«لا أحد يعود»... لغة كونية بلهجة عراقية

الشاعر العراقي فاضل السلطاني في مجموعته الجديدة

«لا أحد يعود»... لغة كونية بلهجة عراقية
TT

«لا أحد يعود»... لغة كونية بلهجة عراقية

«لا أحد يعود»... لغة كونية بلهجة عراقية

«يبدو الأمر كأن صوتًا غريبًا يغني من خلال روحي»، هكذا كتب أزراجي هيرفاي، الشاعر الفارسي في القرن الحادي عشر، وأضاف: «ثم، أدركت أنه صوتي، وقد عاد إلي ثانية». وكان الشعر دائمًا، ربما لأن الغرض منه في الأساس أن ينشد أو يغني، معنيًا بالصوت.
وكما قال ريلكه مرة: «فإنك لن تصبح شاعرًا حتى تجد صوتك الخاص. ولكن، في النهاية، ما يهم هو الأغنية، وليس المغني». غير أن على الشاعر، كي يجد صوته الخاص، أن يصغي للآخرين. وهي مغامرة قد ترسو به في أرض متنافرة النغمات، أو تساعده في إيجاد صوته الخاص... في القرن نفسه الذي عاش فيه أزراجي، صرف الشاعر الفارسي العظيم مانوتشهري، من مدينة دامغان، سنين وهو «يصغي» إلى الشعراء العرب ما قبل الإسلام، الذين طواهم النسيان الآن. وساعده ذلك في إيجاد صوته الخاص، الذي وصل إلينا من خلال بعض قصائده، التي لم يكتب ما أعظم منها في الفارسية.
الإصغاء إلى أصوات الشعراء الآخرين، من أجل الإلهام، هو ممارسة مشتركة بين شعراء العرب الكلاسيكيين والشعراء الفرس الذين يعكسون أصداء شعراء آخرين، من كل مكان، في أصواتهم الخاصة. وأحد التكنيكات في هذا المجال، معروف بالعربية باسم «الاستقبال»، وفيه يأخذ الشاعر بيتًا أو موضوعًا كاملاً من شاعر آخر، ثم يؤلف قصيدة جديدة، أو «غزلاً»... وواحدة من قصائد الغزل الأكثر شعبية لحافظ الشيرازي تبدأ بشطر «ترحيب»، وهو مستعار من الخليفة الأموي يزيد بن معاوية. التكنيك الآخر هو «الاقتباس»، ويعني «أخذ المشعل إلى قلب الظلام»، الذي من خلاله يقلد الشاعر شاعرًا آخر، مضيفًا لمساته الخاصة ليبتدع صوتًا مختلفًا قليلاً.
وللشعر الغربي تكنيكه الخاص، الذي يمكن أن يسمى تكنيك «الأصوات المستعارة». ومع ذلك، وعلى الرغم من أنهما كانا يكتبان باللاتينية، فإن فيرجل وأوفيد احتفظا باللهجات الإغريقية الثقيلة. وبالمقابل، احتفظ الشعراء الإنجليز في العهد الفيكتوري بأصداء الشعر اللاتيني، سواء بشكل مقصود أو من خلال التقليد غير الواعي.
وفي العصر الحديث، ومع انبثاق عالم متعدد اللغات، أصبح ممكنًا للشاعر الطموح الوصول إلى أصوات لا نهائية. لقد تعلم الشاعر الأميركي روبرت لوويل الإصغاء لأصوات شعرية في دزينة من اللغات، التي عكس صداها من خلال إعادة خلقها في مجموعته الشعرية الجميلة «تقليد». في هذه المجموعة، يستدعي لوويل شعراء متنوعين من هومر إلى ليوباردي. وفي القرن الماضي، اطلع الشاعر العربي على أصوات شعرية في الخارج، وخصوصًا أوروبا، وبشكل أخص فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا. وعلى أي حال، وصلت تلك الأصوات على مراحل، وغالبًا من خلال ترجمات ليست جيدة دائمًا.
وعلى أي حال، قادت مجموعة من الظروف، ابتداء من منتصف القرن الماضي، إلى اتصال أكثر مباشرة بين شعراء عرب وأصوات شعرية من أنحاء أخرى في العالم... ووجد عدد كبير من الشعراء أنفسهم في المنفى، مقطوعين عن جذورهم اللغوية المحلية، مغمورين يوميًا في واقع ثنائي اللغات، بما يحمله من مخاطر ووعود أيضًا.
في بعض الحالات، فإن سيل الأصوات الجديدة، الغريبة والمغرية، قد دفن صوت الشاعر العربي الخاص. وفي حالات أخرى، فقد الشاعر العربي في المنفى اتصاله التخيلي مع مكانه الثقافي، عاكسًا مأواه الاضطراري، وغالبًا بشكل ابتدائي.
لقد قرأت لعدة شعراء عرب قصائد عن الغابات المتجمدة، مما ذكرني بالسويد، أو بالطرق الشبيهة بالمعكرونة في كاليفورنيا. وهناك أيضًا أولئك الشعراء الذين طغى عليهم الصوت الأجنبي حتى أضاعوا أصواتهم الخاصة. وأحيانًا تشعر كما لو أن سان جون برس، إذا أردنا أن نذكر مثالاً واحدًا، هو الذي يتحدث من خلال الشاعر العربي، حتى لو كان سان جون برس هذا يعاني من نزلة برد.
إن جمال الشعر، باعتباره المفتاح لحرية الخيال، يكمن في كونه لا يعترف بالحواجز، بعكس الدين. الشعر هو الأداة الأكثر قدرة على التبادل الثقافي، لأنه يسمح بالزيارات الودية، وهو، مرة ثانية، بعكس الدين. والسبب هو أننا من الممكن تمامًا أن نعيش في عدة ثقافات، حتى لو كان ذلك أحيانًا بصفتنا زوارًا أو منفيين، بينما ليس من الممكن أن نعتنق أكثر من دين واحد في الوقت نفسه. ويستطيع المرء أن يتحدث، أو حتى أن يفكر، بعدة لغات، بينما لا تسمح ثنائية «النور والعتمة» الباروكية في الدين بالتعدد.
وهكذا، بالنسبة لي في الأقل، فإن الاختبار الأول لنجاح الشاعر هو إذا كان قد وجد صوته الخاص أو وجدت صوتها الخاص. في هذا الاختبار، نجح فاضل السلطاني كما هو واضح في مجموعته الجديدة «لا أحد يعود»، الصادرة عن دار «نون».
إنني أقرأ قصائد السلطاني، وإن بفترات متقطعة، لأكثر من عقد، وكنت شاهدًا على بزوغ صوته الخاص، الذي كان في البداية ليس أكثر من همهمات مترددة، ووصوله إلى النغمة والطبقة الصحيحتين.
ومن دون أي تبجح من النوع الذي يفضله شعراء عرب، تخلص السلطاني ببساطة من كل المحرمات التي توخت إبقاء الشعر العربي مجمدًا عند نقطة معينة في الماضي.
لقد أخذ السلطاني، ربما بشكل غير واعٍ، بنصيحة الشاعر الصوفي العظيم رومي بـ«القبض على اللب ورمي القشرة للحمير». وتوفر هذه المجموعة للقارئ الفرصة لأن يسمع النغمية الكاملة لصوته، وهو أمر قد لا توفره قصيدة واحدة. أسلوب السلطاني هنا أقرب إلى موسيقى الحجرة منه إلى عرض سيمفوني. صوته حميمي، وغالبًا مفجع، ولكنه دائمًا مقاس بإخلاص. وكما مانيوتشيحري أو لوويل، فإنه في حوار مع عدة شعراء ابتداء من تي. إس. أليوت وفيليب لاركن، الذي هو ربما شاعره الإنجليزي المفضل، إلى بول إيلوار وجاك بريفير. وطبعًا هناك عديد من الشعراء العرب الكلاسيكيين، هذا إذا لم نذكر الشاعر الذي كتب كلكامش، لهم حضورهم أيضًا.
أحد المواضيع المفضلة عند السلطاني هو ما يمكن تسميته بـ«المكانية الأخرى»، أي أن تكون جسديًا في واقع ما، وروحيًا في واقع آخر. لكنها ليست الحالة الكلاسيكية للنوستالجيا، أفيون المهزومين في التاريخ، كما عبر عنها عدة شعراء في التاريخ. ما يهم بالنسبة للسلطاني هو كيف يعيش «مكانيته الأخرى»، لا أن يندبها.
من المستحيل أن تقرأ للسلطاني من دون أن تشاركه الأسى الهائل الذي يعبر عنه في قصائده. وهذا هو الأكثر تأثيرًا، لأنه لا يوجد في شعره «غلو في ضرب الصدور»، مثلاً، وهو شائع في الشعر العربي. وفي مثل هذا النوع من الشعر، فإن الكلمات هي بالتأكيد عربية، وثرية في سياقها، ولكن العاطفة باردة ومريضة، إنجليزية تمامًا إذا أحببت، وهذا ما يجعلها أكثر تدميرًا.
السلطاني وجد صوته، وهو يتحدث اللغة الكونية للشعر، ولو بلكنة عراقية، وربما حتى بلكنة سدة الهندية، مدينته الأصلية الصغيرة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.