ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

الدوافع الخفية لمعارك الرئيس الأميركي الجديد مع الصحافيين

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى
TT

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

ترمب والإعلام... حرب تلد أخرى

باستثناء القنوات الإعلامية المملوكة لإمبراطور الإعلام الأميركي الأسترالي روبرت مردوخ، تشن كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية حربا شرسة على الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ أعلن ترشحه للرئاسة. ويبادل ترمب وأنصاره هجمات الإعلام التقليدي بهجمات مضادة لا تقل شراسة، رغم غياب التكافؤ بين الطرفين.
ومن المفارقات أن هذه الحرب، التي لا تزال مستمرة حتى الآن، خدمت ترمب أكثر مما أضرت به أثناء حملته الانتخابية، إن لم تكن هي سبب وصوله للرئاسة... كونها حققت له انتشارًا واسعًا لم يحصل عليه أي مرشح آخر غيره لا في المراحل التمهيدية ولا في التصفيات اللاحقة. كما أسفرت هذه الحرب عن انتشار وجهات نظره المثيرة للجدل انتشار النار في الهشيم.
بغض النظر عما إذا كان دونالد ترمب، قبل انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، قد تعمد إشعال الحرب وإثارة الجدل حول نفسه لتحقيق الهدف المشار إليه، أم أنه يؤمن بالفعل بما كان يجاهر به من آراء مثيرة للجدل، فالشيء المؤكد هو أنه لم يعد في صالحه استمرار هذه الحرب أو تصاعد الهجمات الإعلامية عليه. ذلك أنه لم يعد مرشحًا بل بات رئيسًا يتوجب عليه التخفيف من المعارك الجانبية. ولكن، مع ذلك نجد أنه يواصل صب الزيت على نار هذه الحرب بدلاً من محاولة إطفاء لهيبها.
وحقًا، لم يكف ترمب، منذ لحظة إعلان فوزه، عن استهداف الإعلام والإعلاميين وإطلاق أبشع الأوصاف عليهم، مثل قوله في خطاب ألقاه أمام موظفي وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، في مقر الوكالة بولاية فيرجينيا إن الصحافيين «من أقل البشر أمانة على وجه الأرض». وبدلاً من محاولة كسب الإعلاميين أو التخفيف من نقمتهم عليه، يبدو ترمب مصمما على خوض حرب وراء أخرى ليس فقط ضد إعلام التيار الليبرالي... بل وحتى مع جزء من الإعلام المعبّر عن التيار الوسطي في الحزب الجمهوري ذاته الذي ينتمي إليه. فما هو السبب يا ترى في إصرار الرئيس على خوض مجابهات لا تبدو نتائجها في صالحه بعد فوزه في الانتخابات؟!
لقد أجاب ترمب بنفسه عن هذا السؤال من دون أن يُطرح عليه عندما قال في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير (كانون الثاني) الماضي إنه يمثل «حركة سياسية تاريخية لم يسبق العالم أن عرف لها مثيلا من قبل». وتابع أن يوم تنصيبه سيحفر في الذاكرة بأنه اليوم الذي استعاد فيه الشعب السلطة في الولايات المتحدة. ورغم استعادة «الشعب» للسلطة، حسب تعبير ترمب، فإن المهمة لم تنته بوصوله للرئاسة بل ستستمر لتحقيق أهداف الحركة السياسية التي قال إنه يمثلها.
يفسر ما جاء في هذا الخطاب معنى أبرز إعلان تلفزيوني إبان حملته الانتخابية للرئاسة الذي تضمن الشعار الشهير «إنها حركة وليست حملة انتخابية».
أما ما هي هذه الحركة التي يعتقد ترمب أن التاريخ سيتذكرها في صفحاته، وتستحق منه أن يغامر بخوض عداوات ومجابهات مع تيارات سياسية ذات أذرع إعلامية قوية، فهذا ما لم يكشفه ترمب بصورة مباشرة لا في خطاب التنصيب أو ما سبقه من خطابات. بل إنه أغفل ذكره في إعلانات الترويج لبرنامجه الانتخابي من ليلة إعلانه العزم على خوض السباق الرئاسي في منتصف عام 2015، إلى ليلة فوزه بالرئاسة يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، ولكن عدم الإعلان الصريح عن أهداف حركته لا يعني أن الرسالة لم تفهم أو لم تصل إلى المعنيين بها من طرفي المعادلة في المجتمع الأميركي.
الحقيقة يصعب على أي مراقب تفسير أقوال وأفعال ترمب ما لم يتوصل أولا إلى فهم أهداف حركته والأسباب التي أدت لنجاحه في انتخابات الرئاسة على حساب عائلتين سياسيتين في الولايات المتحدة وهما عائلة بوش وكلينتون.
هناك وسيلة سهلة يمكن عن طريقها فهم أهداف ترمب حركته السياسية وهي أخذ أجزاء من خطاباته وتصريحاته أو تغريداته والإبدال بكلمة «الشعب» أو «الناس» أو «الصالحين» أو ما شابه ذلك كلمة «البيض»، أي أفراد الغالبية البيضاء في المجتمع الأميركي. ومن يريد التعمق أكثر في هذا الأهداف عليه أن يستعيض عن كلمة «الأشرار» ومرادفاتها في أقواله بكلمة «الأقليات».
فعندما قال ترمب في خطاب تنصيبه إن التاريخ سيذكر يوم 20 يناير 2017 باعتباره اليوم الذي استعاد الناس فيه حكم هذه الأمة، فإنه يقصد على الأرجح أنه اليوم الذي استعاد فيه البيض» حكم الأمة.
* التمييز الإيجابي
الواقع أنه يوجد في الكونغرس الأميركي كتل للمشرّعين السود تهتم بالدفاع عن حقوق الناخبين السود. وتوجد منظمات تهتم بحقوق المهاجرين من ذوي الأصل اللاتيني، وكذلك جمعيات تعنى بحقوق المسلمين الأميركيين، إلى آخر القائمة. كذلك تُعطي الجامعات أفضلية في المنح الدراسية ومعايير القبول للأميركيين من ذوي الأصل الأفريقي، وتعطي الحكومة الفيدرالية الأفضلية في القروض العقارية والتجارية والوظائف للأقليات وغيرها من الميزات والفوائد. وعندما تتساوى مؤهلات متنافسين اثنين في أي سباق وظيفي أو دراسي... فإن الأولوية لا تكون لصالح الأبيض من بين المتنافسين، وذلك تطبيقا لقوانين سنها أجداد الرجل الأبيض منذ سنين للأخذ بيد الأقليات ورفع مستواها.
ولقد عرفت جميع فترات التاريخ المعاصر للولايات المتحدة حركات سياسية تتبنى الدفاع عن حقوق الأقليات بمختلف أطيافها، وحقق النضال السياسي لهذه الأقليات مكاسب لا يستهان بها. ولكن منح هذه المكاسب للأعراق المختلفة داخل المجتمع الأميركي لم يشكل خطرًا وجوديًا على الغالبية البيضاء. وما كانت الغالبية البيضاء في أي فترة من تلك الفترات تخشى على نفسها من أن تصبح أقلية، بل إن أبرز المناضلين من أجل منح الأقليات حقوقها الإنسانية كانوا قادة من البيض. وكمثال كان الرئيس إبراهام لنكولن، وهو رجل أبيض لا أسود، أكثر من خدم الأقلية السوداء ووضع قواعد تحريرها من الرق.
إذن ما الذي استجد ليشعر الأميركيون البيض بالقلق؟ ولماذا بات البيض يعتبرون أنفسهم أنهم «المنسيون»؟ يمكن العثور على إجابة لهذا التساؤل بالإنصات للهمس الخافت في أوساط الغالبية البيضاء بأنهم يتآكلون عدديًا لصالح الأقليات. وتزداد المخاوف أكثر من أن نسبة المواليد بين الأقليات وموجات الهجرة من المجتمعات غير الأوروبية باتت تهدد البيض بأن يغدوا أقلية ربما بعد أقل من نصف قرن. ولقد استغل ترمب ذلك فخاطب مكامن القلق لدى هؤلاء. ويمكن القول إن أهم أهداف حركته غير المعلنة هي الحفاظ على مصالح الغالبية البيضاء، وأولها أن تظل غالبية للأبد.
لتحقيق ذلك - حسب مناصري ترمب - لا بد للغالبية البيضاء أن يكون لها الحق كبقية أطياف المجتمع الأميركي في تنظيم نفسها والدفاع عن مصالحها، كما يفعل السود واللاتينيون والمسلمون، ولا يجوز أن يظل «البيض» وحدهم الذين يستهجن الجميع تنظيمهم أنفسهم أو دفاعهم عن مصالح تجمع بينهم كفئة من لون واحد. كذلك – حسب مناصري ترمب أيضًا - ما عاد البيض غالبية مثيرة لقلق الأقليات بل باتت هي القلقة، ولا سيما من خطر منبعه سبع دول إسلامية، يجب محاصرته في منابعه.
قد يكون دونالد ترمب أبرز القلقين لكنه لم يكن أولهم ولن يكون آخرهم. لقد غدا رمزًا لهؤلاء مع أنه كثيرا ما تبرأ من الجماعات العنصرية التي تجاهر بعنصريها، أو بتفضيل الجنس الأبيض على ما عداه. ولكن، على ما يبدو فإن الحركات السياسية الساعية للحفاظ على حق الغالبية البيضاء بألا تفقد وضعها كغالبية حققت أبرز نجاحاتها بوصول ترمب لموقع القرار الذي سيؤثر على حياة عشرات الملايين من البشر ليس خلال الأربع سنوات من رئاسته، بل ربما على مدى السنوات الـ40 المقبلة.
ونظرا لخطورة الموقع الذي يشغله ترمب، فإن المنابر الإعلامية القوية المعبّرة عن تيار واسع من ذوي التوجه الليبرالي - المصدوم بخسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون الرئاسة - تعمل على التمهيد لخطوات إسقاطه بحملات إعلامية قاسية. وبين هؤلاء نسبة كبيرة من البيض لهم رؤية مختلفة عن رؤية ترمب ويريدون تسخير الأقليات لخدمة رؤيتهم بدلا من استعدائهم. وبما أن الغالبية البيضاء منقسمة بالتساوي تقريبًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ربح الديمقراطيون خلال السنين الماضية باستمالة الأقلية السوداء إلى جانبه. وردا على ذلك بدأ الجمهوريون يخططون لاستمالة الأقلية اللاتينية لتحقيق التوازن. وبما أن الحزب الديمقراطي قدم للبيت الأبيض رجلا أسود تعبيرًا عن حسن النوايا، كانت خطة الحزب الجمهوري أن يقوم بخطوة مشابهة بتبني السيناتور ماركو روبيو أو السيناتور تيد كروز (وهما من أصل لاتيني) لمعركة الرئاسة. وخاض الاثنان المنافسة بالفعل، لكن ترمب نجح في إثارة مخاوف الغالبية البيضاء وتمكن من تحويل أعداد كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي البيض للتصويت لصالحه بسبب انحيازه لمصالحهم العرقية.
* مهمة لم تنته بعد
الواضح أن ترمب مصمم على خوض المعارك السياسية والإعلامية مع خصومه بلا توقف. وأهم المؤشرات على ذلك أنه يعد العدة لإطلاق قناة تلفزيونية خاصة به، حسب ما أكدته مصادر إعلامية أميركية متعددة. ويأمل ترمب من قناته أن تتولى مهام الدفاع عنه وعن أجندته ومواجهة ما تطرحه قناة «سي إن إن» التي يعتقد أنها تناصبه العداء، وبالتالي يجب تفنيد «أكاذيبها»، كما كرر ترمب في غير مناسبة.
طبعًا الرجل ليس ساذجًا أو محدود الذكاء، ومن ثم، فالتفسير الأقرب إلى المنطق هو أن الرجل فعلا يعتبر نفسه مسؤولاً عن حركة سياسية لم تنته مهمتها، وأن أمامه مشوارا طويلا من الصراع لتحقيق أكبر قدر من الأهداف التي كانت سببا لانتخابه. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار المواجهة الإعلامية مع الخصوم عرضًا من أعراض صراع أكثر عمقا بين تيار واسع يمثله وتيار أوسع من الخصوم داخل الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، يبدو أنه مصمم على تصيد أخطاء الرئيس الجديد والعمل على نزع شرعيته وإسقاطه من الرئاسة بكل الوسائل قبل إكمال فترته الأولى، لأنه أصبح خطرا على التوازن القائم. أما الأخطر من كل ذلك فهو أن المعارك الإعلامية أخذ تتطاول المؤسسات الأمنية الحكومية، ومنها الاستخبارات.
* أبرز جولات الحرب
كانت القرارات التي اتخذها ترمب قبل انقضاء أسبوعين من وجوده في البيت الأبيض من بين الأخطاء التي وجد فيها المتربصون به من خصومه وجبة دسمة ومغرية لشن حملة إعلامية على رئاسته هي الأكثر شراسة من كل ما سبقها من حملات.
وقد يظن البعض للوهلة الأولى أن دافع المنتقدين لما اتخذته إدارة ترمب من إجراءات ضد رعايا سبع دول إسلامية هو الغيرة على الحق. ولكن على الأرجح أن أكثر المسيسين من مهاجميه أرادوا فقط استغلال إجراءات ترمب ضد المسلمين كـ«حق يراد به باطل»، فالهدف الفعلي لهم هو تأليب العالم على الرجل ودحرجة الصخور في طريقه لإعاقته عن تنفيذ أجندة لا تروق للخصوم، وفي ذات الوقت تعبيد طريق آخر قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق رغبتهم بمحاكمته أو عزله.
ترمب، من جهته، يستعين في مواجهاته الراهنة بأسلحة قوية أهمها شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية اليمينية، التي يملكها روبرت مردوخ ملكية غير مباشرة وتقدم ما يخدم ترمب من مضامين عن طريق تضخيمها لمخاوف الأميركيين من «الإرهاب المتستر في أثواب اللاجئين أو المهاجرين». وهذه الجولة من الحرب الإعلامية لا تزال مستمرة ولم تظهر نتائجها بعد.
أما الجولة التي سبقتها، فهي تلك التي استهدفت ترمب خلال الفترة الواقعة بين 8 نوفمبر 2016 (يوم إعلان فوزه في الانتخابات) و20 يناير 2017 يوم تنصيبه. وكان من اللافت أن الحملة على ترمب في الفترة المشار إليها ركزت على هدف التشكيك في شرعيته عن طريق تضخيم الدور الروسي في إيصاله إلى الرئاسة.
إلا أن ترمب رد بذكاء، مدركًا أن أنجع وسيلة من وسائل الدفاع هي الهجوم، فبادر لاتهام أنصار منافسته الديمقراطية بتزييف ملايين الأصوات العائدة لموتى أو مهاجرين غير شرعيين ومطالبا بالتحقيق في ذلك، وسرعان ما رد عليه الخصوم بدفاع كاسح بأن الانتخابات كانت سليمة 100 في المائة، ولم يشبها أي تزييف... فكان هذا ما يريد سماعه بالضبط لما فيه من اعتراف بشرعية وصوله للرئاسة، في حين تناسى المدافعون عن سلامة الانتخابات ما سبق أن قالوه بأن التدخل الروسي تمخض عن فرض نتائج لم يكن الناخبون الأميركيون راغبين بها.
ونجح ترمب أيضًا بإفشال خطة التشكيك بولائه لبلاده عن طريق إبراز تعاملاته التجارية مع روسيا «العدو التقليدي» لأميركا، إلا أن النكسة الإعلامية الكبرى للخصوم وقعت عند لجوئهم لاختلاق قصة خضوعه للابتزاز الروسي بتسريب معلومات عن فضائح أخلاقية مختلقة زعم مصدرها أنها وقعت له قبل سنوات في فنادق موسكو باستدراج من الاستخبارات الروسية. وزعم التسريب أن الروس تمكنوا من تصويره في أوضاع مخلة بالآداب. ولتفنيد هذه المزاعم لجأ ترمب إلى سلاح «تويتر» الفتاك بإيصال وجهة نظره إلى جمهور من المتابعين يزيد عن عشرين مليون شخص. وساعده في ذلك أن القنوات والمنابر المناوئة له تتناقل كل تغريدة من تغريداته تقريبا بغرض السخرية منه، لكنها تحقق في ذات الوقت هدفًا عكسيًا يصب في مصلحته وهو إيصال رأي الرجل إلى جمهور واسع النطاق بدأ يرحب بأفكاره أو على الأقل يتمعن فيها. وانتهت هذه الجولة بالتالي لصالحه.
أما الجولة الأطول والأسبق زمنيا من الحرب الإعلامية بين ترمب وخصومه المتعددين أو منافسيه من جمهوريين وديمقراطيين فهي التي تمت في خضم الحملة الانتخابية، فكان لها ما يبررها، لأن من الطبيعي أن يتخلل الحملات الانتخابية للرئاسة مواجهات حامية. ولكن حملة ترمب الانتخابية لم تكن عادية، إذ إنها دشنت الحرب الإعلامية منذ اليوم الأول فيها عندما أعلن ترمب ترشحه للرئاسة، من بهو برجه في نيويورك المعروف باسمه. وتضمن إعلان الترشح أول تصريح أثار الجدل ولفت الانتباه إلى ترمب من قبل من ساءهم التصريح قبل أن يصل مضمونه إلى المتفقين معه. لقد تضمن تبيان الهدف الأول من الترشح هدف «إنقاذ أميركا» من موجات الهجرة غير الشرعية خصوصا من المكسيك. ووصف ترمب القادمين من الحدود الجنوبية لبلاده بأنهم تجار مخدرات وقتلة ولم تعرف الولايات المتحدة منهم إلا الشر. وتعهد في بيان الترشح ببناء جدار عازل على الحدود لوقف موجات التسلل وتحصين سوق العمل في الولايات المتحدة لمنع القادمين الجدد من سرقة الوظائف من المواطنين الأميركيين.
أنتجت هذه التصريحات زوبعة كبيرة وردود فعل لم تتوقف، وكان الرجل يعلم تماما أنه بهذه التصريحات سيخسر بلا شك أصوات الأقلية اللاتينية، لكنه لم يكترث. وبمجرد أن خمدت الزوبعة مع ذوي الأصول اللاتينية، فتح جبهة مع الأميركيين الأفارقة. ثم بمجرد أن هدأت هذه الجبهة، فجر مفاجأته الكبرى باقتراح منع دخول المسلمين الأراضي الأميركية. ومرة أخرى كان يعلم أنه يخسر أصوات الأقليات فيما كان منافسوه حريصين كل الحرص على أصوات تلك الأقليات.
* حسابات الربح والخسارة
واتضح لاحقا أن ترمب، بعقلية التاجر المحترف، كان يعلم أكثر من منافسيه بأن أي مكسب لا يمكن أن يأتي من دون خسارة. ومن أجل الحصول على أصوات وتعاطف الغالبية البيضاء لم يتردد في التضحية بأصوات الأقليات، بل والمجاهرة في العداء لهم. وكان الرجل بارعًا في الحساب والتعامل مع الأرقام، إذ إنه أدرك أنه لكي يكسب أربعة ناخبين من البيض على سبيل المثال فإن عليه أن يخسر على الأقل ناخبا واحدا من السود وآخر من اللاتينيين الهيسبانيكيين، أما المنافسون فقد أعماهم حرصهم على أصوات الأقليات عن التفكير بأصوات الغالبية فكانت النتائج مخيبة لآمالهم، ومن كسب منهم ناخبا من الأقليات خسر مقابله ثلاثة ناخبين من الأغلبية البيضاء، بمن في هؤلاء المرشحين هيلاري كلينتون التي كانت أقواهم وقاب قوسين أو أدنى من الرئاسة.
ولم تكن حملة ترمب الإعلامية حملة عادية، إذ إن هجماته لم تقتصر على الخصوم أو المنافسين السياسيين بل وزعها في كل الاتجاهات عن عمد. وكانت أهم غنائم معاركه هي التي حصدها من فتح جبهة مع الإعلام والإعلاميين، حيث تعمد أن يهاجم شبكات أخبار واسعة الانتشار أو مقدمي برامج مشاهير في هذه المحطات، مثل «فوكس نيوز» في بداية الأمر ثم «سي إن إن» لاحقا. وفي الوقت الذي كان ترمب يهاجم هذه المحطات فلم يكن يقاطعها بل يستفيد منها ويتعمد استثارتها للحصول على ردود فعل كانت بالنسبة له بمثابة دعاية مجانية لحملته ساعدته نهاية المطاف في تحقيق هدفه نحو الرئاسة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.