من التاريخ: «الصحوة العثمانية الأخيرة».. وحصار فيينا الثاني

أحمد كوبرولو
أحمد كوبرولو
TT

من التاريخ: «الصحوة العثمانية الأخيرة».. وحصار فيينا الثاني

أحمد كوبرولو
أحمد كوبرولو

بدأ الانحسار العثماني التدريجي يأخذ مجراه لأسباب تتعلق في الأساس بالمشاكل الداخلية وضعف النخبة الحاكمة وحالة التآكل السياسي في الدولة.
وإلى جانب تولي سلسلة من السلاطين الضعاف الحكم، فإن تغيير مسار التجارة الدولية والانشقاقات الداخلية وضعف السلطة المركزية أدت إلى مشاكل اقتصادية وسياسية متفاقمة، خاصة أن الدولة العثمانية كانت من أكثر الدول تنوعًا عرقيًا ولغويًا ودينيًا بفضل توسعاتها المختلفة بما شمل جنسيات وعرقيات وديانات متباينة.
إلا أن القدر ساق لهذه الدولة خلال هذه المرحلة الحرجة أسرة كوبرولو العظيمة التي مثلت ما يمكن أن نسميه «الصحوة الأخيرة» للدولة العثمانية. وكانت من ثم كفيلة بتحريك الجسد العثماني الخامل بعدما تولى محمد كوبرولو رئاسة الوزراء بدلاً من سلسلة من الساسة الفاسدين والقليلي الحنكة.
ذلك أن محمد كوبرولو كان رجلا مستنيرًا وداهية سياسية من الطراز الأول، ولقد تدرج في المناصب كحاكم لولايات مختلفة بما ساعده على فهم طبيعة الدولة ومشاكلها.
وبمجرد توليه مقاليد الحكم الفعلي في البلاد ترك السلطان لحياته الخاصة وملذاته بعيدًا عن أمور السياسة، وباشر كوبرولو تطبيق «سياسة حديدية» مكنته من السيطرة تمامًا على الدولة بالقضاء على عناصر الفتن في الديوان السلطاني ثم في الدولة ككل من خلال الإعدامات والنفي وغيرهما من الأدوات المتاحة في ذلك الوقت. بعد ذلك اهتم بإعادة بناء الجيش وتدريبه على الأساليب الحديثة خاصة بعد تطور التسليح والتكتيكات العسكرية السريعة في أوروبا.
لم يمهل القدر محمد كوبرولو طويلاً، ولكن مع وفاته انتقلت رئاسة الوزراء إلى ابنه أحمد كوبرولو الذي سار على نهج والده في ممارسة الحكم تاركًا السلطان محمد الرابع لهواياته وملذاته. وسرعان ما أصبح الجيش العثماني جاهزًا للقيام بجولة عسكرية جديدة في المجر التي كانت تمثل مسرح الصراع التقليدي مع النمساويين، وبالفعل، استطاع أن يهزمهم في عام 1663، ولكن في العام التالي صمد النمساويون وهزموا الجيش العثماني في معركة سان غوثارد الشهيرة مع أنها لم تضعف إمكانيات الجيش الذي احتفظ إلى حد بعيد بقوته. وبالتوازي، تفرغ رئيس الوزراء للإصلاحات الداخلية ووضع نظامًا ضريبيًا حديثًا وقضى على نسبة كبيرة من الفساد الإداري السائد في هذه الدولة.
وبحلول عام 1672 فتح العثمانيون الجبهة الأوروبية مرة أخرى بدعم القوزاق الأوكرانيين ضد حكامهم البولنديين، وهو ما زج الدولة في حالة حرب مع بولندا انتهت بهزيمة القائد جون سوبييتسكي، وانتزاع جزء من أراضيه وضمها لحلفائه القوقازيين.
غير أن أحمد كوبرولو توفي فجأة في سن الثانية والأربعين من عمره بسبب إفراطه في شرب الخمر، وتولى من بعده قرة مصطفى رئاسة الوزراء، وفي عهده هزمت روسيا الجيوش العثمانية في شرق أوروبا واستعادت كل الأراضي التي حصل عليها أحمد كوبرولو.
بعدها أراد قرة مصطفى محو خطيئته العسكرية في شرق أوروبا فقرر فتح الجبهة مع النمساويين مرة أخرى في عام 1683 وأرسل جيشًا قويًا إلى المجر لدعم المجريين البروتستانت ضد الكاثوليك، واستغل الفرصة لمحاولة فتح فيينا بعدما فشل في ذلك السلطان سليمان القانوني منذ قرنين من الزمان. إلا أن الرجل كان يفتقر للكفاءة العسكرية لإدارة هذه الحملة أو لحصار النمسا، وارتكب سلسلة من الأخطاء العسكرية إذ فرض الحصار عليها من دون مدفعية ثقيلة تستطيع ضرب الأسوار الشاهقة للمدينة. ثم إن خطة الحصار لم تكن محكمة إضافة إلى وجود ثغرات تكتيكية متعددة، ما اضطره إلى اللجوء لشق الأنفاق من أجل الوصول للأسوار حتى يستطيع أن يلغم الجدران ما فتح المجال أمام المدافعين لإعاقة تحركاته. غير أن أكبر أخطاء السياسي العثماني أنه لم يأخذ احتياطاته في مواجهة الجيش البولندي بقيادة سوبييتسكي الذي كان في طريقه لرفع الحصار عن المدينة، وعند وصول هذا الجيش وجد العثمانيين في حالة انفلات كامل، وقد استغرب سوبييتسكي من هذا الإهمال ووصف قائد الجيش العثماني بأنه غير مدرب ولا يعرف كيف يدير حصارًا، إذ ترك معسكره بلا أي حماية تذكر. وهكذا أجهز الجيش البولندي - النمساوي المشترك على الجيش العثماني ورفع الحصار عن المدينة واستولى على غنائم كثيرة للغاية، وخرجت أراضٍ واسعة في شرق أوروبا من قبضة العثمانيين خاصة في البلقان.
إزاء الهزيمة النكراء اضطر قرة مصطفى لسحب ما تبقى من قواته وعاد يجر أذيال الخيبة، إلا أنه دفع حياته ثمنًا لهذه الهزيمة إذ أعدم بأوامر من السلطان. ولكن سرعان ما قامت الثورة ضد السلطان محمد الرابع بسبب الهزائم العسكرية المتتالية.
ومن ثم انتهت آخر صحوة للدولة العثمانية في السياسة الدولية، ومنذ ذلك التاريخ تحولت هذه الدولة إلى لاعب احتياطي في المعادلة السياسية الأوروبية والدولية وأصبح وجودها مرتبطًا في الأساس للحفاظ على التوازن الاستراتيجي الأوروبي، إذ لم تسمح لها القوى الأوروبية المختلفة بالاندثار السياسي خشية اندلاع الصراع على إرثها، بينما لم تسمح لها ظروفها المتهاوية أي نوع من أنواع المقاومة الجدية، وكان الإخفاق في الاستيلاء على فيينا نقطة تحول في موازين القوى الأوروبية خفت من بعدها النجم العثماني تدريجيًا.
لقد تركت هزيمة العثمانيين النمسا ومعها أوروبا في حالة نشوة سياسية وعسكرية، فنسجت الروايات حول هذا اليوم المشهود، ومنها رواية ابتكار معجنات «الكرواسون» الشهيرة الذي أرجعه البعض خطأ على أنه ابتكار للاحتفال بهذه المناسبة لأنه أخذ شكل الهلال (وكلمة «كرواسون» الفرنسية تعني «الهلال») ابتهاجًا بهزيمة العثمانيين الذين كانوا يضعون الهلال رمزًا لهم. ولكن هذا غير صحيح لأن الكرواسون ظهر في القرن التاسع عشر.
أما الثابت تاريخيًا فهو أن النمسا تعرّفت على مشروب القهوة من العثمانيين، فعندما استولى النمساويون على غنائم حرب كثيرة بعد رفع الحصار كان منها كميات كبيرة جدًا من القهوة أو البنّ.
ومن هنا عرفت أوروبا الغربية القهوة وتم افتتاح أول مقهى يقدم هذا المشروب الجديد عقب فك الحصار مباشرة، ولهذا يسمى نوع من أنواع القهوة إلى اليوم «قهوة تركي» علمًا بأن العثمانيين عرفوها من العرب لأن زراعة البن كانت تقليديًا منتشرة في اليمن وكانت تُصدر بكميات كبيرة عبر ميناء المُخا اليمني.
وهكذا، نسبت القهوة إلى الأتراك ونسب مشروب «الموكا» إلى الميناء اليمني، وفي كل الأحوال ترك حصار العثمانيين لفيينا تركة شرب القهوة بينما تركت الهزيمة الأوروبية للدولة العثمانية علامة نهايتها كدولة لاعبة في مقدرات السياسة الأوروبية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.