لعل العقل الغربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، المشبوب بأوهام العنصريّة والتفوق العرقي كان قادرًا - وبانسجام مرعب - على تبرير تلك الحملة المؤسفة لنقل آثار الأمم الفقيرة والمهزومة إلى حواضر أوروبا كي تتمتع أبصار جمهورها بغرائب الكوكب الأرضي، وكي يدرس علماؤها أعمالاً فنيّة وحضاريّة كان يمكن أن تندثر ولا تُعَوّض، واضعين لنا أسس فهمنا المعاصر للتاريخ والحضارة والفنون. لكن التساؤل الذي يطرح نفسه الآن، هو كيف يمكن للأجيال الجديدة من الغربيين على جانبي الأطلسي وبعد مرور عقود كثيرة على انتهاء المرحلة الإمبرياليّة، وأيضًا بعد ادعاءات الغرب العاليّة الصوت بالريادة الأخلاقيّة للعالم وحقوق الإنسان وحكم القانون والحرص على حماية التراث الإنساني المشترك أن تتعايش أخلاقيًّا وفلسفيًّا مع فكرة الاستمرار بالاحتفاظ بهذه الكنوز التاريخيّة وكأنها ملك لها دون شعوبها الأصليّة؟
المتحف البريطاني - الذي تأسس عام 1753 - هو العنوان الثقافي الأبرز في مدينة الضباب وهو الصارخ بشهرته العالمية بين جل المتاحف، وهو الذي ليس له من «بريطانيته» سوى أنه أشبه بشاهد على التاريخ الإمبريالي الممتد من بدايات الثورة الصناعيّة إلى حرب السويس، يفتقر إلى أية آثار إنجليزيّة تُذكر، وفيه تحتفظ الإمبراطوريّة المتقاعدة بعشرات الألوف من القطع الأثريّة التي (استحصل عليها) من كل أصقاع العالم المأهول وبطرق مختلفة، عبر سفراء وأثرياء النخبة البريطانيّة عندما كانت دولتهم العظمى تحكم أراضي لا تغيب عنها الشمس، من العراق، مصر، الصين، نيجيريا، اليونان، سوريا، وفلسطين. جل هذه القطع مثل آثار النمرود العراقيّة، أو حجر روزيتا، أو زخارف البارثينون مثلاً لا تقدر بثمن مهما تكن باهظيته، ليس فقط لندرتها وقيمتها الفنيّة فحسب، ولكن بوصفها الشواهد التي نمتلكها كبشر على تاريخ تجربتنا الجمعيّة على هذا الكوكب.
المتحف البريطاني - وإن كان درّة المتاحف العالميّة - ليس وحده بمثابة مستودع ضخم لمسروقات علنيّة. فمعظم عواصم أوروبا الكبيرة - كبرلين وباريس ومدريد وفيينا - لديها متاحفها الضخمة التي تعرض تراث المرحلة الإمبرياليّة في القرنين التاسع عشر والعشرين على شكل مقتنيات أثريّة ثمينة من تراث الحضارات القديمة المنهوبة عبر العالم من أستراليا، مرورًا بآسيا وأفريقيا، وانتهاء إلى سواحل تشيلي.
وكما يبدو جليًا في راهن الحال، لا تنوي المؤسسة الثقافيّة الغربيّة الخروج من تناقضها بهذا الشأن، وتتجاهل المتاحف بالطبع مثل التساؤلات المشروعة بحكم الأمر الواقع، كما يجادل بعضها أن المتاحف (الغربيّة) إنما تقوم بالاحتفاظ بهذا التراث نيابة عن البشرّية جمعاء. فزخارف البارثينون - وهو أهم معالم مدينة أثينا في أزهى عصورها الإغريقية - مثلاً اشتراها عام 1801 توماس بروس (1766 - 1841)، السفير البريطاني لدى بلاط السلطان العثماني الذي كانت بلاده تحكم اليونان المعاصرة، وهو أرسل من لندن صندوقًا يضم ثلاثة تليسكوبات فضيّة وزجاجتي كريستال وبندقيّة كي يقدمها وكيله رشوة للحاكم التركي لمدينة أثينا كي تسهل مهمة فك وترحيل النحوت البارزة على جوانب البارثينون. أراد سعادة السفير النحوت لتزيين جدران قصره في الريف الإنجليزي لولا تعرّضه لمشكلات ماليّة بسبب اعتقاله لعدة سنوات في فرنسا، ما اضطره لبيعها عام 1816 للمتحف البريطاني، الذي حفظها وفهرسها وعرضها بالشكل الذي تستحق في إحدى أهم صالات المتحف المفتوحة للجمهور بالمجان. من دون المتحف إذن كان يمكن أن تضيع هذه التحف المبهرة إلى الأبد. كذلك يتحدث أمناء متاحف عن حفظ تراث البشريّة من خطر التدمير والإفناء في المجتمعات (النامية). فجدران القصور الآشوريّة والبابليّة العريقة التي يحتفظ بها المتحف البريطاني بما فيها من نحوت بارزة تلخص عظمة تراث البشريّة في العراق القديم كانت ستنتهي، ربما في أيدي اللصوص، أو تحت معاول المتطرفين الدواعش في مناخ التخلخل السياسي الذي تعيشه المنطقة منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
طرحت هذه المسألة للنقاش عدة مرات في الأوساط الثقافيّة والسياسيّة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ويبدو أنها تجددت اليوم من خلال قضيّة الأعمال الفنيّة التي تركها النازيون بعد سقوط حكم الرايخ الثالث في 1945، إذ رفض متحف سويسري مؤخرًا إعادة عمل تشكيلي معروف للفنان جون كونستابل لمدعي حق ملكيّة اللوحة الأصليين الذين كانوا قد اضطروا لبيعها في مزاد علني عام 1943 تحت ضغط حكومة فيشي الفرنسيّة المتعاملة مع النازيين، فانتهت إلى أيادٍ نازية، وما لبثت أن بيعت للمتحف السويسري بعد سقوط برلين، ويبرر المتحف موقفه بأنه اشترى اللوحة بحسن نيّة من السوق، وأنه يعرضها للعموم منذ ذلك الحين، وهو عرض على المالكين الأصليين إضافة لوحة نحاسيّة صغيرة تذكر قصة ملكيّة اللوحة على الجدار إلى جانب اللوحة.
يطرح خبراء وقانونيون وصحف في الغرب آراء أدانت موقف المتحف واعتبرته نوعًا من التباس ونفاق أخلاقي، على الرّغم من أن سويسرا بقيت على الحياد طوال الحرب العالميّة الثانية، وبالتالي لا تعيش الشعور بالذنب الذي يمكن أن يواجهه متحف ألماني مثلاً. ويدعو بعضهم بوضوح إلى ضرورة تنظيف الأعمال الفنيّة المعروضة من الجرائم التي تحملها في خلفيتها، وهم في ذلك بالتأكيد لا يتحدثون عن آثار مصر والعراق واليونان والصين، بل إنهم يقتصرون دعوتهم على الأعمال الفنيّة التي تم تداولها في العهد النازي القصير، وهي على أهميتها تقصر على أن تقارن ببقية التراث المنهوب.
هذه الانتقائية المريضة تدع الطرف الآخر من مدّعي الحرص على نزاهة الأعمال الفنيّة يقع في التباس أخلاقي أكبر، ربما من ذلك الذي تعيشه المتاحف، إذ ما أهمية إعادة لوحة واحدة لأحفاد مالكها الأصلي الذين ربما سيعلقونها على جدران قصرٍ خالٍ أو يحفظونها في قبو بنك مظلم، مقارنة مثلاً بآلاف قطع البورسلين الصيني المذهلة التي سرقها الجنود البريطانيون من القصر الصيفي لإمبراطور الصين أثناء حرب الأفيون الثانية، قبل أن يحرقوا القصر على من فيه من الخدم والحراس عن بكرة أبيهم، وتعرض اليوم كأحد أثمن موجودات المتحف البريطاني؟ أو ربما آلاف التماثيل البرونزية لملوك نيجيريا التي استولى عليها البريطانيون بعد أن حرقوا العاصمة وأسقطوا الحكم الوطني فيها، والتي يتفاخر بامتلاكها ذات المتحف اليوم؟ أو حتى حجر رشيد الذي كان مفتاح الحضارة المصريّة القديمة كلها، والذي سرقه الفرنسيون من مصر أيام نابليون وانتهى في صفقة بين البريطانيين والفرنسيين معروضًا في المتحف البريطاني؟ وغيرها وغيرها...
لا شك أن البشريّة التي وصلت مستويات غير مسبوقة عبر تقدمها التكنولوجي والعلمي وأرسلت سفنًا فضائية مأهولة إلى القمر، ما زالت تعيش ثقافيًّا وفلسفيًّا في أجواء الإمبرياليّة القديمة، أسيرة المفاهيم العنصريّة العتيقة وادعاءات التفوق العرقي مهما ادعت عكس ذلك. تفكيك متاحف الفترة الإمبرياليّة - بما فيها المتحف البريطاني الخلاب - قد يكون خطوة أولى في الاتجاه المطلوب على الأقل، وربما ببداية رمزيّة مثل إعادة قطع البارثينون لليونان الجارة المستقرة وعضوة الاتحاد الأوروبي ومهد حضارة أوروبا المعاصرة.
الآثار المنهوبة... مسروقات علنيّة أم حفاظ على الذاكرة البشريّة؟
المتحف البريطاني مثالاً
الآثار المنهوبة... مسروقات علنيّة أم حفاظ على الذاكرة البشريّة؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة