بلزاك من خلال رسائله

جاءت في عدة مجلدات ضخمة وشكلت جزءًا من أعماله الأدبية

بلزاك   -  غلاف الكتاب
بلزاك - غلاف الكتاب
TT

بلزاك من خلال رسائله

بلزاك   -  غلاف الكتاب
بلزاك - غلاف الكتاب

في عصر بلزاك لم يكن هناك إنترنت ولا بريد إلكتروني ولا كل هذه الثورة المعلوماتية الهائلة التي غيرت وجه العالم... بل وحتى في عصرنا نحن لم يكن يوجد كل ذلك قبل بضع سنوات فقط. تذكروا أيها الناس: كنا نعتمد على الرسائل التقليدية المكتوبة على الورق للتواصل مع أصدقائنا وأحبائنا. أما اليوم فمن يكتب رسالة إليهم ويرسلها بالبريد؟ يضحكون عليك وربما اعتبروك ديناصورًا منقرضًا أو مرشحًا للانقراض. ومعهم الحق. وأنا شخصيًا أصبحت أنظر إلى تلك الفترة من حياتي وكأنها تنتمي إلى العصر الحجري أو ما قبل التاريخ البشري. متى كتبت آخر رسالة ورقية يا ترى قبل أن أقلع عن هذه العادة نهائيا وإلى الأبد؟ فما بالك ببلزاك الذي عاش ومات في النصف الأولى من القرن التاسع عشر! أي قبل قرنين تقريبًا... لذلك لا ينبغي أن نستغرب إذا كانت مراسلاته تشغل عدة مجلدات ضخمة. وهي تشكل جزءًا لا يتجزأ من أعماله الأدبية نظرًا لروعتها وجمالها. فرسائل الكتاب الكبار تكون أحيانا عبارة عن قطعة أدبية. يضاف إلى ذلك أنها تشكل معينًا لا ينضب من المعلومات الثمينة عن شخصيته وحياته وأحداث عمره.
وبالتالي فتلقي أضواء ساطعة على رواياته ولا يمكن فهم هذه الأخيرة دونها. وقد كتب بلزاك رسائل كثيرة إلى أمه وأخته وعشيقاته الكثيرات المتواليات، هذا ناهيك بأصدقائه الخلص...
ورسائل بلزاك إلى عشيقته الأساسية «مدام هانسكا» التي أصبحت زوجته في نهاية حياته تتجاوز المجلد الضخم ذا الألف صفحة! فما بالك برسائله الأخرى إذن؟ والواقع أن أدباء القرن التاسع عشر كانوا يعتمدون على المراسلات كثيرًا، مثلما اعتمد أدباء القرن العشرين على التليفون ومثلما سيعتمد أدباء القرن الحادي والعشرين على البريد الإلكتروني، والإنترنت، والهاتف الجوال للتواصل فيما بينهم.
بلزاك ولد في مدينة تور الفرنسية عام 1799 ومات في باريس مبكرًا عام 1850، وهذا يعني أنه لم يَعِش أكثر من واحد وخمسين عامًا. ومع ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس برواياته التي تجاوزت الثمانين! وقد جمعت كما هو معلوم في مجلدات ضخمة تحت عنوان «الكوميديا البشرية أو بالأحرى: المهزلة البشرية». فالحياة مهزلة أو مسخرة أو فضيحة. وقد ترجمت روايات بلزاك إلى لغات العالم أجمع، وأخرجت بعضها في أفلام سينمائية أو على خشبات المسرح. ولم يبقَ روائي كبير أو صغير إلا واطلع عليها. ومعلوم أن دستويفسكي تأثر به كثيرًا، هذا من جملة آخرين كثيرين.
ويبدو أن الأحداث المهمة في حياته الشخصية كانت ما يلي: ضعف حنان أمه تجاهه أو برودتها الصقيعية غير المفهومة. ويبدو أنها كانت تخون أباه ولا تكتفي به، لأنه تزوجها وهي صغيرة فهو كان فوق الخمسين وهي في العشرين: ثلاثين سنة بينهما.
ومن الأحداث المهمة في حياته محبته الكبيرة لأخته «لور» التي ولدت بعده مباشرة وله معها مراسلات كثيرة. ونسجل أيضًا ذلك الحادث المؤلم ألا وهو: موت أخته الثانية لورنس وهي شابة في الثالثة والعشرين من عمرها. وقد فجعت العائلة كلها بها. نقول ذلك خصوصًا أنها كانت قد تزوجت منذ فترة قصيرة، وكان زواجًا تعيسًا وغير موفق. والشيء الذي كان يزعج بلزاك أيما إزعاج هو محبة أمه الزائدة لأخيه الصغير هنري فرنسوا الذي يُعتقد بأنه ابن زنا، وليس ابن أبيه الشرعي! وكانت أمه تحبه كثيرًا، وتفضله على بلزاك الذي أهملته. وربما لهذا السبب أصبح بلزاك عبقريًا فيما بعد لكي يثبت لأمه أنه أهم بكثير من هذا الأخ التافه اللقيط الذي حظي بحبها واستأثر به كليًا. من يعلم؟ فالتحليل النفسي هو وحده القادر على كشف خفايا النفوس وأغوار القلوب.
ومع ذلك فقد كتب عدة رسائل إلى أمه ولكنها أقل أهمية من تلك التي كتبها إلى أخته المفضلة، والأثيرة لديه: لور، كما كتب رسائل غرامية كثيرة إلى النساء اللواتي تعرف عليهن. فقد ربطته علاقة حب أفلاطونية مع امرأة تدعى زولمى كارو. وتراسل معها كثيرًا ولكنه تعرف على سيدة أرستقراطية تدعى مدام دوبيرني وكانت تكبره باثنين وعشرين عامًا، أي من عمر أمه، وقد عاش معها مغامرات عاطفية هائجة. وأحدث ذلك نوعًا من النقمة في أوساط عائلته والمجتمع ككل، إذ كيف يتعلق بامرأة في عمر أمه؟ ثم تعرف بعدها على سيدة أرستقراطية أخرى وكانت تكبره أيضًا بخمسة عشر عامًا! ويبدو أنه كان معجبًا بالطبقة الأرستقراطية لأنه من أصل بورجوازي عادي وإن لم يكن وضيعًا.
ومعلوم أن الطبقة الأرستقراطية المتمثلة بالعائلات الإقطاعية الكبرى هي التي حكمت فرنسا طيلة العهد القديم السابق على الثورة الفرنسية. وكانت هيبتها لا تزال قائمة حتى في عصر بلزاك على الرغم من الثورة الفرنسية. ثم تعرف أخيرًا على السيدة «ايفا هانسكا» الأجنبية لأنها من أصل روسي أو بالأحرى أوكراني. وكانت أرستقراطية أيضًا وتملك الأراضي الواسعة في بلادها. كانت إقطاعية من الدرجة الأولى، وهي التي بادرت إلى التعرف عليه ومراسلته بعد أن اطلعت على رواياته وأعجبت بها كل الإعجاب.
وكان بلزاك يكتب رواياته الأولى باسم مستعار. وهي روايات تجارية هدفها الربح المادي والتسلية ليس إلا... ولم يكتب باسمه الشخصي إلا عام 1829.
وكان قد بلغ من العمر ثلاثين عامًا بالضبط، وفي العام ذاته أصدر رواية ثانية بعنوان: فيزيولوجيا الزواج من قبل شاب أعزب! وهي عبارة عن تشريح للزواج وإشكالياته في ذلك العصر.
وفي عام 1830 أصدر مجموعة قصص قصيرة بعنوان: «شاهد من الحياة الخاصة»، وموضوعها هو فشل الحياة الزوجية. فهل انعكست قصة أخته لورنس التعيسة مع زوجها على عالم بلزاك الروائي؟ وهنا نصطدم بسؤال وجيه يطرح نفسه: لماذا لا نجد زواجًا موفقًا أو ناجحًا في رواياته؟
ثم صدرت بعدئذ رواياته الشهيرة: يوجيني غرانديه، والأب غوريو، وخوري القرية، إلخ، لقد عكس بلزاك في رواياته المتتالية كل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية لعصره: أي النصف الأول من القرن التاسع عشر. من هنا عظمته وأهمية أعماله. فالروايات التي كتبها هي مرآة لذلك العصر، ومن يريد أن يتعرف على تلك الحقبة من تاريخ فرنسا ما عليه إلا أن يفتح روايات هذا الكاتب الذي لم يكن يتجاوز طوله المتر ونصف المتر. كان قصيرا جدا.. قزما من الناحية الجسدية وعملاقا من الناحية الأدبية. وهذا يعوض عن ذاك كما يقول التحليل النفسي.
ولكن ليس كل قصير بلزاك. هيهات! ومعلوم أن البورجوازية كانت تواصل صعودها في ذلك الوقت بكل نهم وجشع لكي تأخذ المال والسلطة من أيدي الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية. وفي الوقت ذاته، فإن بلزاك يصور أوضاع الطبقة الأرستقراطية التي كانت لا تزال تحتل الوظائف العليا في الدولة.
ولكن كان يبدو للجميع أنها سوف تفقد امتيازاتها عما قريب وسوف تطيح بها الطبقة البورجوازية الصاعدة. فالجديد يحل محل القديم لا محالة. وعلى هذا النحو استطاع بلزاك أن يصور احتضار عالم بأسره وولادة عالم آخر جديد على أنقاضه. من هنا أهمية بلزاك التاريخية والفلسفية وليس فقط الروائية. فالواقع انه كان مفكرًا أيضًا وليس فقط كاتبًا روائيًا. وكان صديقًا لكبار كتاب عصره كفيكتور هيغو، ولامارتين، واليكسندر دوما، وجورج صاند، وعشرات غيرهم.
وكان مطلعًا على كتابات فلاسفة التنوير وبالأخص جان جاك روسو. وهناك مؤلفات تشرح لنا مدى تأثير روسو عليه. ومن لم يؤثر عليه روسو؟ وهناك مراسلات كثيرة بينه وبين أدباء عصره وكتابه الكبار.
ومعلوم أن علاقته بفيكتور هيغو كانت قائمة على إعجاب متبادل. وكان هيغو يدعوه بالشاعر لا بالروائي! وهذا يعني أنه كان يعرف قيمته الأدبية الكبرى بصفته أكبر شاعر في الرواية الفرنسية.
وقد رثاه فيكتور هيغو بشكل مهيب ورائع عندما مات، بل وصور لنا لحظات احتضاره بشكل أخاذ ومخيف ومؤثر جدًا. وقد تأسف عليه لأنه مات شابًا، فالواقع أنهما ولدا في الفترة نفسها تقريبًا بل وكان بلزاك أكبر من صاحب «البؤساء» بثلاث سنوات.
ومع ذلك فإن فيكتور هيغو عاش حتى عام 1885 هذا، في حين أن بلزاك مات عام 1850! لقد خلد التاريخ بلزاك كواحد من أكبر أدباء فرنسا على مر العصور. والواقع أن رسائله إلى حبيبة عمره الأوكرانية تقدم لنا معلومات تفصيلية مهمة جدًا عن «الكوميديا البشرية».
صحيح أننا نشعر بالملل أحيانًا أثناء قراءة هذه الرسائل، ولكن ينبغي أن نصبر عليها لكي نعرف كيف نستمتع بها ونستخلص الجوهر من القشور أو الحنطة من الزوان. فهي مليئة بالتفاصيل الصغيرة عن الحياة اليومية والشواغل العادية التي تجعلنا نرى بلزاك شخصًا عاديًا كبقية البشر. ولكن من حين لآخر نقع على إضاءات نادرة عن همومه النفسية والإبداعية. كما ونقع على معلومات تفصيلية تفسر لنا ما غمض من رواياته وأعماله.
والواقع أن المبدع لا يبوح بمكنون صدره إلا لأصدقائه الخلص أو للمرأة التي يحبها. وربما كان يبوح لها بأسرار كثيرة لا يستطيع أن يقولها لأي شخص آخر في العالم. نقول ذلك خصوصًا أنها كانت امرأة مثقفة وتعرف معنى الإبداع وتحب روايات بلزاك حتى قبل أن تتعرف عليه شخصيًا كما ذكرنا. ولكن الشيء الذي آلمه هو أنه عندما سألها وهو على فراش الاحتضار: ماذا أحببت في أكثر: الرجل أم الكاتب؟ فأجابته بعد تردد: الكاتب. فرد عليها: قاتلك الله لقد ذبحتِني! ويقال إنها كانت تغازل أحد الشباب «الحلوين» في الغرفة المجاورة وهي تنتظر بفارغ الصبر انتقاله إلى الملأ الأعلى.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!