«سلاف بغداد»... عراق ما بعد 2003

تمتد جغرافيًا ما بين العاصمة وبعشيقة والناصرية والمناطق الغربية

شارع الرشيد  -  غلاف الرواية
شارع الرشيد - غلاف الرواية
TT

«سلاف بغداد»... عراق ما بعد 2003

شارع الرشيد  -  غلاف الرواية
شارع الرشيد - غلاف الرواية

صدرت أخيرًا عن دار المركز الثقافي العربي في بيروت رواية «سُلاف بغداد» ديسمبر (كانون الأول) 2016 للناقد والأكاديمي د. محسن الموسوي، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، وتشكل في رصيده الروائي الخامسة، بعد «أوتار القصب» و«دون سائر الناس: انفعالات الرقم 46»، و«درب الزعفران»، و«العقدة».
وسُلاف هو أسم المشرب الذي يقع في الطرف الشرقي لشارع الرشيد، قبالة محلات «الجقمقجي للتسجيلات والأسطوانات». هذا المشرب الذي ذاع صيته بين الأدباء والشعراء في الخمسينات البغدادية، فقد ارتاده كاظم جواد، ورشدي العامل، ومحيي الدين إسماعيل والسياب، إذا ما توفرت النقود، واستمرت سمعته في المراحل التالية قبل أن تدفع به محلات شارع أبي نؤاس إلى المرتبة الثانية أو الثالثة. كانت مطالع التحذيرات تنبّه القارئ إلى أنه بصدد تداخل الوهم بالواقع، والأسماء الحقيقية لأشخاص تاريخيين تستدعي الأوهام أحيانًا والحقائق في أحيان أخرى. وما هذا تريده الرواية بجمعها وحشدها للأسماء والمسميّات والأماكن. تبتدئ الرواية بصوت لسيرة بنت محمد، مدرّسة الجغرافية في ثانوية «العقيدة» للبنات. تقول: «توسدت الليلَ ونمتُ...».. لكنها نامت في ظلام بغداد المحتلة، يخاتلها «سرّ» ما، داعب مخيلتها وأبقاها أسيرته على مدى أشهر، بينما كانت تتساءل عما تسمعه عن «حمدي السماك» الشاعر والروائي الذي يراه الناس واجمًا منذ مشادة قديمة في «سُلاف»، ادعى فيها القدرةَ على إنهاء حياة الطرف الآخر في المشاجرة بجرة قلم في رواية مقبلة. مات الطرف الآخر فعلاً. وكان أن ذُهلَ السماك: ترى هل يكتب بعد ذلك؟ وماذا لو تحولت هذه إلى وقائع؟ هنا تبتدئ الرواية متخذة مجموعة مسارات وبناءات سردية متوازية. هناك في بغداد الموحشة كان له أن يقع على صحبة فريدة تمناها من قبل، لكنها بدت مستحيلة. كان ذلك اللقاء بالعالم العراقي يوحنا السرياني في سرداب عتيق عصي على أعين الميليشيات هو مفتتح جملة المغاليق على أصعدة الروي ما بين رحلات فعلية، كرحلة «الحمير»، وجولات ليلية مع المجانين والمشردين في عالم غامض مضطرب لا تنيره غير ذبالة ضوء خافت وشمعة هنا أو هناك تتيح قليلاً من الفضاء للكتابة والرسم والتفكير. كل هذه الأسرار والجولات واللقاءات تفتح نافذة هنا أو هناك، وتجعل الرواية مجموعة من الألغاز والحلول. لكن النافذة الغريبة هي تلك التي يفتحها اللقاء بالعالم السرياني وابنته، فالعالم يريد لابنته الشفاء من علة طالتها بعدما شهدت عام 1991 وفواجعه، السماك يبصر المشهد بعين المحب الذي تتفجر في داخله الرغبة في الإنشاد والكتابة. لكن هؤلاء الأشخاص يتفقون على أمور ويختلفون في أخرى: أي أن السرد يتقصّد مساراته وبناءاته لينقاد القارئ في دروبها وثناياها، مطلعًا في الوقت نفسه على وقائع تاريخية من أيام الغزو المغولي تسترجعها الذاكرة لتعمّق من تبئير الرؤية السردية. ستنفرج الرواية في حلول طبعًا، وسيعود السماك إلى الكتابة، لكن ذلك لا يتم بسهولة: فثمة مكابدة وشجن وهوس وخوف وقلق. ويلقي التاريخ بظلاله على مجريات السرد فيلتبس الحاضر والماضي وترتجف اللحظة بانتظار حزمة ضوء تعيد للزمن مسارًا معقولاً. وقد ينتهي القارئ إلى التساؤل: تُرى مَنْ يصنع مَنْ؟ هل الفن هو صانع واقعه؟ أم هل أن الواقع وبضمنه التاريخ يوجد الفن، لكن الرواية تحيد عن «تعالم» المفكرين والمثقفين، ولا تضع القارئ عمدًا في لحظة لبس والتباس. وهي لا تقدم وصفات جاهزة. «رجال الروي» هنا لا يمتلكون مفتاحًا سحريًا لكنهم يتعاملون مع مجريات الأمور بعين المتأمل والشريك والراغب والمرغوب، كما لا تعوّل الرواية على بنيات سردية متعددة: فغايتها السرد نفسه، كما ينبغي أن يكون، منقادًا بسلاسة وهدوء لا تكسرها غير مفاجآت محدودة بعضها من الحاضر والآخر من الماضي. لكن الذي يتبقى في الذاكرة هو «سُلاف» نفسه بما يعنيه من عصارة، و«سُلافة» وما يجمعه ويكثّفه من الزمن، والفضاء، والذاكرة والحدث. سيبقى «سُلاف» في الذاكرة دليلاً في خريطة يُراد لها أن تنقرض وتنمحي، لكنه يراهن على «التاريخ» بعد عدة قرون كان يتخذ فيها تسمياتٍ مختلفة لديارات شغلت مساحة كبيرة ما بين الشماسية وموقعه الحالي في طرف شارع الرشيد. إن «سُلاف بغداد» رواية لوعة وطرب وشجن، كما أنها رواية تدين الدمار الذي يلحق ببغداد وأهلها وذاكرتها منذ قدوم الحمقى والجبابرة والفاسدين. وعندما سألت المؤلف عن الأسباب التي تكمن وراء اختيار «سُلاف» عنوانًا لروايته، قال إنه لم يحضر في هذا المشرب غير مرة واحدة، لكن صورته انطبعت في الذاكرة، وعندما كان يزور محلات «الجقمقجي» قبالة «سُلاف» كان يسمع وقعًا موسيقيًا ما بين الأسطوانات وما بين هذا المشرب. لربما كان الرواد ينشغلون بالأحاديث والمناقشات، وقد يكثر الصخب أو يقل، لكنه أي البار، كان في النتيجة منتدى آخر من منتديات بغداد يستعيد في ذاكرة رواده الديارات القديمة وما يجري فيها من حوارات ولقاءات وأناشيد. لكني تساءلت أيضًا عما إذا كان المؤلف يتباعد قصدًا عن روايته السابقة «دون سائر الناس: انفعالات الرقم 46»، يقول: لا أعتقد أن تلك الرواية الجاحظية أسلوبا والساخرة نسبيًا تضع اليد على معنى ما أنا بصدده: «هل يخلق الفنان عالمًا قد يتحقق؟ ترى هل أنه يقارب ويتباعد كما يقول القدامى عن الأدب؟». تنطلق تلك الرواية من الإشارة الاستعارية في القرآن عندما «تشهد جلودهم...» لكني سأنتزع الاستعارة وأتعامل مع الأمر حرفيًا في دكان أسكافي حيث تتحدث جلود الغزلان والجِمال والأرانب والمخلوقات الأخرى وتتحاور، وتنبّه إذا ما دخل قومندار أو صاحب سلطة و«بسطال» إلى المحل. كما إنها هي الأخرى تهرش جلد من تريد كما يفعل «بسطال» القومندار بصاحبه. والخلاصة أن هذا الهامش، الجلود في محل الأسكافي، تثأر لنفسها من «القومندار» الدموي... تُرى هل كنت أدرك ما سيكون؟ الكتابة لا تعرض الماضي أو المستقبل: لكنها تأتي بما يفتح المجال للتأمل والتساؤل وخلخلة الواقع. وهذا ما أقوله بصدد هذه الرواية أيضًا أي «سُلاف بغداد». ولكن ماذا عن «أوتار القصب» التي لم يُتَح لها الانتشار خارج العراق لأنها صدرت أيام هجوم 1991، هل لها علاقة بهذه الفكرة؟ يقول المؤلف: «تلك رواية تقع ما بين روايات ما بعد الاستعمار بامتياز. إن (الرومانس) الذي يجعل منها محببة لدى النقاد العراقيين كفاضل ثامر وحميد سعيد مثلاً هو الذي يوجد لهب المقاومة وشعلة الصّد والمواجهة، تمامًا كما هو الأمر في (سُلاف) عندما نعرف أن صاحبه (مطارد) من قبل سلطة الاحتلال وزبانيته. (الرومانس) هو الذي يوقد هذه الشعلة. وهذا ما يجهله بعض روائيي هذه الأيام، متناسين أن شعلة (الأدب) وشعريته رومانسية أولاً».
قلت للمؤلف إن خريطة «سُلاف بغداد» واسعة، امتدت جغرافيًا ما بين بغداد وبعشيقة والناصرية والمناطق الغربية من العراق. هل تريد أن تقول شيئًا ضد دعاة التقسيم والشرذمة مثلاً؟ يقول: «ربما كان ذلك في الوعي الذي سكن السرد. لم أفكر بذلك. لكن هذه هي مساحة البلاد التي عُرفت بسفساءاتها على مدى القرون والتواريخ. لكنها لم تجعل من هذه حجة للتقاتل والاختلاف والسيطرة والانتقام. العراقيون يمتلكون ولاءً للعراق. هكذا أود أن أقول. أما الفرقة العنصرية والدينية والطائفية فهي من ترتيب ذوي المصلحة في الانشقاق والنهب والسرقة والفساد وهدم البلاد. (سُلاف بغداد) تعرض للعراق جسدًا له نتوءاته شأن غيره، لكنه جسد له قلب وانتماء وذاكرة. وهذا هو المهم. لم أقصد كتابة ذلك، ولكن إن برز ذلك في الرواية، فلأنه يحيل إلى وعي أشارك فيه غيري من العراقيين».
وهكذا يبرهن لنا محسن الموسوي أنه قادر على أن يمسك بالسرد الروائي كما يمسك بنظرية السرد في ذات التألق والانبهار والعمق في «سُلاف بغداد».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!