لطالما وصفت تجربة الإصلاح السياسي في المغرب بعد «الربيع العربي» بأنها استثنائية في المنطقة، ذلك أنها سمحت بوصول أول حزب إسلامي للسلطة، والأهم من ذلك هو تمكن هذا الحزب من إكمال ولايته على رأس الحكومة (ومدتها خمس سنوات) فيما آلت الأوضاع في بلدان أخرى إلى فشل سياسي واندلاع حروب تسببت وما زالت في مآسٍ إنسانية.
كرس المغرب هذا الاستثناء عام 2016 باستقراره السياسي والأمني، ونظم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ثاني انتخابات برلمانية بعد إقرار دستور 2011 حظيت باهتمام إقليمي ودولي، ومرت في أجواء عادية وسلسة رغم حالة الاحتقان السياسي غير المسبوق الذي ساد قبل الانتخابات، وجدد الناخبون المغاربة ثقتهم في حزب العدالة والإسلامية ذي المرجعية الإسلامية فتصدر نتائج الاقتراع.
لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية في المغرب مفاجئة، إذ توقع محللون سياسيون تصدر «العدالة والتنمية» النتائج متبوعًا بحزب «الأصالة والمعاصرة» المعارض يليهما حزب الاستقلال، وذلك استنادًا إلى نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2011، وكذلك الانتخابات البلدية والجهوية التي جرت في سبتمبر (أيلول) 2015 التي حصل فيها «العدالة والتنمية» على مليون و600 ألف صوت، في حين حصل «الأصالة والمعاصرة» على مليون صوت فقط، وأقل من مليون لحزب الاستقلال، مما يعني أن نتائج الانتخابات التشريعية حسمتها من قبل الانتخابات البلدية.
وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات البرلمانية التي عرفها المغرب انحصر التنافس الانتخابي فيها بين الغريمين والخصمين اللدودين أي حزب «العدالة والتنمية» وحزب «الأصالة والمعاصرة» المعارض، الذي يتهم بأنه مدعوم من السلطة، وأنه يسعى للتحكم في المشهد السياسي في البلاد وعرقلة فوز «العدالة والتنمية» في الانتخابات ليتمكن من الوصول إلى رئاسة الحكومة.
ولقد رفع «الأصالة والمعاصرة» خلال حملته الانتخابية شعار «التغيير الآن» وساد تفاؤل كبير بين مؤيديه بأنه هو الفائز حتمًا وتعهد أمينه العام إلياس العماري بأن حزبه سيصبح «القوة السياسية الأولى في البلاد»، بيد أن إخفاقه في ذلك أحدث رجّة داخل الحزب وارتباكا واضحا، فتراجع حضوره السياسي بشكل واضح، لا سيما أن أمينه العام كان قد أعلن صراحة أنه جاء لمحاربة «الإسلاميين».
وفي المقابل أظهرت الحملة الانتخابية التي استمرت على مدى 13 يوما قلة تأثر شعبية حزب «العدالة والتنمية» رغم وجوده في الحكومة لمدة خمس سنوات، إذ استطاع عبد الإله ابن كيران، الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة، استقطاب الآلاف من المؤيدين خلال المهرجانات الخطابية التي عقدها في مختلف المدن المغربية في استعراض للقوة ضد خصومه ومعارضيه.
وفي نهاية المطاف فاز «العدالة والتنمية» بـ125 مقعدًا، متبوعا بحزب «الأصالة والمعاصرة» بـ120 مقعدا، ثم حزب الاستقلال بـ46 مقعدا. وباستثناء حزبي الصدارة تراجعت مختلف الأحزاب في الانتخابات وفقدت كثيرًا من مقاعدها، مما دفع ابن كيران إلى القول إن «نتائج الانتخابات أحدثت ما يشبه زلزالا سياسيا كانت له تداعيات كثيرة».
مسيرة مجهولة ضد «العدالة والتنمية»
وكان لخروج مسيرة احتجاج ضد حزب «العدالة والتنمية» في مدينة الدار البيضاء أيامًا قليلة من بدء الحملة الانتخابية، التي حملت شعار «لا أسلمة وأخونة الدولة» أحد أبرز الأحداث السياسية الفارقة، نظرا لتوقيت خروج تلك المسيرة، التي لم تعلن أي جهة حزبية أو نقابية أو حقوقية عن تبنيها، في ظل اتهامات مبطنة وجهها «العدالة والتنمية» لوزارة الداخلية بالوقوف وراءها. وأثارت تلك المظاهرة استهجانا كبيرًا، ولاقت سخرية على نطاق واسع، لا سيما بعد نشر فيديوهات يقرّ فيها بعض المشاركين فيها من مختلف المدن بأنه جرى التغرير بهم. إذ قال هؤلاء إن منظمي المسيرة أوهموهم بأن الاحتجاج سيكون ضد الإرهاب، وأن الغاية التضامن مع فتاة تعرضت للاغتصاب، لكنهم فوجئوا بشعارات تطالب برحيل ابن كيران من دون أي مناسبة.
ومن هنا تساءل محللون سياسيون عن الجهة التي تسعى إلى إحداث شرخ في المجتمع المغربي من خلال تأليب فئة من المواطنين البسطاء ضد فئة أخرى، ودفعها لرفع شعارات وصفت بالغريبة عن السجال السياسي والمجتمعي بالمغرب، في محاولة لاستيراد تجارب بلدان عربية في محاربة ما يصطلح عليه بـ«الإسلام السياسي».
هذا، وتسبب الترخيص لتلك المسيرة المجهولة في الكشف عن صراع آخر لم يكن ظاهرا بين وزارتين تشرفان على سير الانتخابات هما وزارتا الداخلية والعدل. ولقد فاجأ مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات المنتمي لحزب العدالة والتنمية، الرأي العام بإعلانه عبر صفحته على موقع «فيسبوك» أنه لا يستشار في التحضير للانتخابات التشريعية، أسوة بما كان عليه الحال في الانتخابات البلدية والجهوية التي أجريت في الرابع من سبتمبر 2015 وأنه «على بعد ثلاثة أسابيع من انتخابات 7 أكتوبر تقع عجائب وغرائب»، معلنا أنه ليس مسؤولا عن «أي رداءة أو نكوص أو تجاوز أو انحراف». وعلى الأثر رد محمد حصاد، وزير الداخلية، عليه عبر موقع إلكتروني معتبرًا أن «سوء فهم حدث بينه وبين الرميد بسبب عدم استشارته في الترخيص لتلك المسيرة، ودعا الرميد لاستعمال سلطته «من خلال وكلاء النيابة العامّة، ضد أي (اختلال لا يود تحمل مسؤوليته)».
ولم يكن الترخيص لمظاهرة «مجهولة» و«مصطنعة» ضد ابن كيران أياما قبل الاقتراع الخلاف الوحيد بين الرميد وحصاد، ذلك أن وزارة الداخلية منعت قبل ذلك الشيخ السّلَفي حماد القباج من الترشح باسم «العدالة والتنمية» في مراكش، فضلاً عن بيانات أصدرتها وزارة الداخلية موجهة ضد الحزب. وتميزت الانتخابات التشريعية للمرة الأولى باستقطاب الأحزاب السياسية لأسماء محسوبة على التيار السلفي، منهم القباج، كما جرت الإشارة من قبل، وهو ما أثار جدلاً كبيرًا دفع وزارة الداخلية إلى رفض ترشحه بدعوى «مناهضته الديمقراطية، وإشاعة أفكار متطرفة تحرض على التمييز والكراهية»، بيد أنه نفى ذلك. وبدوره، رشح حزب الاستقلال المعارض كلاً من الشيخ عبد الوهاب رفيقي، الملقب بـ«أبي حفص» الذي كان قد أدين بقضايا تتعلق بالإرهاب، والمعتقل السّلَفي السابق هشام التمسماني لخوض غمار الانتخابات، إلا أن كليهما فشل في الفوز بمقعد في البرلمان.
بيان الديوان الملكي
وفي غمار التحضير للانتخابات والتجاذبات السياسية التي رافقتها أصدر الديوان الملكي في 13 سبتمبر الماضي بيانا غير مسبوق وجه فيه انتقادات حادة لنبيل بن عبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة والأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» (اليساري)، الحليف الرئيسي لحزب «العدالة والتنمية»، وذلك على خلفية تصريحات وصفها القصر بالخطيرة تتعلق بفؤاد عالي الهمة، مستشار العاهل المغربي ومؤسس حزب «الأصالة والمعاصرة» المعارض. ووصف البيان تلك التصريحات بأنها ليست «سوى وسيلة للتضليل السياسي في فترة انتخابية». وكان بن عبد الله قد قال في حوار صحافي إن مشكلة حزبه ليست مع «الأصالة والمعاصرة» بل مع من أسسه، وهو مَن يجسّد التحكّم. وردّ الحزب بعد ذلك بأن تصريحات أمينه العام تدخل في سياق تنافس انتخابي، وأنه لم يكن ينوي إقحام المؤسسة الملكية في نزاعات حزبية. ولكن في أي حال، كان لهذا البيان أثر كبير في توجيه الخطاب السياسي، حيث غاب مصطلح «التحكّم» عن قاموس عدد كبير من السياسيين، وعلى رأسهم ابن كيران، «عرّاب» هذه الكلمة السحرية، التي ظل يشهرها في وجه خصومه ومعارضيه.
تحديات تشكيل الحكومة
ولكن، ابن كيران لم يفرح كثيرًا بنشوة الفوز في الانتخابات، وتعيين الملك محمد السادس له رئيسًا للحكومة في 10 أكتوبر الماضي. إذ وجد عاجزًا عن تأمين أغلبية متجانسة لقيادة التحالف الحكومي المقبل. وبعد مشاورات بدت في البداية يسيرة وسادها الكثير من التفاؤل، دخلت مشاورات الحكومة مرحلة الجمود والعرقلة. ويذكر أنه قبل الانتخابات كان «العدالة والتنمية» (125 مقعدًا) و«التقدم والاشتراكية» (12 مقعدًا) قد اتفقا أن يظلا معا سواء أكانا في الحكومة أو انتقلا إلى المعارضة. وبالفعل، تشبث ابن كيران بحليفه ابن عبد الله وضمه إلى تحالفه، وسرعان ما التحق بهما حزب الاستقلال المعارض الذي طوى صفحة الخلاف بينه وبين ابن كيران. إلا أن انضمام «الاستقلال» إلى التحالف سيصبح عقبة في استكمال المشاورات مع باقي الأحزاب، بعدما اشترط عزيز أخنوش، الرئيس الجديد لحزب «التجمع الوطني للأحرار» - المقرّب من القصر - إبعاد حزب الاستقلال عن الحكومة المقبلة كي يقبل الانضمام إليها.
وبذلك دخلت مشاورات تشكيل الحكومة مرحلة من التصعيد بين الأحزاب السياسية، وشن حزب الاستقلال هجوما كبيرا على الجهات التي اتهمها بـ«الانقلاب على الدستور»، وقال إن «الأحزاب الوطنية الديمقراطية والشعب المغربي لن يستسلموا لقوى الردة والانقلاب على الدستور، أو القبول بسرقة إرادته التي عبر عنها في انتخابات السابع من أكتوبر».
ومن جهته، دافع ابن كيران عن وجود حزب الاستقلال في الحكومة المقبلة، وعزا تشبثه به والتغاضي عن الخصومة السابقة معه إلى «موقف البطولة والرجولة» الذي اتخذه أمينه العام حميد، عندما رفض المذكرة التي كانت أحزاب المعارضة «الأصالة والمعاصرة» و«الاتحاد الدستوري» و«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» إلى جانب «التجمع الوطني للأحرار»، تعتزم توجيها إلى الملك لتعلن فيها عن رفضها التحالف مع «العدالة والتنمية» إبان ظهور نتائج الانتخابات، وذلك بغرض إسقاط ابن كيران والانقلاب على نتائج الانتخابات. ومن ثم انتخاب رئيس للبرلمان من خارج الأغلبية. وكان من المخطط له أن يتولى المنصب أحد قياديي حزب «الاتحاد الاشتراكي»، وذلك قبل أن تنكشف المناورة التي اتهم حزب «الأصالة والمعاصرة» بالوقوف وراءها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهرت اجتهادات تدعو لتعيين أمين عام الحزب الذي حصل على المرتبة الثانية في الانتخابات رئيسًا للحكومة، ما دام فشل ابن كيران في تشكيل غالبيته الحكومية، وإن لم ينص الدستور على ذلك. وهو ما عارضه حزب «العدالة والتنمية» بشدة مدعومًا من حزبي «الاستقلال» و«التقدم والاشتراكية».
ابن كيران يتفادى إقحام القصر في خلافات حزبية
بعد أكثر من شهرين على ظهور نتائج الانتخابات، لم تغير كل الأطراف السياسية مواقفها، ليعلن بعدها ابن كيران أنه لا يحبذ اللجوء إلى الملك من أجل حل خلافات تشكيل الحكومة «فالملك حكم بين المؤسسات وليس الأحزاب، ولن أقحم الملك في أمر بين الأحزاب السياسية، التي يجب أن تتحمل مسؤوليتها».
إلا أن الملك محمد السادس لم يكن بعيدا عن مخاض تشكيل الحكومة. والخلافات التي ظهرت بين الأحزاب فقد وجه بعد شهر من الانتخابات انتقادات صريحة إلى الحلفاء المرشحين لتسيير الحكومة المقبلة، وذلك في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ41 لـ«المسيرة الخضراء»، وقال فيه إن «المغرب يحتاج لحكومة جادة ومسؤولة، وإن الحكومة المقبلة لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية». وشدد على أنه لن يتسامح مع الخروج عن معايير الكفاءة ووضع أولويات محددة وبرامج مضبوطة عند تشكيل الحكومة المقبلة. ومن ثم توقع كثيرون أن يشكل خطاب الملك دفعة من أجل تسريع المفاوضات والإعلان عن الحكومة، تجنبًا للفراغ السياسي وتعطيل المؤسسات إلا أن ذلك لم يحصل لتستمر حالة الانتظار.
بداية الانفراج: كل الاحتمالات واردة
وأمام تأخّر تشكيل الحكومة أبلغ مستشاران للعاهل المغربي، السبت الماضي، رئيس الحكومة المعيّن حرص الملك محمد السادس على «أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب الآجال». وذكر بيان للديوان الملكي أن المستشارين الملكيين عبد اللطيف المنوني وعمر القباج أبلغا ابن كيران بانتظارات العاهل المغربي وكل المغاربة بشأن تشكيل الحكومة الجديدة. ولكن كان لافتًا أن المستشار الملكي البارز فؤاد عالي الهمة لم يكن ضمن المبعوثين الملكيين إلى ابن كيران.
ويرى المراقبون أن الطريقة التي اختارها العاهل المغربي لإبلاغ رئيس الحكومة المعين بانتظاراته وانتظارات المغاربة بخصوص تشكيل الحكومة تكتسي أكثر من مغزى. فقد كلف العاهل المغربي بهذه المهمة مستشاره عبد اللطيف المانوني، الذي تولى رئاسة اللجنة التي أشرفت على إعداد وصياغة دستور 2011، ورافقه فيها المستشار عمر القباج، المعروف عنه أنه يتدخل فقط في القضايا الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، اختار الملك بعث رسالة عبر مستشاريه بدل استقبال ابن كيران، أو الاتصال به مباشرة، ليسأله عن تطورات مشاورات تشكيل الحكومة.
إلا أن المبادرة الملكية حرّكت مياه بركة مشاورات الحكومة الراكدة. واستقبل ابن كيران أخنوش مساء الاثنين الماضي في محاولة جديدة لإخراج المشاورات من عنق الزجاجة. لكن حتى تاريخ كتابة هذه السطور كانت أن عقدة «الاستقلال» قائمة.
وزاد في تعقيد الأمور التصريحات التي أدلى بها أخيرا أمين عام «الاستقلال» بشأن حدود موريتانيا، وهو ما أقام الدنيا وأقعدها عليه سواء في نواكشوط (بيان الحزب الحاكم) والرباط (بيان وزارة الخارجية)، وإدلاء اخنوش عقب خروجه من لقاء ابن كيران بأنه يصعب على حزبه المشاركة في حكومة فيها حزب «الاستقلال» لا يتوانى أمينه العام عن الإدلاء بتصريحات لا تخدم الدبلوماسية المغربية. ومما زاد الطين بلة أن ابن كيران أعلن الأربعاء في تصريحات أدلى بها بموريتانيا أن تصريحات غير مسؤولة ولا تتماشى مع الدبلوماسية المغربية. وزاد قائلا إنها لا تعبر إلا عن رأيه الشخصي، ولا تعبر عن رأي الملك أو الحكومة أو الشعب المغربي، الأمر الذي وضع مشاركة «الاستقلال» في الحكومة المنتظرة في مهب الريح.