«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

كيف سيرتسم مستقبل «الإصلاحيين» و«المعتدلين» في إيران؟

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني
TT

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

الرحيل المباغت لعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الأكثر نفوذًا في عمر النظام الإيراني، تسبب بفجوة ثمة من يتوقع أن تترك أثرها على خريطة القوى في إيران، وإن تراجعت إلى الهامش بعد الصدمة الكبيرة التي هزت طهران إثر اندلاع الحريق في أهم معالمها التجارية قبل انهياره.
والحقيقة، أنه رغم الإشاعات التي دارت حول وفاة رفسنجاني والحديث عن لقاء دار بين المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد طلب خلاله المرشد التريث حتى نهاية العام قبل أن يحل أحمدي نجاد محله في منصب رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، فأغلب الظن أن الرجل - الذي مات ميتة طبيعية - يخلّف وراءه ثغرة قد لا يسدّها شيء.
دور رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النـظام» في إيران دور استشاري مهم وحسّاس يتولى شاغله الفصل في خلافات تحدث عادة بين الحكومة والبرلمان، والنظر في السياسات العامة للنظام. وكان هذا المنصب واحدًا من عدد من المناصب الحكومية التي تقلدها علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الذي يوصف بأنه «الأكثر براغماتية في جمهورية ولاية الفقيه». ويذكر أن هذا «المجلس» كان قد شُكّل بعد مقترح همس به رفسنجاني في أذن المرشد الأعلى الإيراني السابق آية الله الخميني. بل لم يكن لهذا «المجلس» أي دور يذكر عندما كان رفسنجاني رئيسًا للجمهورية.
ولكن، لاحقًا، مع وصول محمد خاتمي للرئاسة، ودخول إيران عصر ما سُمي «الإصلاح» لفترة ثماني سنوات، أخذ دور «مجلس تشخيص مصلحة النظام» يبرز أكثر من أي وقت مضى. إذ قوّض «المجلس» صلاحيات الحكومة والبرلمان المتناغم معها في الإصلاح آنذاك، وفرض سياسات أجبرت خاتمي ورجاله على العمل وفقها.
لم يكن ذلك، بالطبع، ممكنًا لولا مباركة المرشد الذي أخرج تيار رفسنجاني من قمقمه ليصبح «مجلس تشخيص مصلحة النظام» لُقمة يصعب ابتلاعها ولفظها في التركيبة التي ازدادت تعقيدًا مع دخول خامنئي إلى العقد الثاني من ولايته، وذلك حتى دخل رفسنجاني «سنوات النكبة» بعد صراع دار بينه وبين «المتشدّدين» الموالين للمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي عقب وصول محمود أحمدي نجاد للرئاسة.

الخطوات المرتقبة
لقد رحل رفسنجاني قبل حلول الشهر الأخير من فترته الرئاسية الخامسة، ويتوقّع الآن أن يختار المرشد 45 عضوًا لـ«المجلس» خلال مارس (آذار) المقبل. ويُذكر أنه قبل رحيل رفسنجاني كانت ثمة شكوك تحوم حول نية خامنئي تجديد رئاسته، بيد أن التجربة أثبتت أن خامنئي لا يريد تغيير شخص عيّنه الخميني. ولكن، على أي حال، تطوي إيران صفحة رفسنجاني في وقت تثار فيه تساؤلات حول «السيناريوهات» المتوقعة لتياره ومكتبه ومناصبه.
فيما يتعلق بـ«مجلس تشخيص مصلحة النظام» تأكد أن اختيار خامنئي لخلافة رفسنجاني وقع على محمدعلي موحّدي كرماني (85 سنة)، زعيم التيار الأصولي ورئيس «رابطة العلماء المجاهدين» المتنفذة. وكان الرجل يمثل المرشد في الحرس الثوري بين عامي 1990 و2004، ووفق ما أعلنته وسائل الإعلام الإيرانية فإن موحّدي كرماني باشر مسؤولياته مؤقتًا ريثما يصار إلى انتخاب الأعضاء.
السيناريو الأول بالنسبة لهذا «المجلس» هو أن يجدد خامنئي رئاسة كرماني مع تجديد عضوية غالبية الأعضاء الحاليين، أما السيناريو الثاني فهو تقليص صلاحيات «المجلس» ليصبح مجلسًا استشاريًا للمتقاعدين السياسيين.
كثيرون من الخبراء المطلعين يرجحون السيناريو الثاني، من منطلق أن «المجلس» لن يستعيد الثقل السياسي الذي خسره برحيل هاشمي رفسنجاني، ولأن الفرصة باتت مؤاتية الآن للمرشد للحد من صلاحياته تجنبا لتكرار ظاهرة رفسنجاني.
وهناك مؤشر آخر لا يقل أهمية يتمثّل في رغبة كل من الحكومة والبرلمان بتقليص صلاحيات «المجلس» بسبب تقويض صلاحياتهما فيه بصيغته الحالية. وحقًا، لا يدافع عنه إلا قلائل على هامش اللعبة السياسية، والكل يطمعون في الجلوس على كراسيه. وعلى ضوء ما تقدم فإن تراجع صلاحياته أمر وارد.

مصير «الإصلاحيين» و«المعتدلين»
أما على صعيد قيادة معسكر «الإصلاحيين» و«المعتدلين» فإن الحديث يطول. وتكفي الإشارة إلى أن التساؤلات عن مستقبل التيار شغلت أنصار هذا المعسكر أو التيار الذين تسود في صفوفهم حالة من القلق والترقب.
لقد كان هاشمي رفسنجاني الشخصية التي تمحورت حولها أهم الشخصيات في التيار «الإصلاحي» - إلى جانب محمد خاتمي - بعد الانقسامات التي شهدها التيار في انتخابات الرئاسة 2005، وهي تلك الانقسامات التي سهّلت صعود «المتشدد» أحمدي نجاد، وكان تيار «المحافظين» و«المتشددين» حقًا أكبر المستفيدين من الفوضى بين «الإصلاحيين». بل إن حتى وجود أحمدي نجاد في منصب الرئاسة أخفق في الدفع للملمة شمل البيت «الإصلاحي»، فتكرّر التنافس في انتخابات عام2009، عندما انقسم «الإصلاحيون» بين مهدي كروبي وميرحسين موسوي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تفجر احتجاجات «الحركة الخضراء» (الإصلاحية) عشية إعلان فوز أحمدي نجاد ورفض «الإصلاحيين» نتائج الانتخابات، أدى إلى اختفاء كروبي وموسوي عن المشهد السياسي عقب إقرار «المجلس الأعلى للأمن القومي» فرض الإقامة الجبرية عليهما في مارس 2011 بالتزامن مع حملة القمع الواسعة التي استهدفت الاحتجاجات السلمية.
ومن ثم، بعد اعتقال عدد كبير من «الإصلاحيين» لم يبق خارج السجن من قادتهم سوى خاتمي (الذي أصبح بعد ذلك رمزا لـ«الإصلاحيين») حسن الخميني، حفيد الخميني الذي راهن «الإصلاحيون» على موروث جده في ردهات السلطة لكسب ود أنصاره.
أما السبب الآخر لتغير وضع معسكر «الإصلاحيين» فكان دخول هاشمي رفسنجاني على الخط. ذلك أنه على الرغم من الضربة التي تلقاها رفسنجاني من «الإصلاحيين» أيام خاتمي فإنه آثر الدخول على خطهم، لا سيما أن القادة «الإصلاحيين» الذين استهدفوه باتوا الآن خارج اللعبة. وبالفعل، حمل دخول رفسنجاني على الخط معطيات جديدة لـ«الإصلاحيين» وللمشهد السياسي الإيراني بشكل عام.

كيف جرى ذلك؟

جرى كما يلي:
1 - غياب الزعماء والقادة الميدانيين ترك الساحة مفتوحة أمام محمد خاتمي، الذي كان وزيرا من وزراء هاشمي رفسنجاني، وكانت حكومته امتدادًا في كثير من زواياها لحكومته (كان وزراء الداخلية والاقتصاد والنفط والثقافة والتعليم وغيرهم... من حكومة رفسنجاني). وكان خاتمي يحمل رؤية مفادها الاقتراب من رفسنجاني وتأسيس ما يُعرف بـ«الجبهة الوسطية». وهذا ما جعل الباب مفتوحًا أمام رفسنجاني ليدخل البيت، ولم يكن هو الرجل الذي يرفض الدخول.
2 - وصول منظّري «الإصلاحيين» إلى قناعة بأنهم يجب أن يحتموا بعباءة رفسنجاني. إذ بعد تلقيه ضربات لفترة طويلة وصل عقلاء «الإصلاحيين» إلى خلاصة مفادها أنهم عرّضوا أنفسهم لحرارة الشمس وقصوا أجنحتهم بأيديهم مقابل السلطة المطلقة التي يتمتع بها خامنئي. وبالتالي، عليهم تحكيم «العمود الآخر للسلطة»، أي رفسنجاني، كي يحميهم من سياط «المحافظين». بعبارة أخرى توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن خروج رفسنجاني من السلطة سيؤدي حتمًا إلى إطلاق يد خامنئي ومن معه من «المتشددين»، في حين أن بقاء رفسنجاني قويًا سيعني الحد من هامش حرية هؤلاء. وبناء عليه، قرروا الاقتراب منه.
3 - الخط السياسي الذي أسسه وزراء هاشمي رفسنجاني وكبار مساعديه في حزب «عمال البناء» - الذي كان منعزلا عن «الإصلاحيين» - دخل على الخط من جديد. وكان هؤلاء قد دخلوا قبل ذلك - بإذن من رفسنجاني - على الخط في التنافس بين علي أكبر ناطق نوري ومحمد خاتمي عام 1997، إذ دعموا خاتمي وكان لهم أثر بالغ في فوزه. كما شكلوا العمود الفقري لحكومته قبل أن ينعزلوا عن «الإصلاحيين». لكنهم الآن عادوا بكامل قواهم إلى المعسكر «الإصلاحي».
4 - رفسنجاني نفسه أحس أنه لا بد له من الاقتراب من الخط «الإصلاحي». إذ في أعقاب صعود نجم محمود أحمدي نجاد عزم الأخير على ضرب «الإصلاحيين» وتصفية حساباته معهم. واللافت أن المرشد الأعلى اتخذ موقفًا داعمًا لأحمدي نجاد، ما أغضب رفسنجاني كثيرًا، فترك إمامة الجمعة في العاصمة طهران، وكتب رسالة من دون سلام إلى المرشد وانعزل عنه نهائيًا. وجاءت الضربة القاضية في رفض أهلية رفسنجاني من قبل مقربي المرشد إبان المعركة الرئاسية الماضية. كل ذلك جعل رفسنجاني يفكر جديًا في التقرب من «الإصلاحيين» لاستعادة بعض نفوذه المتراجع.
5 - نتيجة لكل ذلك، تشكل مشهد من خصوصياته تشكيل جبهة واسعة من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» أخذت تتسع يومًا بعد يوم، و«تسرق» عددًا من الوجوه من معسكر «المحافظين» (مثل علي لاريجاني وعلي أكبر ناطق نوري وعلي مطهري وآخرين كثيرين على رأسهم الرئيس حسن روحاني نفسه) ونقلهم إلى جبهة تميل إلى الإصلاحات أكثر من ميلها إلى «المحافظين».
وكان من خصوصيات هذا المشهد الابتعاد عن الجموح «الإصلاحي» وتغليب الحكمة والتحكيم وسعة الصدر، وكذلك غلبة رفسنجاني على المشهد كرأس يتبعه خاتمي وحسن الخميني... وظهر أثر ذلك في ميل «الإصلاحيين» نحو التضحية بوجه بارز من وجوههم (محمد رضا عارف الذي كان مساعدا لخاتمي) من أجل رجل من رجال رفسنجاني (روحاني) خلال سباق الرئاسة 2013 من دون أن يحدث ذلك ضجيجا لدى الجبهة «الإصلاحية».
6 - ربما يعود الكثير مما تقدم ذكره إلى سجل رفسنجاني «البراغماتي» في بنية النظام، ولكن واقع الأمر أن من ينظر بعمق أبعد يجد أن «الإصلاحيين» كانوا سيظلون مختلفين لولا تدخل الرجل الذي تقدم بهم، بالفعل، خطوات إلى الأمام وأعاد تنظيمهم من جديد، أنه وضع حدودًا لطموحاتهم السياسية لكي يصطفوا كلهم في «جيش» روحاني.
لكن هذا «البراغماتي» الجامع الذي «لصق» شراذم «الإصلاحيين» قد رحل، ولذا لا بد من التساؤل عن شكل المشهد «الإصلاحي» - أو قُل «الوسطي» بتعبير أصح - بعده؟
ربما يمكن القول إن «الإصلاحيين» قد ينقلبون على أعقابهم، فمن جهة حزب «عمال البناء» المقرّب من رفسنجاني قد يفقد لحمته بـ«الإصلاحيين»، ويعود للابتعاد عنهم ليلتصق أكثر فأكثر بالرئيس روحاني. ومن جهة أخرى، قد يفقد روحاني يفقد أواصره بـ«الإصلاحيين»، خاصة في ظل ابتعاد خاتمي عنه. صحيح أن ذلك لا يتضح خلال الشهور القليلة المقبلة، لكن ثمة مؤشرات على أن هذا «الطلاق» يلوح في الأفق، ويرى كثيرون أنه أمر لا بد منه.
إن المتفحص المدّقق يجد خطين بين «الإصلاحيين» من قديم الزمان إلى يومنا هذا تعيد إنتاج ذاتها مع كل الظروف. هذان الخطان هما: خط «الإصلاحيين الصقور» الذين يؤكدون على الماهية المستقلة للإصلاحات وينادون بضرورة الإصرار على اكتفاء الإصلاحات بذاتها بجانب اكتفائها بالدعم الشعبي، وعدم الانفتاح على الآخر (هؤلاء هم الذين طرحوا شعار «تجاوز خاتمي» ومارسوا الضغط عليه من أجل أن يبتعد عن التيار «الوسطي»، ويعيد إنتاج الحكومة «الإصلاحية» الخالصة، ما أدى إلى إصلاح داخل حكومة خاتمي وخروج رجال رفسنجاني منها). وخط «الإصلاحيين الحمائم» الذين ينادون بالاندماج مع باقي التيارات الوسطية من أجل مواجهة الخط الآخر.
هذا الفريقان يعيدان إنتاج نفسيهما الآن، وبعدما كانت هيمنة رفسنجاني تلعب دورًا مؤثرًا في إضعاف «الصقور» وتقوية «الحمائم»، ما ساهم بوقوف التيار «الإصلاحي» وراء روحاني في الانتخابات الأخيرة على الرغم من وجود مرشح «إصلاحي» (هو عارف)، فإن الشرخ بينهما قد يتسع من جديد.

نقاط ضعف خاتمي

ويمكن هنا القول إن خاتمي قد لا يستطيع أن يلعب الدور نفسه في لملمة «الإصلاحيين» لعدة أسباب منها:
1 - أن خاتمي ليس مقبولاً من قبل كل تيارات النخب «الإصلاحية» على الرغم من شعبيته الواسعة. والكلام هنا ليس عن الشعب، بل عن النخب الناشطة. أثبتت التجربة أن خاتمي لا يستطيع توحيد الصف بمستوى قدرته على تجييش الشارع، ذلك أنه وظيفيًا عنصر شعبي وليس عنصرًا تنظيميًا، بعكس رفسنجاني. في حين أن ما يحتاجه «الإصلاحيون» في الفترة المقبلة هو العنصر التنظيمي أكثر من العنصر الشعبي.
2 - نتائج هذا الانقسام في الخط «الإصلاحي» ستنعكس على جبهة روحاني خلال الانتخابات. وأغلب الظن أن إجماعًا في الصف «الإصلاحي» مثل الذي حدث خلال الانتخابات الرئاسية الماضية أو ذلك الذي جربناه خلال انتخابات البرلمان قد لا نراه في الانتخابات المقبلة، وخلال العمل السياسي في الفترة الآتية. ومن أسباب ذلك الشرخ الذي تكلمنا عنه وكذلك غياب منافس شرس من «المتشددين» يستطيع تخويفهم، وبالتالي يفرض عليهم التكتل تحت راية واحدة. وللعلم، فإن روحاني هو الوحيد حتى الآن - على الأقل - في الصورة، لكن تكتل «الإصلاحيين» قد يدفعهم للابتعاد عنه وترشيح أحد «الصقور» بدلاً منه.
3 - على صعيد الزعامة سيعاني «الإصلاحيون» من مشاكل كثيرة. إذ إن رفسنجاني، استطاع خلال حياته السياسية أن يخلق زعامة على مستويين: المستوى الأول هو «المربّع» المكوّن من خاتمي وحسن الخميني ورفسنجاني وروحاني. أما المستوى الثاني فيضم العشرات من القادة المتوسطين مثل عارف وعلي لاريجاني وناطق نوري ومطهّري (صهر لاريجاني و«عرّاب الإصلاحيين» هذه الأيام في البرلمان) وشخصيات من العيار العالي نفسه، أو أقل منه، لا طريق لهم إلى «المربّع» الأول بسبب هيمنة رفسنجاني بالذات.
ولكن رحيل رفسنجاني سيجعل «المربّع» الأول عرضة للتفكك، كما يفتح الباب أمام المستوى الثاني ليطمح إلى الصعود إلى المستوى الأول. وما يزيد الوضع سوءًا هو عوز خاتمي لمزايا الزعامة وصفاتها، وقلة التجربة لدى حسن الخميني، وإحجام «الإصلاحيين» عن مبايعة روحاني، وشعور كل من ناطق نوري ولاريجاني أنهما بنفس مكانة الثلاثي الآنف الذكر (خاتمي والخميني وروحاني)، ما يقلل من نسبة وفائهم والتزامهم.
ومن ثم، فإن العنصر الذي قرّب عددًا كبيرًا من «المحافظين» سابقًا (على رأسهم روحاني وناطق نوري ولاريجاني) إلى التيار «الإصلاحي» ليخلق ما بات يعرف بالتيار «الاعتدالي» أو «المعتدل» قد مات. وهو ما يعني تفككًا محتملاً في النظام من شأنه إخراج الحالة من قطبية «الاعتدال» - «التشدد» إلى ثلاثية «الإصلاحيون» - «الوسطيون» - «المحافظون المتشددون».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.