. وهؤلاء أسرى الحرب كان ينبغي أن يفرج عنهم فور انتهاء الحرب، لكن للأسف لا أحد يتحدث عنهم.. لا الأمم المتحدة ولا المبعوثون الدوليون ولا الدول العربية».
ومنذ خروجه من ليبيا في أيام الانتفاضة، لم يرجع قذاف الدم إليها مرة أخرى. لكنه اليوم أصبح مقتنعا بأن هذه العودة أصبحت قريبة، خاصة مع تمكن طلائع من العسكريين والسياسيين الموالين للقذافي من دخول البلاد، وتغير معظم الحكومات الغربية التي كانت تقف وراء حملة الناتو على ليبيا، ومنها الحكومة الفرنسية والحكومة البريطانية والحكومة الأميركية.
ويعتقد كثير من السياسيين العرب أن التغيرات في النظم الحاكمة في دول غربية، يمكن أن تؤثر على بلدان منطقة الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالحروب وطبيعة النزاعات عقب عاصفة «الربيع العربي». وبهذا الخصوص يقول قذاف الدم «اليوم فاز دونالد ترمب في البيت الأبيض، وهناك حكومة جديدة في بريطانيا. وهؤلاء يسعون للبرهنة على أن ما حدث من الحكومات السابقة في بلدانهم تجاه ليبيا كان خطأ».
ومن أبرز الجماعات التي أسهمت بقوة في «ثورات الربيع العربي» جماعة الإخوان المسلمين، التي تمكنت من تولي الحكم لفترة قصيرة في كل من تونس ومصر وليبيا. وتوجد مساع في الولايات المتحدة لتصنيف الجماعة «منظمة إرهابية».
وقد عقدت الجماعة في ليبيا صفقة قيمتها مليارا دولار لتسلم قذاف الدم من القاهرة في 2013، لكنها فشلت. وفي هذا الشأن يقول قذاف الدم إن محاولات استهدافه من جانب الجماعات المتطرفة في ليبيا لم تنقطع، بما فيها محاولة اغتياله.
وأسس قذاف الدم مع قوى ليبية أخرى «جبهة النضال الوطني». وعن سبب إطلاقه مبادرة رفع علم أبيض، يقول: «في ليبيا أصبحت توجد سبعة أعلام. علم برقة، وعلم الأمازيغ، وعلم التبو، وعلم أنصار الشريعة، والعلم الأخضر، وعلم الاستقلال. وكل علم له مسلحون، وهذا يعبر عن انقسامات خطيرة»، مضيفا: «نحن في جبهة النضال الوطني نسعى لدولة جديدة تحت راية بيضاء مؤقتا، إلى أن تقوم الدولة ويقرر بعدها الشعب الليبي العلم الموحد الذي يريده».
6 سنوات على «الثورة» الليبية... 7 أعلام و3 حكومات وفوضى عارمة
القذافي رفض نصائح مستشاريه بغلق الحدود مع جيرانه لتجنب الانتفاضة
6 سنوات على «الثورة» الليبية... 7 أعلام و3 حكومات وفوضى عارمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة