من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس
TT

من التاريخ: «الموت الأسود»

توماس مالثوس
توماس مالثوس

وضع الكاتب واللاهوتي الإنجليزي توماس مالثوس أول نظرية بدائية شاملة حول السكان في دراسته الشهيرة «مقال حول مبادئ السكان» عام 1798، وفيها أشار إلى خطورة التطور غير المتكافئ بين سكان الأرض وقدرتهم على توفير الغذاء. ونبه لأول مرة بشكل دقيق إلى خطورة الزيادة السكانية لمستوى لا يعود للزراعة بعده أن تكفي لتغذية البشر. وضمن رسالته ذكر أن هناك الكثير من العوامل الطبيعية والسلوكية للإنسان التي أوقفت الزيادة السكانية عبر الأزمنة، متفادية بذلك الفجوة الغذائية حتى الآن، واستشهد بالأوبئة التي ضربت أوروبا من كل الاتجاهات على مدار العصور الماضية، إضافة إلى الحروب وضعف الصحة العامة، وهي كلها عوامل من شأنها وقف التزايد السكاني.
لقد كان مالثوس متأثرًا بشكل ملحوظ بانتشار وباء الطاعون في أوروبا عند منتصف القرن الرابع عشر. وحينذاك قضى هذا المرض على نحو ثلث سكان القارة، ما أعطاه وصف «الموت الأسود» الذي لم يجد أحد سبيلاً لوقف زحفه وهو يحصد الأرواح ويدفع الناس إلى سلوكيات متناقضة.
بعض المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت فسّرت ذلك الوباء، باعتباره غضبًا إلهيًا وقع على أوروبا لأنها انحرفت عن الروح الحقيقية للمسيحية، لا سيما أنه تزامن مع «الانفصال الكبير» داخل الكنيسة الكاثوليكية بوجود بابا في الفاتيكان وآخر في آفينيون (بجنوب فرنسا). وعزّز هذا الاعتقاد أن مدينة آفينيون - التي كانت تستضيف البابا الثاني كانت بين أكثر المدن تأثرًا بالطاعون في أوروبا، إذ هلك ما يقرب من نصف سكانها فيما وُصف بأنه عقاب إلهي. ولم تهتز أوروبا مثلما اهتزت لوباء الطاعون الذي لم تشهد أوروبا له مثيلاً من حيث عدد الضحايا إلا في الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت رحلة أوروبا مع الطاعون - أو «الموت الأسود» كما سمي في ذلك الوقت - خلال الفترة من 1347 وحتى 1350، وتجمع المراجع التاريخية على أن الناقل الرئيسي وراء تفشي الوباء في أوروبا كانت إحدى السفن الإيطالية الآتية من سواحل القوقاز. وكان الوباء قد بلغ منطقة القوقاز - وفق المراجع - من آسيا بعدما حصد أعدادًا كبيرة من سكان الصين والهند. ولقد رفضت موانئ كثيرة استقبال هذه السفينة، لكنها لم تستطع منع انتشار الوباء، فبدأ هذا الموت المتحرك مسيرته من شبه الجزيرة الإيطالية إلى فرنسا، ومنها إلى وسط أوروبا، ثم الجزر البريطانية ثم لدول الشمال. ولم ينتصف عام 1348 إلا كانت كثرة من الدول الأوروبية قد سقطت ضحية لانتشاره.
كتب التاريخ أثبتت أن هذا الطاعون الكبير، الذي ضرب أوروبا، كان مركّبًا. وأغلب الظن أنه تم تشويهه مع الوقت بعدما انتقل عبر الحشرات الموجودة في وبر الجرذان. وكان منقسمًا إلى أنواع مختلفة على رأسها الطاعون «الرئوي Pneumonic، و«البوبوني - في العقد اللمفاوية - Bubonic». وكان أخطر أنواع الطاعون النوع الأول الذي كانت العدوى تنتقل فيه عبر الهواء وبالتالي، الأكثر فتكًا لأنه كان يؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وما كان المصاب ليعيش أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر، أما باقي الأنواع فكانت أعراضها تظهر في شكل تورمات متناثرة في الجسم سرعان ما تأخذ اللون الأسود أو الرمادي جراء النزيف الداخلي.
وعبثًا حاول الجراحون البدائيون في أوروبا التصدي للوباء بوسائل الطب التقليدي الذي لم يكن ليجدي مع هذا المرض اللعين، فلم تفلح محاولاتهم لشفط الدم الفاسد في الأورام، كما لم تفلح محاولاتهم لمواجهته بأنواع من المأكولات. ولم يفلح أيضًا السعي لتطهير الأورام عبر الأعشاب الطبيعية أو حتى الكيميائية، فحقيقة الأمر أن وضعية الطب المتخلف في ذلك الوقت لم يكن أمامها أي فرصة لمواجهة هذا الوباء.
آثار الوباء كانت حقًا كارثية. وبالأخص، أن كثيرين - كما سبقت الإشارة - اعتبره أنه غضب من المولى سبحانه وتعالي لسوء السلوكيات، وقارنوا بين أحوالهم وما ورد في «العهد القديم» (التوراة) عندما ابتلى الله فرعون وشعبه جراء ظلمهم لبني إسرائيل. في حين فسره بعض المسيحيين على أنه التمهيد الإلهي ليوم القيامة وهو ما جعل الملايين يستعدون لنهاية العالم والعودة الثانية للسيد المسيح تمهيدًا للوقوف أمام بارئهم.
ولكن هذا لم يكن الشعور لدى الجميع، إذ أدى انتشار هذا المرض إلى سلوك متناقض بعض الشيء لدي كثيرين ظنوا أن نهاية العالم رخصت لهم اقتراف المعاصي والمفاسد والفجور على أساس أن أيامهم في الدنيا محدودة، فولغوا أكثر في الرذيلة التي انتشرت بشكل متناقض جدًا في أوروبا مع التيار الآخر.
عند هذا الحد وصل المواطن الأوروبي البسيط، ذو التعليم والثقافة المتدنية إلى حيرة فكرية وسلوكية لم تنته إلا مع انتهاء الطاعون في عام 1450، وبينما كانت الشعوب الأوروبية قد أعيتها الحيلة أمام هذا الوباء المميت ولم يكن باستطاعتها غير الانتظار والدعاء، كانت الطبقة الكنسية من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا المرض خاصة مع وجوب حضور القس لتلقين المحتضر والإصغاء لاعترافاته الأخيرة، ما جعل القساوسة والكهنة أكثر عرضة للمرض من غيرهم، وحقًا، تقدر بعض المصادر أن الكنيسة فقدت ما يقرب من ثلث طاقتها البشرية في هذا الوباء.
من جهة ثانية، كان لهذا الوباء أثره المباشر على الحياة الأوروبية، خاصة، بعدما قضى على ثلث السكان بلا تفرقة بين الطبقات منهم: ثمانية ملايين في فرنسا، ومليونان في إنجلترا على سبيل المثال. بيد أن الآثار الأساسية للوباء على القارة امتدت لتشمل متغيرات لافتة على التركيبة السكانية والإنتاجية الأوروبية. واعتبر بعض المفكرين أن هذا الوباء كان من الأسباب المحوَرية لضرب الإقطاع والقضاء التدريجي عليه، ذلك أن طبقة المزارعين كانت من أكثر الطبقات تأثرًا بهذا الوباء، الذي أدى في النهاية إلى موت أو هروب الكثير من المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض ويحرثونها، ما ترك الأراضي الزراعية بلا رعاية وبدأ يؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية في القارة. ولكن الأهم من ذلك أنه أدى إلى تحرير نسبي للمزارعين المربوطين بالإقطاعيات، وفقًا لهذا النظام العقيم، وبدأ المزارعون العمل الحر مطالبين بأجورهم مقابل عملهم بعد هجرتهم لإقطاعيتهم. ثم إن ندرتهم أدت إلى ارتفاع كبير في الأجور وأسعار الغذاء في القارة الأوروبية. وكذلك أدى إلى انتشار الثورات المحدودة بين هذه الطبقات ما ساهم في ضرب منظومة الإقطاع في أوروبا ككل.
أضف إلى ما تقدم، أن الغضب الشعبي من جراء هذا الوباء كان بحاجة إلى تنفيس سياسي واجتماعي، خاصة مع اعتقاد البعض أنه كان مؤامرة. وهنا كان اليهود من أوائل الضحايا لهذا الوباء، فتعرضوا لحملة من الاضطهاد في شتى الربوع الأوروبية، خاصة في سويسرا وفرنسا، حيث أحرق ما يقرب من ألفي يهودي في مدينة ستراسبورغ، وكذلك في مدينة بازل. أما في الأراضي الألمانية، فقد أدت هذه الموجة إلى هروب عشرات الآلاف من اليهود إلى بولندا، كما أن المدن شهدت اضطرابات كثيرة خاصة خلال العام الذي سبق انتهاء الطاعون في القارة الأوروبية التي تركها في حالة رثاء إنساني وتأثر اقتصادي واجتماعي لم تشهده من قبل.
وهكذا فإن «الموت الأسود» حصد الأرواح بالملايين وغيّر ن الخريطة الديموغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن أنه غير من سلوكيات البشر على المستوى الفردي، ولم تشهد أوروبا وباءً مثل هذا إلا مع الحرب العالمية الثانية.
«الموت الأسود» كان من صناعة الطبيعة، أما الموت الثاني فكان من صناعة البشر أنفسهم، وهكذا يظل الإنسان أكبر عدو لبني الإنسان وحاصد الأرواح الأول حتى الآن وليس الطبيعة، تمامًا كما ورد في قوله تعالى «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ» (صدق الله العظيم).



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».