تودوروف... نصوص كبرى تخاطب المستقبل

رحل وهو يؤمن بأن التنوير لا يزال أمامنا وليس خلفنا

تزفيتان تودوروف - غلاف «بيان التنوير»
تزفيتان تودوروف - غلاف «بيان التنوير»
TT

تودوروف... نصوص كبرى تخاطب المستقبل

تزفيتان تودوروف - غلاف «بيان التنوير»
تزفيتان تودوروف - غلاف «بيان التنوير»

كان تزفيتان تودوروف قد أصدر كتابًا يشبه المانيفست عام 2006 بعنوان «روح التنوير». وقد أصدره بعد أن كلفوه شخصيًا بالإشراف على معرض التنوير الكبير الذي نظمته المكتبة الوطنية الفرنسية الجديدة الشامخة كناطحات السحاب على ضفاف نهر السين. وكان المقصود به الرد على كل الأصوليات الدينية المتطرفة وبالأخص أصوليتنا في الواقع، لأن المعرض حصل بعد 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد ولندن... إلخ.
ومنه نفهم أن التنوير أمامنا وليس خلفنا. وهذا هو حرفيًا عنوان المعرض الذي زرته آنذاك وتجولت في رحابه: «عصر التنوير: إرث للمستقبل». صحيح أن مشروع التنوير الذي تبلور في القرن الثامن عشر على يد الكبار من أمثال فولتير وديدرو وروسو وكانط... إلخ، يحتاج الآن إلى نقد وتصحيح ومراجعات بعد أن تعرض لاستخدامات انتهازية مضادة لمثله العليا. نعم، لقد خان الغرب التنوير إبان التوسعات الإمبريالية. فتحت غطائه النبيل وبحجة «تحضير البدائيين» راحوا يستعمرون الشعوب ويسلبونها إرادتها. لقد رفعوا شعارات التنوير عاليًا وفعلوا عكسها، الشيء الذي أدى إلى تشويه سمعته، وفقدان مصداقيته... ولكن لا ينبغي التراجع عن مشروع التنوير بأي شكل كما يقول تودوروف. فنحن جميعًا أبناء التنوير شئنا أم أبينا. نحن ورثته الشرعيون حتى عندما ننتقد انحرافاته ونهاجم نواقصه. فلا بديل عن التنوير إلا التنوير منقحًا ومصححًا ومراجعًا. يُضاف إلى ذلك أنه لا يزال ضروريًا جدًا بل وملحًا بالنسبة للشعوب والتراثات التي لم تمر بالمرحلة التنويرية بعد: كالشعوب الإسلامية والشرقية عمومًا. وبالتالي فلنعد مجددا إلى نصوصه الكبرى ولنحاول تحيينها وملاءمتها مع هموم القرن الحادي والعشرين وقضاياه. وهذا هو مشروع هابرماس في الواقع وليس فقط تودوروف. ولهذا السبب عبر لي مرة عن إعجابه بهابرماس وامتعاضه من فوكو وديلوز ودريدا وبقية الفلاسفة النيتشويين العدميين المعادين للأنوار. لكن لنتفق على الأمور هنا منذ البداية لكيلا يحصل أي خلط أو تشويش. الثقافة الأوروبية مرت بالتنوير قبل مائتي سنة، ونقدت أصوليتها المسيحية نقدًا صارمًا على مدار القرون الثلاثة الماضية: الثامن عشر، فالتاسع عشر، فالعشرين.
أما نحن فلم نمر به حتى الآن ولم يتعرض تراثنا للغربلة النقدية التي أصبحت أكثر من ملحة بعد كل ما حصل ويحصل. في عصر «داعش» والدواعش لا يوجد حل آخر. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فينبغي العلم أنه تفصل بيننا وبين فلاسفة الأنوار مائتا سنة. وفي هذين القرنين ظهر مفكرون آخرون كبار أضافوا وجددوا ووسعوا الأنوار. ولذلك أصبح بعضهم يتحدث الآن عن الأنوار الأولى، والأنوار الثانية. وعلى أي حال فلو سألت الإنسان الأوروبي قبل مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة ما هو تراثك؟ لأجابك فورا: التراث المسيحي.
ولكن لو سألت الإنسان الأوروبي الحالي: ما هو تراثك؟ لأجابك فورا: الحداثة وفلسفة الأنوار. بمعنى آخر كان التراث بالنسبة لهم دينيًا لاهوتيًا فأصبح علمانيًا حداثيًا. وحتى لو ظلت المسيحية من تراثه، فإنها أصبحت مسيحية ليبرالية، متسامحة، منفتحة، مثقفة، وما عادت أصولية متعصبة أو انغلاقية. وهذا يعني أن الدين سوف يستمر بعد الغربلة النقدية الشاملة، ولكن مفهوما بشكل عقلاني مستنير. وبالتالي فليطمئن الناس: تراثنا العربي الإسلامي سوف يجدد شبابه بعد المرور بالمرحلة التنويرية. سوف يبدو أفضل وأنصع وأبهى بكثير عما كان قبلها. وأصلاً لن تُعرف حقيقته قبل المرور بهذه العملية الجراحية الخطيرة. سوف تُطرح منه الزوائد والقشور ويبقى الجوهر. ألم نكن نحن شعاع التنوير الحضاري أيام بغداد العباسية وقرطبة الأندلسية؟ ثم غفونا أو نمنا على التاريخ. وتلقفت الشعلة أوروبا...؟!
ما سمات روح التنوير التي تميز أوروبا عن بقية النطاقات الثقافية الأخرى في العالم؟ على هذا السؤال يجيب تودوروف قائلاً: إنها الروح النقدية والحرية الفكرية. ففلاسفة الأنوار هم أول من تجرأ على نقد العقائد الدينية القديمة. ولهذا السبب لا يزال رجال الدين الكبار في أوروبا يشنون هجومًا ساحقًا على فولتير وأمثاله حتى اللحظة. نضرب على ذلك مثلاً مطران باريس السابق: لوستيجر. فقد كان من ألدّ أعداء فلاسفة الأنوار. وقد شتمهم علنًا، ووصفهم بكل النعوت السلبية. وبالتالي فالمعركة لم تنتهِ فصولاً بعد. صحيح أنها حُسمت منذ عقود طويلة لصالح فكر الأنوار. وصحيح أن الفلسفة التنويرية انتصرت على الأصولية المسيحية في أوروبا انتصارًا مبرمًا لا ريب فيه، ولا رجعة عنه. والدليل على ذلك أن برامج التعليم الفرنسية والأوروبية عمومًا مليئة باستشهادات من نصوص ليسنغ وكانط وفولتير وكوندورسيه وديدرو وجان جاك روسو وارنست رينان وميشليه... إلخ. وتكاد تخلو تمامًا من أي استشهاد بأساطين الأصولية المسيحية. وذلك على عكس ما هو شائع في العالم العربي، حيث يهيمن الفكر الأصولي على برامج التعليم ويغيب عنها الفكر التنويري إلى حد كبير. وبالتالي فالحالة معكوسة بيننا وبين أوروبا. والدليل على ذلك أني سمعتهم أخيرًا يشتمون ابن سينا في بعض البلدان العربية. بل ويدعون إلى عدم وضع اسمه بعد اليوم على واجهة أي مستشفى أو مدرسة أو مكتبة لأنه كافر زنديق... إلخ. وأعترف بأن ذلك فاجأني إن لم أقل: جرحني، وآلمني، بل و«مغصني مغصًا». فمن يشتم ابن سينا يشتم الكندي والفارابي وابن رشد ناهيك بالمعري والتوحيدي وطه حسين ونجيب محفوظ وبقية عباقرة العرب والإسلام. ولكن لا ينبغي أن نستغرب ذلك. فنحن نعيش في العصر الداعشي لا التنويري. ثم يتساءلون مستنكرين: لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا يحصل لنا ما يحصل؟ لماذا تتقدم شعوب العالم كلها إلى الأمام ونتراجع نحن إلى الخلف؟ لماذا أصبحنا فضيحة العصر في هذه الأيام الدواعش؟ وما عاد أحد قادرًا على أن يفصح عن هويته كعربي أو مسلم لا في الشرق ولا في الغرب. إنه يخجل بها وقد كانت يومًا ما منارة للعالم أجمع. ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب. والسبب واضح وضوح الشمس: لأننا لا نتجرأ على طرح سؤال صغير واحد على تراثنا الديني، لأننا لم نخضعه للغربلة النقدية الصارمة كما فعل كانط أو فولتير قبل مائتي سنة أو يزيد بالنسبة للتراث المسيحي. هذا ناهيك بفويرباخ أو نيتشه... إلخ.. ثم لأن الجماهير الغفيرة من المحيط إلى الخليج كلها مع رجل الدين بشكل مسبق وتتشرب كلامه وكأنه حقائق معصومة. من يناقش اليقينات المطلقة؟ ويحك هل أنت مجنون؟ كل هذا انتهى في العالم المتنور المتحضر منذ قرون... والفضل لمن؟ لفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر ومن تلاهم.
ويرى تودوروف أن سمات الروح التنويرية كثيرة ولكن أهمها استقلالية العقل بالقياس إلى النقل.دون ذلك لا تفكير حر ولا اكتشاف ولا إبداع. ما دام الكاهن المسيحي واقفًا فوق رؤوسنا يقول لنا ما ينبغي أن نفكر فيه أو لا ينبغي أن نفكر فيه فعلى الدنيا السلام. لذلك صرخ كانط صرخته الشهيرة في أواخر القرن الثامن عشر: تجرأ على استخدام عقلك أيها الإنسان! فالله زودك بالعقل لكي تستخدمه لا لكي تلغيه. ولكن الكاهن يقول للرعية فورا: لا تفكروا، آمنوا وتدينوا فقط. أنا مسؤول عن تفكيركم، اسألوني أُفتِ لكم في كل شاردة وواردة. لا داعي لتشغيل عقولكم الصغيرة. وهذا لا يعني أبدًا الدعوة إلى الإلحاد. فكانط كان مؤمنًا حقيقيًا. وكان يقول عبارته الشهيرة: حيث تنتهي حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان. وكبار فلاسفة الأنوار كانوا جميعًا مؤمنين بوجود الله. من بينهم فولتير ذاته وجان جاك روسو. ولكن كان هناك تيار مادي ملحد. فنيتشه كان ملحدا بشكل صارخ وكذلك ديدرو وفويرباخ هذا ناهيكم عن ميشال أونفري الذي يصرعنا حاليا صرعا بنزقه وإلحاده. لحسن الحظ فإن كاتب هذه السطور مؤمن حقيقي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وعلى الرغم من أنه عاجز عن التصالح مع نفسه، فإنه يفعل كل شيء لتحقيق المصالحة بين الإيمان - والعقل، أو الدين - والفلسفة.
ماذا يقول لنا تودوروف؟ انه يقول إن التنوير يشكل أكبر طفرة معرفية راديكالية في تاريخ البشرية. لماذا؟ لأن العقل البشري طيلة العصور السابقة كان مجرد خادم ذليل للاهوت المسيحي. والآن شب عن الطوق وتجرأ على الانفصال عنه وتحقيق الاستقلالية الذاتية. وهذا هو معنى فكرة كانط: لقد آن الأوان لكي تنتقل البشرية من مرحلة القصور العقلي، أكاد أقول الطفولة العقلية، إلى مرحلة النضج وسن الرشد. آن الأوان لأن تشغل عقلها المعطل طيلة القرون الوسطى! وهي قفزة هائلة وخطرة لم يتجرأ عليها الفكر العربي حتى الآن. بل وترتعد فرائصه أمامها. ولهذا السبب لم يعد للتكفير وجود في عصر التنوير. فالناس أصبحوا سواسية وكرامتهم محفوظة أيا تكن أديانهم ومذاهبهم. أما في السابق فكان الأكثري الكاثوليكي يحتقر الأقلوي البروتستانتي بل ويدعو إلى تكفيره وذبحه لأنه «مارق زنديق». كل هذا انتهى بعد انتصار الأنوار. كيف يمكن أن تشكل مجتمعًا متراصًا، أو دولة، أو وحدة وطنية، إذا كان بعض الشعب يكفر بعضه الآخر؟ كيف يمكن أن يحصل التعايش؟ مستحيل. وأصلاً التنوير ظهر كرد فعل على هذه الحروب الأهلية الطائفية التي مزقتهم ودمرتهم طيلة عدة قرون. لقد كان علاجا شافيا، وأي علاج!



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.