دخلت الأتمتة والحركة الذاتية عالم النقل بالقطارات والطائرات منذ فترة ليست قليلة. ونشاهد في أوروبا اليوم كثيرًا من القطارات التي تتحرك بين أجنحة المطارات دون سائق، كما نعرف عن الطيار الأوتوماتيكي منذ سنوات طويلة.
وطبيعي، فإن السير على السكك، والطيران في الفضاء الواسع، سهّلا تطوير أنظمة الطائرات والقطارات ذاتية الحركة، لكن زحمة النقل على الشوارع تطلبت سنوات طويلة من العمل لتحريك السيارات والشاحنات بلا سائق. غير أن تدشين عصر وسائط النقل ذاتية الحركة يبشر بثورة إلكترونية جديدة في تاريخ البشرية، مع أن هذه النقلة ستتطلب ثورة أخرى تتعلق بتغيير كامل بنية النقل البري والبحري والجوي في العالم، لكي تكون مؤهلة لاستقبال وتوديع هذه الروبوتات المتحركة.
وفي حين لا تتوقع شركة «مرسيدس بنز» (التابعة لمجموعة «دايملر» الألمانية)، التي جربت أول شاحنة ضخمة ذاتية الحركة في الصيف الماضي، ألا يصبح عالم «السيارات الشبحية» (يقصدون بلا سائق) واقعًا قبل 10 سنوات. أعلن معهد فراونهوفر الألماني مطلع هذا العام أنه أتم بنجاح تجربة أو سيارة ذاتية الحركة على الشوارع الألمانية. وجاء في تصريح المعهد أنهم يسعون إلى أتمتة كامل عملية قيادة السيارات، وجعل «قمرة قيادة» السيارة بديلاً كاملاً عن الإنسان.
وهكذا يمكن للسيارة الإلكترونية المقبلة أن تسير في الطرقات دون أن تسبب الحوادث، ودون أن تدهس أحد المارة، كما يمكننا التفاعل مع أنظمة المرور، والحركة بالضبط مع آلية تغير الألوان في أضوية المرور.
ثمرة «أفكار»
لقد عمل المهندسون والعلماء في معهد فراونهوفر سنة ونصف السنة على تطوير مشروع السيارة الآلية الحركة. وأطلقوا على المشروع اسم «أفكار» (AFKAR) (Autonomes Fahren und intelligentes Karosseriekonzept für ein All - Electric Vehicle)، ويعني «القيادة الذاتية وموضوع جسد السيارة الكهربائية الذكية».
ويؤكد الباحث بنجامين مايدل، رئيس مشروع «أفكار» أن التقنية متوفرة داخل أروقة المعهد، ويكفي للمرء النظر إلى الروبوتات المتحركة فيه كي يعرف أن تحويل السيارة إلى روبوت ليس بالأمر الصعب، ولا يتطلب سوى التغلب على مشكلة الحجم. فالروبوتات تعمل في مختلف فروع المعهد دون صعوبة ودون أن تتسبب بمشكلات للآلات الأخرى، للروبوتات الأخرى، أو للإنسان.
وراهنًا يجرب العلماء في المعهد عمل السيارة داخل مختبرات صغيرة، وباستخدام طريقة المحاكاة الكومبيوترية، لكنهم سيستعرضون تقنية متكاملة لسيارة «أفكار» الإلكترونية خلال فترة وجيزة. وحينذاك تكون السيارة مجهزة بأجهزة استشعار وكاميرات تمسح لها الطريق عن مسافة تزيد على 100 متر. هذا فضلاً عن أجهزة رادار وأجهزة تعمل بموجات الصوت وأخرى بالليزر توفر للسيارة الإلكترونية مساحة نظر بقطر 200 - 300 متر.
في خطوة لاحقة ستجرى تجربة السيارة داخل مدينة وكاراجات مصغرة تقام داخل المعهد، لأن تطبيق المشروع على أرض الواقع سيتطلب الحصول على إجازة خاصة من الدولة. وواضح أن مستقبل المشروع يتعلق بمستقبل كامل نظام المرور وأن سيارة المستقبل ستتطلب أنظمة مستقبلية ومدنًا مستقبلية أيضًا.
حتى الشاحنات
وعلى صعيد الشاحنات الكبيرة ذاتية الحركة، جرّبت شركة «مرسيدس بنز» أول شاحنة روبوت سارت بمفردها على الطرقات في شوارع ولاية بادن فورتمبرغ (بأقصى جنوب غربي ألمانيا)، حيث مصانع مرسيدس الشهيرة في مدينة شتوتغارت. وفي حين يمكن لسيارة مرسيدس F015 التجريبية أن تنطلق بسرعة 200 كلم/ ساعة على «الطرقات السريعة» من دون أن تتسبب بأي حادث رغم أنها تسير بلا سائق، وهي سيارة شخصية أمينة مخصصة لعائلة صغيرة، قد تبدو الأمور - نظريًا - أصعب بكثير بالنسبة لشاحنة روبوت أو حافلة بلا سائق تسير بسرعة 120 كلم/ ساعة، لكن مهندسي الشركة الألمانية العريقة لا يعتقدون بذلك.
وحقًا، جرب العلماء أول شاحنة كبيرة ذاتية الحركة (من محرك قدرة 449 حصانًا). وقال فولفغانغ بيرنهارد، من رئاسة قسم إنتاج الشاحنات في «دايملر»، إن الشاحنة ستنال الإجازة قريبًا، وإنهم على ثقة في الشركة، على أنها ستسير بلا سائق على الطرقات الألمانية في العام الحالي. وأكد أن الشركة ستتحول إلى إنتاج السوق من الشاحنات الروبوت حال نيل الشاحنة «الأوتونوم» إجازة الحركة.
النقل البحري
على صعيد آخر، فإن المتابعون لا يشكون في أن الأتمتة دخلت بالفعل كابينات قيادة البواخر الحديثة بقوة في العقود الأخيرة، ومع أن كثيرًا من أنظمة الأمن والصيانة ما زالت قاصرة بات ممكنًا لمشروع «الباخرة ذاتية الحركة» أن يسهم في تطوير الرقابة على حركة الملاحة البحرية. ولذلك عمل فريق العمل، من «معهد فراونهوفر الألماني للأنظمة اللوجيستية والخدمات» في هامبورغ، بالتعاون مع علماء من 5 بلدان أوروبية، على تطوير برنامج «محاكاة» قادر على تحريك البواخر على خريطة إلكترونية عبر محيطات وبحار العالم دون الحاجة إلى قبطان أو طواقم عمل. وتمكن بورمايستر وفريق عمله من المعهد، باستخدام نظام التحكم عن بعد بالبواخر عبر الأقمار الصناعية، من تحريك سفينة طولها 220 مترًا، وبسرعة 12 عقدة بحرية قرب سواحل الهند من موقعهم في غرفة التحكم في هامبورغ. ولقد ساعدتهم في ذلك أنظمة من كاميرات الأشعة فوق الحمراء، وأنظمة الاستشعار المختلفة، لتوجيه البواخر بين الخلجان والصخور وبعيدًا عن مسارات البواخر الكبيرة الأخرى. وهذا فضلاً عن أنظمة تحديد السرعة والتحكم بها، وأجهزة قياس الأعماق، ورادارات رصد الأنواء الجوية، وهي أنظمة يمكن للإنسان التحكم بها عن بعد عبر الأقمار الصناعية. وهناك أيضًا أجهزة استشعار تحذر الباخرة من الارتطام بالأجسام الطافية، التي تظهر فجأة في البحار نتيجة غرق بواخر أخرى، وتطلق جهاز التحذير في هامبورغ.
وفي هذا السياق، وزع «معهد فراونهوفر للأنظمة اللوجيستية والخدمات»، أخيرًا، تقريرًا صحافيًا يقول فيه إن ما حققه حتى الآن على صعيد أتمتة قيادة الباخرة يمكن استخدامه في غرفة قيادة أي باخرة منذ الآن. وهي تقنيات حديثة يمكن أن تطور الملاحة الرقمية، ولا يحتكر المعهد تطويرها لمصلحة مشروعه فقط.