أن تتحدث العربية في تل أبيب

منظومة مختلفة عن السياقات اللغوية في العالم العربي

أن تتحدث العربية في تل أبيب
TT

أن تتحدث العربية في تل أبيب

أن تتحدث العربية في تل أبيب

اللغة أشبه ما تكون بكائن حي، يتفاعل مع بيئته ويتماهى معها. ولذا تحدث العرب في ماضيهم لهجات متعددة، اختلفت بتنوع الثقافات المحلية السائدة في جغرافيتهم، فأهل الحضر كانت لهم لهجاتهم، وكذلك أهل البداوة. ولسان أهل اليمن كان مختلفًا عن لسان أهل الحجاز.
في وقتنا الحاضر، ورغم بقاء اللغة العربية الكلاسيكية بمثابة لغة مشتركة ومفهومة لأكثر من 200 مليون إنسان، فقد تطورت لهجات عربية محكية كثيرة بين الأقاليم والأمصار متأثرة بتقاطعات التاريخ والجغرافيا وتقلبات الأزمنة. فهناك لهجات مصرية وعراقية ومغربية وشامية وخليجية وغيرها مع تنويعات فرعية لا تكاد تحصى.
يتحدث ما يقارب عشرين في المائة من سكان الدولة العبرية اللغة العربية كلغة أم، إضافة إلى الأجيال الأولى من الإسرائيليين اليهود الذين تعود أصولهم لبلاد عربية - أغلبهم من العراق وسوريا واليمن وتونس ومصر ولبنان والمغرب- وهم ثلثا المجتمع الإسرائيلي في بعض التقديرات، رسميا، اللغة العربية هي لغة ثانية للدولة إلى جانب العبرية. لكن أي لهجة عربية تتحدث تل أبيب؟
يقول يوناتان ميندل إن «العربية الإسرائيلية» - وهو الاسم الذي أطلقه على موضوعه «اللغة العربية كما هي داخل إسرائيل»، في رسالته للدكتوراه، جامعة كمبردج بالمملكة المتحدة - هي منظومة قائمة بحد ذاتها مختلفة عن السياقات اللغوية العربية الأخرى في العالم العربي، تمتزج بها الهواجس السياسية والأمنية بالوقائع على الأرض وبالتاريخ والجغرافيا والثقافة معًا، على نحو جعل من تطور العربية في فلسطين المحتلة مساحة صراع وأداة آيديولوجية لتكريس هيمنة المنظومة العبرية على المكون العربي الفلسطيني. تعود علاقة المشروع الصهيوني باللغة العربية إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر - قبل قيام الكيان الإسرائيلي بمائة عام تقريبًا - وذلك عندما بدأت طلائع الهجرة الاستيطانية تتوجه إلى الأراضي المقدسة وتتوطن فيها بين سكانها العرب. فاليهود الفلسطينيون تحدثوا العربية بالطبع بحكم تعايشهم الطويل مع جيرانهم أهل البلاد الأصليين. ويقول ميندل إن يهود أوروبا الشرقية الذين هاجروا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر واجهوا صعوبات اقتصادية جمة لصعوبة اندماجهم بالمجتمع المحلي بسبب عدم إتقانهم للغة العربية، وهم كانوا أصدروا لهم في وقت مبكر (عام 1839) أول قاموس عربي - يديشي (لغة اليهود الدينية قبل وضع اللغة العبرية الحديثة في القرن العشرين).
لقد كانت العربية لغة محكية على نطاق واسع بين الجاليات اليهودية في الدولة العثمانية، وحول البحر الأبيض المتوسط، وكُتبت كثير من النصوص اليهودية في العصور الوسطى بها أيضًا. ولما انطلق المشروع الاستيطاني في فلسطين، كانت توجيهات الحركة الصهيونية واضحة البوصلة بضرورة إتقان العربية بوصفها لغة الأغلبية، وكان من شروط الالتحاق بوحدة الدفاع الصهيونية - الذراع الأمنية والاستخباراتية للمنظمة الصهيونية السابقة للموساد - المهارة في استخدام السلاح، وركوب الخيل، والتحدث بالعربية بطلاقة.
ولا تنكر المصادر الإسرائيلية أن اللغة العربية كانت مصدرًا هامًا من مصادر تطوير اللغة العبرية الرسمية التي أعيد تكوينها بشكلها الحالي في 1912، لا سيما فيما يتعلق بالاصطلاحات الحديثة التي وضعها رواد النهضة العربية لوصف الاختراعات الحديثة والتكنولوجيات المستجدة، لكن ذلك أثار نقاشات هامة داخل المجتمع الإسرائيلي الناشئ، إذ ذهب البعض إلى تأييد ذلك «بوصفه استعادة لتراث عبراني نقله العرب ويستعيده الصهاينة اليوم»، وتدعيمًا ثقافيًا للأصول السامية لليهود، بينما رأى آخرون أنه يتعارض مع المهمة الصهيونية كما رسمها عراب الصهيونية الأول ثيودور هيرتزل بوصف الدولة العبرية مشروعًا ثقافيًا أوروبيًا متقدمًا في مواجهة البربرية الشرقية المتخلفة، وأن اللغة العربية لغة الأعداء، لا لغة الجوار.
انتصرت وجهة نظر هيرتزل في النهاية، لا سيما بعد الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939) التي قمعها البريطانيون بقسوة فائقة، واندفعت بعدها كتل اليهود الأوروبيين إلى البلاد الفلسطينية، فصار التوجه الرسمي لدولة الأمر الواقع الصهيونية هو تعلم اللغة العربية للأغراض العملية - كالزراعة مثلاً - والأمنية فحسب.
بعد قيام الدولة العبرية في 1948 وجرائم التطهير العرقي التي أسفرت عن إجلاء مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الدول المجاورة تكرست هيمنة العنصر العبري على التجمع السكاني في فلسطين المحتلة، وبدأت السلطات العبرية تعاني من نقص فادح في معلمي اللغة العربية، وأيضًا الكوادر المؤهلة لغويًا للعمل الاستخباراتي، وذلك على الرغم من الجذور العربية لكثير من الإسرائيليين بالنظر إلى مناخ الاستعلاء الذي شهده المجتمع الإسرائيلي المنتصر عسكريًا والمهيمن ماديًا في الأراضي المحتلة ومحاولة اليهود العرب التمايز عن الفلسطينيين المهزومين والمهمشين ثقافيًا واقتصاديًا من خلال تجنب الثقافة واللغة العربيتين.
هذا النقص في الكوادر المتحدثة بالعربية تسبب في مشكلات حادة للموساد ولوزارة الخارجية وللجيش الإسرائيلي معًا أثناء حرب 1973، فقد كان مسؤول المكتب العراقي والسوري في الخارجية مثلاً لا يحسن العربية، مما دفع شلومو غازيت الرئيس الجديد للاستخبارات الإسرائيلية في 1974 إلى إطلاق مبادرة جديدة لتحسين مستوى اللغة العربية في المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، استهدفت توفير ما قدر بـ250 كادرًا سنويًا يفترض منهم أن يكونوا قادرين على فهم ما يقوله العدو على الفور. الإطار العام لهذه المبادرة كان الأمن وحفظ الاستقرار، ولذلك فإن نتيجتها التراكمية أسفرت جيلاً من الإسرائيليين يتحدث عربية استخبارية المزاج، تستهدف أساسًا عزل الطرف الآخر وتقزيمه لا التقارب والانفتاح والتعاون، وكأنها لغة نقيضة للغة العبرية - اللغة القومية للإسرائيليين - وقد تأثرت أجيالٌ من الفلسطينيين الذين وظفتهم الاستخبارات الإسرائيلية في مجالات مختلفة بهذه اللغة الصامتة منعدمة الجذور الثقافية، وانتهت الكتب المدرسية التي تدرس العربية للطلاب الإسرائيليين - كلغة ثانية - إلى أن كتبت بأيدي خريجي الأجهزة الأمنية ذاتهم.
يتفاخر الإسرائيليون اليوم بأنهم دولة ثنائية اللغة، إذ أسقطت الإنجليزية من قائمة اللغات الرسمية التي اعتمدها البريطانيون وقت حكومة الانتداب، بينما تقرر الاحتفاظ بالعربية مع العبرية كلغتين رسميتين للدولة، حيث يمكن مثلاً التحدث بالعربية في قلب الكنيست الإسرائيلي. لكن الهدف الحقيقي من إبقاء ثنائية اللغة هذه - وفق ميندل - كان تمامًا نقيض الادعاء الفارغ بتقبل الأقلية العربية في المجتمع الإسرائيلي، بل كان ذلك سلاحًا لضمان عزل الأقلية العربية والحفاظ على يهودية الدولة. ولعل نظرة سريعة إلى أي من علامات الطرق في الأرض المحتلة تظهر ذلك بوضوح. فالإشارات تحمل الأسماء باللغة العبرية للمدن والمناطق إلى جانب لفظ اسمها العبري بأحرف عربية، مع إسقاط الأسماء العربية الأصلية المرتبطة بالأرض والتاريخ والسكان الأصليين. والمؤسف، حسبما تقول نانسي هاوكر في مراجعتها لكتاب ميندل، أن سياسات الانعزال اللغوي التي وضع الإسرائيليون أنفسهم فيها قررها آباء الدولة الإسرائيلية الذين كانوا يتحدثون ثلاث لغات على الأقل، وينحدرون من يهود شرق أوروبا والدولة العثمانية المتميزين بإتقانهم الفائق لعدة لغات على نحو مكنهم من الانخراط بالأنشطة الأكاديمية والثقافية والدبلوماسية عبر العالم كله.
بعد ستين عامًا على قيام الدولة العبرية ما زال الصراع بين طرفي المعادلة حول العربية في المجتمع الإسرائيلي مستمرًا، فقد حاولت عبثًا مجموعة من أعضاء الكنيست في 2008 تقديم مشروع قانون لإسقاط اللغة العربية كلغة رسمية ثانية لإسرائيل، بينما صوت الكنيست بأغلبية على إنشاء أكاديمية للغة العربية (مقرها حيفا) تكون بمثابة مجمع لغوي لإدارة اللغة العربية في إسرائيل على غرار الأكاديمية الإسرائيلية للغة العبرية.
بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وزميلتها الأكاديمية اللغوية يبدو أنه ستبقى اللغة العربية - الإسرائيلية لغة غرباء في محيط معادٍ، وأداة أمنٍ وانعزالٍ وفصلٍ وتهميشٍ للآخر، وكأنها نقيض - لغة، لا لغة!



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!