أحكمت لف الشال الصوفي حول كتفيها لتفادي الشعور بالبرد ثم أسرعت بخطواتها نحو الغرفة المضاءة على بعد مائة متر تنفيذا لأوامر العسكري عند الحاجز بأن «هيا أسرعي... أسرعي خلصينا كلنا نشعر بالبرد».
حثت المرأة خطواتها خلف رجل سبقها إلى النافذة، وتساءلت المرأة ماذا يحدث ولم هذا التشديد؟! فرد الرجل من دون أن يلتفت إليها، وكان هو الآخر يرتجف بردًا «ليس هناك أي شيء جديد سوى أن العسكر لم يعد يروق لهم أن ننتظر بالسيارة لتفتيش هوياتنا، علينا أن نركض بأنفسنا إلى جهاز التفييش (القسائم)». امرأة أخرى كانت تجرّ خلفها ثلاثة أطفال قالت ممتعضة «أشعر وكأنني أدخل نقطة حدودية لأعبر إلى بلد آخر وليس إلى دمشق». ووراء الكوة المضاءة جلس عسكري في غرفة شبه فارغة إلا من طاولة معدنية وكرسي بلاستيك وجهاز كومبيوتر موصول بالأفرع الأمنية المعنية، ومدفأة حطب قديمة. كان يتناول الهويات بشكل آلي من الكوة يمرّرها على «فيش» ويرميها بلا مبالاة إلى أصحابها من دون حتى أن ينظر إلى الوجوه المصفرة بسبب الصقيع في مساء يوم دمشقي بارد.
روت رنا الديراني هذه التفاصيل أثناء حديثها عن تفاجئها بالإجراءات الجديدة عند المداخل في يوم واحد في رحلة مغادرتها سوريا خلال الأسبوع الماضي، فقالت: «كأن حدودا قد رسمت للعاصمة تفصل بينها وبين ريفها. الانتقال من الريف إلى العاصمة أضحى يتطلب إذن دخول (فيزا) بينما الخروج منها لا يحتاج لذلك، مع أن ريف دمشق وفي مناطق كثيرة منه التصق بدمشق وبات جزءا من أحيائها. تعزيز الحواجز على مداخل العاصمة ليس جديدًا إلا أن إجراءات التفتيش والتفييش تغيّرت، إذ كانت تستعر في أوقات الاستنفار، لكنها باتت أخيرًا تفعّل في كل الأوقات».
نورا، التي تسكن في ريف دمشق الشمالي الغربي وتعمل في وسط دمشق بأحد مراكز التجميل، توضح «منذ شهر لاحظنا وجود تدقيق شديد على الجميع وتفييش للهويات، حتى هويات النساء، عند مدخل دمشق الغربي»، مشيرة إلى أنها في إحدى المرات، وكان الازدحام شديدًا، توقفت لأكثر من ساعتين عند حاجز مطار المزة بانتظار التفييش.
لقد اعتادت نورا على استخدام «السرفيس» (حافلة خفيفة تحمل 12 راكبًا)، وعند الحاجز جرت العادة أخذ هويات الشباب للتفييش بغية التأكد من أنهم غير مطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو للاحتياط، وفي غضون ذلك ينتظر السائق والركاب على جانب الطريق عودة البطاقات لاجتياز الحاجز. أما الآن فيشمل «تفييش» الهويات الجميع رجالا ونساء، من دون استثناء، وعليهم النزول من الحافلة والذهاب إلى مركز التفييش بينما يعبر السائق بالحافلة جهاز المسح «السكانر» للتفتيش أو المسح الضوئي، ومن ثم ينتظر عودة ركابه.
العملية تستغرق من نصف ساعة إلى ثلاث ساعات تبعًا لشدة الازدحام. وبحسب ما قالته نورا فإن الإجراءات تطبّق فقط على الداخلين إلى دمشق أما الخارجون منها إلى الريف فيكتفى بـ«الاطلاع بالنظر على تاريخ الميلاد في بطاقات الذكور».
جدير بالذكر أن النظام كان قد صعّد حملات ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية والاحتياط بعد الإعلان عن تشكيل «الفيلق الخامس» في نهاية العام الماضي. ويومذاك ادعى أن الانتساب إليه يجري «تطوعًا»، قبل أن يتبين لاحقًا أنه إجباري يُساق إليه من هم في سن الخدمة الاحتياط من الموظفين والعاملين في الدولة.
ولقد اضطر رامز، وهو مهندس موظف في مدينة ساحلية، للالتحاق بقوات النظام لأنه طُلب للاحتياط عندما وضع أمام خيار الانتساب إلى «الفيلق الخامس» أو التحاق بالمطلوبين للاحتياط.
غير أن الإجراءات الأمنية وتفييش البطاقات الشخصية للنساء والرجال وإخضاع جميع السيارات والمركبات المدنية لجهاز المسح الضوئي (السكانر)، الذي كان مقتصرا على الشاحنات، بوشر بتطبيقها على نحو مشدد بعد وقوع تفجير في منطقة كفر سوسة، بمحيط أحد أكبر المعاقل الأمنية في العاصمة قبل نحو أسبوعين. وأسفر هذا التفجير عن وقوع عشرة قتلى وعدد من الجرحى معظمهم من قوات الأمن والدفاع الوطني بينهم ضابط برتبة عميد. وتتموضع الحواجز الكبرى المجهزة بالمسح الضوئي للمركبات (السكانر) اليوم على المداخل الرئيسية لدمشق، من الجهات الأربع: من الغرب على طريق دمشق ـ بيروت، والشمال الغربي عند حاجز مطار المزة، والجنوب على طريق دمشق ـ درعا الدولي، والشرق على طريق دمشق ـ حمص عند بلدة القطيفة. والحاجز الأخير تتخذ فيه إجراءات مشددة منذ اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد. وخلال أربع سنوات نشأت حوله سوق صغيرة من عشرات الأكشاك لبيع المشروبات الساخنة والعصير والمرطبات والتسالي لتخديم طوابير المسافرين بين المحافظات أثناء انتظار إجراءات التفييش ذهابًا وإيابا. ولقد شهد هذا الحاجز اعتقال مئات من السوريين، حتى بات العرف العام أنه «لا يمكن أن تمر نملة بحاجز القطيفة دون تفييش». أما الحاجز الآخر المتشدد تفتيشه جدًا فهو المعروف بـ«حاجز الفرقة الرابعة» المتموضع على طريق دمشق ـ بيروت، ومع أنه غالبا لا يتم «تفييش» البطاقات الشخصية فإن آليات التفتيش فيه دقيقة وتجري يدويًا عبر نبش حقائب المسافرين قطعة قطعة وكذلك السيارات. بل إن السيارة المشتبه بها تفكك قطعة قطعة لتقع مهمة إعادة تركيبها على عاتق السائق. وهذا أمر أمكن التحايل عليه لاحقًا عبر دفع رشاوى لطاقم عناصر الحاجز كي لا يفكوا السيارة أو يتمادوا كثيرا في نبش حقائب الركاب، لا سيما النساء. وبمرور الوقت، جرى التعارف على رشوة معلومة (علبة سجائر) حتى بات اسم الحاجز «حاجز مارلبورو».
الحواجز الأخرى، لا سيما، حاجز نهر عيشة على أوتوستراد دمشق ـ درعا (جنوب العاصمة) شهد إجراءات جديدة في الآونة الأخيرة، إذ بنيت غرف على جانبي الطريق لإجراء عمليات التفييش، كما جرى فتح مَسرب ترابي في الطريق نصب عليه جهاز المسح الإلكتروني. وكان التفتيش مخصصا لشاحنات البضائع الآتية من حوران أو العابرة ترانزيت من الأردن، لكنه أخيرًا شمل جميع السيارات. كذلك نصبت على الطريق الكثير من الأقواس والدشم الإسمنتية في هندسة توحي بأنها منطقة حدودية بين بلدين متحاربين لا بين مدينة وضواحيها.
رنا الديراني عبرت عن استيائها من تعزيز المظاهر الأمنية الحربية. ورأت أن ما يفعله النظام لا يرمي إلى ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية بدليل أنه يدقق في هويات النساء، كما أنه لا يهدف أيضا لملاحقة المشتبه بهم أمنيًا لأن التفجيرات وعمليات الاغتيال تحدث داخل العاصمة وفي مواقع غير متوقعة. وبالتالي، فهي تلمح إلى إمكانية أن يكون النظام نفسه يقوم بتلك لأهدافه الخاصة. وتقول في هذا السياق إن النظام يعزز الحواجز على مداخل العاصمة ويزيد في إذلال المدنيين، بغية «عزل دمشق ومنع كل من هو غير مقيم فيها من أبناء الريف من دخولها إلا للمضطرين»، مضيفة أن هذه «حلقة من حلقات تضييق سبل العيش وخنق دمشق ومن تبقى من سكانها، من أجل تفريغها من أهلها». وتشير رنا، التي غادرت سوريا قبل فترة قصيرة، إلى أن الأحياء الراقية في دمشق والقريبة من القصر الرئاسي باتت شبه خالية، إذ هجرها ساكنوها ولكن لا يُسمح لهم بتأجيرها أو بيعها لأحد من دون موافقة من فروع الأمن المسؤولة عن المنطقة. ثم بيقين لا يقبل الشك «النظام يحوّل دمشق إلى جحيم. صحيح أنه لم يدمرها بالطائرات... لكنه يخنقها بقطع الماء والكهرباء والملاحقات والاعتقالات وإحكام الطوق على حركة التجارة والأسواق... إلخ».
عزل مدينة دمشق عن ريفها... وتعزيز الحواجز الكبرى على مداخلها الرئيسية
تضييق في العاصمة السورية على الداخلين وغض الطرف عن الخارجين
عزل مدينة دمشق عن ريفها... وتعزيز الحواجز الكبرى على مداخلها الرئيسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة