تحت عنوان «فتات»، يستمر معرض الفنان العراقي محمود عبيدي الاحتجاجي الغاضب في «غاليري كتارا» في الدوحة حتى نهاية هذا الشهر. معرض صغير لكنه مثير ويستحق المشاهدة والتأمل والتوقف عنده.
ثمة أعمال تبدو فجّة حدّ إثارة التساؤل حول مغزاها الفني، كتلك التي وضعت في غرفة خاصة، وكلها مستلهمة من قصة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش مع الصحافي العراقي منتصر الزيدي حين قرر هذا الأخير، أن يرشقه بفردة حذائه، احتجاجًا على اجتياح بلاده.
محمود عبيدي استخدم أحذية نسائية ورجالية، ووجد أنها تصلح جميعها لعمل تشكيلات تحيط بصور للرئيس جورج أو تمثال نصفي له. تراكيب مختلفة لإيصال فكرة محددة، موضوعة في ركن واحد، تبدو وكأنها تعبيرات ثأرية من الرجل الذي قرر احتلال العراق، أكثر مما هي معروضات فنية تتوخى الجمال والابتكار.
ليست كل الأعمال على هذا النحو المتعجّل. فالزائر يلفته حتمًا نصب جميل ومؤثر للغاية يقف وسط إحدى القاعات. هي منحوتة لأم وأب وولديهما تحمل عنوان «عائلة عملية حرية العراق». أم مقطوعة الذراع اليمنى تجر عربة وليدها النائم الذي تبدو عليه علامات البؤس باليد الأخرى المتبقية لها، يقف إلى جانبها زوج فقد ذراعه هو الآخر ومعهما طفل ثان عاري الجذع يمسك بأبيه كأنه يتوسله.
هي تماثيل سكبت ونحتت من مخلفات أسلحة وسيارات أميركية، ذوبت وأضيف إليها البرونز. ملامح تنضح حزنًا لوجوه متألمة، يقول الفنان إنها نتاج اجتياح بلاده متذرعا بالحرية للعراقيين، لكنه بدل ذلك، «خلّف وراءه 4.5 مليون معوق و3 ملايين يتيم، هذا غير المواليد المشوهين والقتلى»، بحسب قوله. ويعتبر عبيدي أن إنجازه هذا العمل من المواد التي تركها الأميركيون هي ليقول لهم: «هذا ما فعلتموه بنا، وهذه هي العائلة العراقية الجديدة التي حدثتمونا عنها ووعدتمونا بها».
الاحتلال الأميركي، إذن، هو العنوان العريض التي يدور حوله المعرض بأكمله. بمجرد دخولك يستقبلك ما لا يمكن أن تخطئه عين. إنه تمثال صدام حسن الذي رأيناه جميعًا يتهاوى عن قاعدته عام 2003، وتناقلت مشهد سقوطه الفضائيات التلفزيونية حول العالم، مما شكل، حينها نهاية رمزية لمعركة بغداد. مشهد أعيد بثه تكرارًا، وشغل المعلقين والمحللين.
التمثال تراه في المعرض مصنوعًا بيدي محمود عبيدي ومربوطًا بحبل طويل يمتد في المعرض ليلتف على باقي المعروضات الموجودة في صالة مجاورة، وكلها من الحجم الكبير. إنها منحوتات شكلت من بقايا الأسلحة الأميركية التي تركت في العراق، أو عبارة عن إعادة صياغة لمعدات أميركية كاملة، مثل سيارة الفورد التي أصبحت رمزًا للاجتياح تحمل آثارًا عراقية، بينها رأس الثور المجنح الشهير الذي صمد آلاف السنين على أبواب مدينة نينوى، وكان يعتقد حينها أنه يحميها من الغزو فإذا به يتحول حطامًا.
في ركن آخر، بقايا طائرة أميركية، مربوطة إلى الحبل ذاته، وقد حمّل على حطامها تمثال أثري، وتناثرت قطع أثاث وأدوات منزلية، وأشياء أخرى، كناية عن التشظي الذي تسببت به العدة الحربية للاحتلال. يكمل الحبل الآتي من تمثال صدام رحلته ليشنق رقبة تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة وهو يحمل الشعلة بيد والدستور الأميركي بيد أخرى. هذا التمثال يتوازى متدليًا مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة، رأسًا على عقب. وفي بحث قام به العبيدي اكتشف أن تمثال الحرية الذي تحول إلى رمز للديمقراطية الأميركية كما مئذنة سامراء التاريخية التي بنيت في القرن التاسع لهما نفس الطول، أي 52 مترًا، فربط بينهما، وعلقهما متوازيين متأرجحين أحدهما رأسه إلى أعلى والثاني إلى أسفل.
لن تخرج بالطبع قبل أن ترى تمثال الحرية نفسه يستخدم لمرة ثانية، إنما شفاف هذه المرة، حتى تظنه من زجاج، وضع في براد كالذي يخصص لجثث الموتى بانتظار دفنهم، وقد ركن في حجرة صغيرة مظلمة في آخر المعرض أغلق بابها بستارة سوداء.
المعرض كله إدانة صارخة، لما ارتكبه الأميركيون في العراق، فيه الكثير من الغضب الذي يبلغ حد المباشرة أحيانًا. محمود عبيدي مقيم في كندا، وعاش فيها لفترة طويلة لكن همومه عراقية، وفي معرضه لفتة إلى الآثار المنهوبة والحرية السليبة، والفقر المستشري، كما تحية إكبار إلى المشوهين والمعوقين الذين إصابتهم الحرب في أجسادهم وأرواحهم أيضًا.
«فتات»... معرض غاضب ضد الاحتلال الأميركي للعراق
مخلفات الأسلحة الحربية ومنحوتات تستصرخ الإنسانية للفنان محمود عبيدي
«فتات»... معرض غاضب ضد الاحتلال الأميركي للعراق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة