في 2011 رسمت الثورة السورية منحى غير متوقع لحزب العمال الكردستاني (الكردي والتركي التأسيس المعروف باسم «بي كي كي»)؛ إذ سمحت له بإعادة الانتشار في الشمال السوري، بعد أن كان غير متواجد في سوريا عندما انطلقت حركات التظاهر. غير أن الحزب، تمكن منذ صيف 2011 من التفاوض مع دمشق من أجل عودته تدريجيًا إلى الجيوب الكردية الثلاثة الواقعة على الحدود التركية، مقابل التزامه بالقضاء على الحركة الثورية في المناطق الكردية. ويقول الباحث الفرنسي أنطوان مالتيه في ورقة جديدة أصدرتها مبادرة الإصلاح العربي بعنوان: «المأزق السياسي للحركة الكردية السورية»، إنه بعد حملة سريعة من أعمال العنف وحالات الاغتيال الموجهة التي تمت بالتعاون مع النظام، سيطر حزب العمال الكردستاني تمامًا على هذه الأراضي، وهمّش الأحزاب الكردية الأخرى.
في 2014، وعلى غرار ما وقع في سوريا، تمكّن الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المعروف بـ«وحدات حماية الشعب»، من مدّ نفوذه إلى كردستان العراق، بفضل ذراعه المسلحة، وقدرته على التعبئة على المستوى المحلي. ونظرًا للفراغ السياسي، ولضعف المؤسسات المحلية، استطاع الحزب الاستقرار في بضع مناطق، باسم القتال ضد تنظيم داعش. وهكذا قام الحزب بتنظيم مخيمات للتدريب في قرى الشبك، حيث تقيم أقلية دينية كردية عراقية في جنوب كركوك، دافع عنها الحزب بمواجهة «داعش» في يونيو (حزيران) من العام نفسه. وبينما كانت فرق الحزب الديمقراطي الكردستاني في حالة تفكك وتراجع، تمكنت وحدات حماية الشعب من تعزيز مواقعها في جبل سنجار وتنظيم تعبئة مسلحة فاعلة.
ومنذ 2014، بات حزب العمال الكردستاني في خط المواجهة المباشرة مع تنظيم داعش، في سوريا وفي العراق. وأصبح الحزب حليفًا أساسيا للتحالف الدولي ضد التنظيم. وقد مكّنه هذا الموقف من الاستفادة من المساعدة لتطوير جهازه العسكري إلى أقصى حد ممكن، كما سمح له من ناحية أخرى بتحويل هذه المساندة العسكرية إلى اعتراف سياسي على المستوى الدولي، أو على الأقل باستغلال وجود الجيش الأميركي في كردستان سوريا لمنع تركيا من التدخل في هذه المنطقة. وبدءًا من 2015، شرع الحزب في بسط نفوذه شيئا فشيئًا على المناطق العربية السنية شمال الرقة وحلب ومعظم المنطقة الحدودية مع تركيا.
وترى الورقة، أن قدرة الحزب الفائقة على التوسع مصدرها مختلف التجارب التركية والكردية في العراق، التي حاول حزب العمال الكردستاني من خلالها التحكم في المناطق الريفية منذ التسعينات. أما الجديد في سوريا بشكل أساسي اليوم، فهو تجربة السيطرة على المدن والمناطق غير الكردية. وبالتالي، فالحزب يعيد بشكل آلي إنتاج النموذج المؤسسي نفسه منذ سنوات طويلة، ألا وهو إحكام السيطرة على الشعب من خلال تكوين لجان محلية مُنتخَبة في كل حي أو قرية. وهي لجان تتكون من مرشحين تم اختيارهم مسبقًا، وبناء قوات عسكرية محلية واقعة تحت السيطرة المباشرة للمنتمين إلى الحزب. أما الميزانية والرواتب، فتتحكم بها كوادر حزب العمال الكردستاني التي تحتفظ لنفسها بحق التدخل بمستويات الهيكل المؤسسي كافة بوصفهم مستشارين. وقد شوهد هذا النموذج بشكل موسع في تركيا منذ التسعينات، وتم تطبيقه في المناطق العراقية والسورية التي سيطر الحزب عليها مؤخرًا منذ 2012.
ومع التوسع الجغرافي في عام 2015، تم إصلاح القوات المسلحة الكردية أيضًا. وأبقت وحدات حماية الشعب على هياكلها المكوّنة من أكراد تقودهم كوادر من أعضاء حزب العمال الكردستاني. بيد أن هذه الوحدات أدرجت فيما سُمّي «قوات سوريا الديمقراطية» التي أنشئت بدمج الميليشيات الطائفية (المسيحية والأشورية والإيزيدية) بالإضافة إلى مجموعات مسلحة عربية سنية. ومع توسيع هذه الهياكل والكيانات المدنية والعسكرية سعى حزب العمال الكردستاني إلى تحقيق هدفين، أولهما، كسب دعم المجتمع الدولي للتمكن من مواصلة الحرب ضد تنظيم داعش في المناطق غير الكردية. أما ثاني أهداف الحزب فيتعلق بإدماج السكان في نظامه المؤسسي لتوزيع المجهود الحربي على أوسع نطاق ممكن بغية توفير الموارد.
على الرغم من انتشار حزب العمال الكردستاني على المستوى الإقليمي، فإنه يعاني نقاط ضعف عدة؛ إذ يبدو نموذجه المؤسسي صارمًا على المستوى النظري، بيد أنه في الواقع غير مستقر ويحتاج إلى إصلاحات متكررة بحكم تطورات النزاع. وهو يقوم بصفة أساسية على هياكل الإدارة السابقة للدولتين العراقية والسورية؛ لضمان استمرار سير العمل في المناطق التي تم كسبها.
ولكن يبدو أن الحزب يوشك على الفشل في إدماج الطبقات المتوسطة. ففي جبل سنجار انضم السكان المتعلمون إلى معسكر برزاني الذي يقدم لهم آفاقًا اقتصادية جيدة. أما في سوريا، فقد فضلت الطبقات المتوسطة الكردية والعربية المنفى على الانضمام إلى نموذج «روج أفا» السياسي. هذا الافتقار إلى الكوادر وإلى الأعضاء المتعلمين والمؤهلين، اضطر الحزب إلى الاستناد أكثر فأكثر إلى جهازه الأمني، والاستثمار أكثر في ناشطين أكراد غير سوريين للتحكم في المؤسسات.
وفي صيف 2016، وبينما كانت الأراضي الخاضعة لحزب العمال الكردستاني في توسّع مستمر، كان من الصعب التنبؤ بقدرة هذه الهياكل على الصمود والاستمرار على المدى البعيد.
في عام 2015 كان حزب العمال الكردستاني واثقا في قدراته العسكرية المتنامية في سوريا، فأطلق انتفاضة في عدد من مدن كردستان تركيا. غير أنه لم يحصل على الدعم الشعبي الذي كان يطمح به، ومن ثم نجح الجيش التركي في سحق حركة التمرد هذه؛ الأمر الذي أدى إلى سقوط الآلاف من القتلى.
وينظر الحزب إلى كلٍ من سوريا والعراق بصفتها قواعد دعم، في حين تبقى السيطرة على كردستان تركيا الذي يضم بين 15 و20 مليونا من الأكراد هدفه الرئيسي. وتختتم ورقة «مبادرة الإصلاح العربي» للباحث الفرنسي أنطوان مالتيه، بالقول، إن الانفتاح الاستراتيجي الوحيد المتاح للأكراد يقوم على استمرار حرب أهلية في كلٍ من سوريا والعراق، بغية الانتهاء إلى زعزعة استقرار الدولة التركية. في الوقت الذي أصبحت فيه الكلفة السياسية للتعاون العسكري مع الأكراد مرتفعة للغاية بالنسبة إلى القوى الغربية؛ إذ يخوض حزب العمال الكردستاني بعض المعارك علنًا في مناطق تعتبرها أنقرة خطوطًا حمراء.
{العمال الكردستاني} يعود إلى الشمال السوري بذريعة «داعش»
الطبقات المتوسطة فضلت المنفى على الانضمام إلى نموذج «روج أفا»
{العمال الكردستاني} يعود إلى الشمال السوري بذريعة «داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة