نيكي هايلي.. ثالث امرأة على التوالي تسمّى سفيرة لأميركا لدى الأمم المتحدة

سيدة أعمال وسياسية هندية سيخية الأصل لمخاطبة العالم

نيكي هايلي.. ثالث امرأة على التوالي تسمّى سفيرة لأميركا لدى الأمم المتحدة
TT

نيكي هايلي.. ثالث امرأة على التوالي تسمّى سفيرة لأميركا لدى الأمم المتحدة

نيكي هايلي.. ثالث امرأة على التوالي تسمّى سفيرة لأميركا لدى الأمم المتحدة

كان اسمها الأصلي نيمراتا رانداوا.. وهو الآن نيكي هايلي. وكانت من أتباع الديانة السيخية.. وهي اليوم مسيحية تتبع المذهب البروتستانتي (الكنيسة النظامية). وكانت مُحاسِبة قانونية، وتحوّلت بعد ذلك إلى قطاع الأعمال والتجارة، ثم صارت سياسية. وكانت تصف نفسها بأنها «سوداء».. ثم أخذت تعتبر نفسها «سمراء»، وهي تصر اليوم على أنها «بيضاء».
وفي مضمار السياسة، انتمت هايلي في شبابها إلى الحزب الديمقراطي، قبل أن تنقل ولاءها إلى الحزب الجمهوري. وكانت من كبار المعجبين بهيلاري كلينتون، لتصفها لاحقًا بأنها «كارثة». وأخيرًا، وليس آخرًا عندما رشّح دونالد ترامب نفسه لرئاسة الجمهورية كانت بين الشخصيات الجمهورية التي وقفت ضده، لكنها قبلت فيما بعد أن تكون سفيرته لدى الأمم المتحدة، أي المدافع عن مواقفه وسياساته أمام العالم بأسره.
في عام 1966، تسلم آجيت سينغ رانداوا، المدرّس في جامعة البنجاب الزراعية في الهند ردًا بالقبول من جامعة بريتش كولومبيا، في مدينة فانكوفر بكندا، فسافر إلى كندا واستقر هناك. ولاحقًا تزوّج آجيت المحامية الشابة راج كاوور رانداوا، وعاش الزوجان في فانكوفر حتى حصول آجيت على الدكتوراه عام 1969.
وفي العام التالي (1970) انتقلت العائلة إلى ولاية ساوث كارولينا على الساحل الجنوبي الشرقي للولايات المتحدة، إذ انضم آجيت إلى جهاز التدريس في كلية فورهيس، وهي كلية جامعية ذات خلفية سوداء. وسكنت العائلة في مدينة بامبرغ الصغيرة التي لا تبعد سوى 5 أميال عن حرم الكلية. وتقاعد بعد 29 عامًا من التدريس، وكانت زوجته قد أنجبت ولدين وبنتين، بينهم نيمراتا التي كانوا ينادونها دائمًا «نيكي» أي «الصغيرة».
ولدت نيمراتا (نيكي) يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1972. وفي سن الثانية عشرة بدأت العمل حيث كانت تساعد أمها في متجر «إكزوتيكا إنترناشونال» للملابس، الذي كانت تملكه الأم. وفي الوقت ذاته كانت طالبة مجتهدة، أنهت دراستها الثانوية في مدينة أورانجبرغ، ثم تخرّجت بدرجة بكالوريوس في المحاسبة في جامعة كليمسون، إحدى أكبر جامعات الولاية وأكثرها احترامًا ومكانة. ويقال إنها حتى في تلك المرحلة المبكرة من حياتها كانت متحمسة للمبادرات الفردية والحرية الاقتصادية، وتنظر بعين الشك لما تراه تدخّل الحكومة والترهل الوظيفي.
وحين تتذكر أمها طفولتها تقول: «كانت نيكي وهي صغيرة تختلف عن أختها، وحتى عن أخويها. كانت فصيحة وكثيرة الكلام، كما كانت كثيرة النظريات والتفسيرات والتحليلات، بجانب تحليها بالشجاعة والجرأة». وذات يوم وكانت في سن خمس سنوات، بروضة الأطفال، قالت لأمها إنها تود المشاركة في مسابقة ملكة جمال بامبرغ للصغيرات، لكن في تلك الفترة من تاريخ الولاية الجنوبية المحافظة واجهت العائلة مشكلة لونها.
فهل هي سوداء أو بيضاء؟ إذ كانت المدينة، كعشرات غيرها في الجنوب الأميركي، منقسمة إلى قسمين: واحد يسكنه البيض والثاني السود.
وكانت كل جماعة تجري مسابقة ملكة جمال منفصلة عن الأخرى.. إذ ذهبت العائلة إلى المسؤولين عن مسابقة ملكة الجمال البيضاء، فردوا عليهم بأنها ليست بيضاء. ثم ذهبوا إلى المسؤولين عن مسابقة ملكة الجمال السوداء، فقالوا لهم إنها ليست سوداء. وكانت هذه التجربة شديدة الوقع على الصغيرة وأثَّرت عليها في مستقبل حياتها. إذ صارت بعد ذلك تصف نفسها بأنها «سمراء»، ولم يتغير الحال إلا بعد زواجها من مايكل هايلي، وهو شاب أبيض، وهكذا صارت تقول إنها «بيضاء».
سيدة أعمال ناجحة

نجحت هايلي (وهي أم لولد وبنت) في مجالي المحاسبة والتجارة، وبفضل شخصيتها القوية ومزاياها القيادية وطموحها الشديد اشتهرت بوصفها إحدى ألمع سيدات الأعمال في بامبرغ، ثم على مستوى الولاية. وهو ما شجعها على اقتحام مضمار العمل السياسي.
وفعلاً، عام 2004، ترشحت لعضوية كونغرس ولاية ساوث كارولينا وفازت لتصبح أول أميركية آسيوية تحقق هذا الإنجاز. ومن منبرها السياسي، ومن خلفيتها التجارية، صارت من الأصوات المرتفعة والفعالة في الدفاع عن حرية الاستثمار وتخفيض الضرائب على الشركات. وتحولت تدريجيًا من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري الأكثر ميلاً للنهج الاقتصادي اليميني المحافظ. وفي عام 2006، ترشحت وفازت مرة ثانية بالتزكية هذه المرة. وفازت للمرة الثالثة على منافسها من الحزب الديمقراطي بغالبية 88 في المائة مقابل 17 في المائة.

حاكمة الولاية
واستمرت مسيرة الطموح والتقدم، إذ ترشحت هايلي في عام 2009 لمنصب حاكم ولاية ساوث كارولينا ولم تجد صعوبة بالفوز لتغدو أول امرأة تفوز بالمنصب وأول سياسي غير أبيض يحكم هذه الولاية الجنوبية البيضاء المحافظة خلال 300 سنة. ويُذكر أنه في ذلك الوقت، شهدت ولايات جنوبية أخرى مماثلة تغييرات مشابهة، إذ فاز الهندي الأصل بوب جيندال بمنصب حاكم ولاية لويزيانا، والأسود دوغلاس وايلدر بمنصب حاكم ولاية فيرجينيا. والواقع أن صعود الثلاثة إلى القمة في بيئاتهم الجنوبية المحافظة، الحساسة في مسائل العرق واللون وكذلك الجنس، لم يكن سهلاً.. وبالأخص، وفي حالة هايلي، المرأة، غير البيضاء، الهندية - السيخية الأصل.
وحقًا، في أول خطاب لها كحاكمة للولاية، قالت: «أعتز بأنني بنت مهاجرين من الهند»، وبسرعة البرق فتحت على نفسها أبواب الجحيم من عنصريين من كل المشارب. ومن التغريدات العنصرية التي نالت من هايلي تساؤل أحدهم في موقع «تويتر»: «لماذا غيرّتِ اسمك الهندي إلى اسم أميركي؟»، وقول ثانٍ: «حتى بيضاوات ساوث كارولينا عندي فيهم رأي سلبي»، وثالث: «لست مسيحية. ففي أعماقك أنت من السيخ. مثل أوباما المسلم».
ولم يسلم من التهكم العنصري زوجها (المسيحي البروتستانتي الأبيض) مايكل هايلي، وهذا مع أنه يعمل في الحرس الوطني بالولاية، وسبق له أن حارب مع القوات الأميركية في أفغانستان. وخلال آخر حملة انتخابية لهايلي لمنصب حاكمة الولاية، واجهت الزوجة والزوج اتهامات الخيانة الزوجية. وانتقد آخرون سجل الزوج في أفغانستان، وتصريحاته عن «الحرب ضد الإرهاب»، وكذلك لحضوره حفلاً للسيخ مع زوجته إبان زيارتهما إلى الهند، ويومذاك (كما يقال) أعطاه مستضيفوه من السيخ سيفًا رمزيًا لوّح به وأرعب الحاضرين الهنود.

هويتها السياسية
قبل أسبوعين نشرت صحيفة «واشنطن بوست» عن هايلي أنها «تتأرجح في آرائها العنصرية والعرقية، فهي في مرات انتقدت سود الولاية وحمّلتهم مسؤولية كثرة الجرائم، وفي مرات انتقدت المهاجرين من المكسيك ودعت إلى إبعاد «المهاجرين غير القانونيين منهم»، ومرات انتقدت الرئيس باراك أوباما (في موضوع مواجهة الإرهاب) ملمحة بأن «تساهله» المزعوم ناجم عن كونه «مسلمًا متخفيًا»، وأنه «يجامل (إخوانه الإرهابيين)». كذلك قالت الصحيفة إن هايلي «تستغل خلفيتها لتحسين صورتها ونقد معارضيها. لكن، بمقدور معارضيها استغلال خلفيتها للإساءة إلى صورتها».
وبالفعل، خلال السنوات القليلة الماضية، انضم إلى ناقدي هايلي ساسة من أصول أجنبية، وبعضهم من أصل هندي، بل وبعضهم في ساوث كارولينا ذاتها. ومن بين اتهاماتهم أنها في سبيل تحقيق طموحاتها نسيت خلفيتها الهندية، وانحازت إلى الأغلبية البيضاء، وتركت دين عائلتها، واعتنقت المسيحية. وكما غمزت هي من قناة أوباما مشككة بمسيحيته، قال هؤلاء إنها «سيخية متخفية». ووصلت ردود مناوئيها إلى الذروة في عام 2014، عندما ترشحت وفازت للمرة الثانية، بمنصب الحاكمية، إذ انتقدها قادة في الحزب الديمقراطي بأنها تنكر خلفيتها الهندية ولونها وتتبنى سياسات ظالمة ضد الأقليات والسود. وقال أحدهم: «نيكي ليست من الأقليات والملونين. إنها مع البيض رغم سحنتها».

هايلي وترامب
على صعيد آخر، فيما يتعلق بعلاقة نيكي هايلي بالرئيس المنتخب دونالد ترامب، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» أخيرًا أن هايلي دخلت في مشادات مع ترامب خلال الحملة الانتخابية الأخيرة. وبدأت بتأييدها مرشحًا جمهوريًا آخر هو السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا). ولهذا، استبعدها ترامب من قائمة المرشحين ليختار واحدا منهم نائبا له (في النهاية اختار مايك بينس، حاكم ولاية إنديانا). أما أبرز مآخذ هايلي على ترامب فهي أنه: أولا: لم يعلن بوضوح أنه يدين منظمة «كو كلوكس كلان» البيضاء العنصرية. وثانيا: يتحدث بصوت عال وهو هائج، لكن، «ليس من يصرخ داخل غرفة هو الأصلح». وثالثا: يحيط نفسه بمستشارين من «نوع واحد» (رجال بيض). ورابعًا: يشتم النساء، ولا يحترمهن.
وفي المقابل، اتهمها ترامب في تغريداته: أولاً «نسيت نيكي أنها طلبت منى التبرع لصالح حملتها الانتخابية في عام 2009». وثانيا: «نيكي امرأة ضعيفة». وثالثا: «تتسامح مع المهاجرين غير القانونيين، بسبب خلفيتها».
ولكن، مع نهاية الحملة الانتخابية، وخلال مقابلة مع تلفزيون «سي إن إن»، تراجعت هايلي قليلاً عن انتقاداتها، ربما بعدما شعرت أن ترامب قد يختارها لمنصب مهم في إدارته، فقالت: «لم أنتقد ترامب شخصيا، بل أعتبره صديقًا». ثم، بعدما اختارها سفيرة لدى الأمم المتحدة، أصدرت بيانًا قالت فيه: «لقد قبلت العمل في إدارة ترامب لأنني أحس بأنني قدمت أشياء كثيرة لرفع مستوى المواطنين في ولاية ساوث كارولينا، وفي تقديم خدمات كثيرة كنت وعدتهم بتقديمها، وستكون هذه سنوات تغيير مثيرة في تاريخ الولايات المتحدة..»، وأردفت: «.. وعندما يطلب رئيس الولايات المتحدة من شخص تولي منصب وطني يجب تلبية الطلب».

في السياسة الخارجية
بعد اختيار هايلي لمنصب السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، فإنها ستصبح وجه أميركا أمام العالم، والمدافع عن سياساتها في أرفع منبر دولي، فما أبرز مواقفها في الشؤون الدولية؟
صحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» نشرتا معلومات لا بأس بها عن آرائها في مواضيع مهمة. منها في موضوع إسرائيل وفلسطين أنها في عام 2015، منعت ولاية ساوث كارولينا من المشاركة في حملة شعبية أميركية ضد الاستثمارات الأميركية في إسرائيل (اسم الحملة: «بي دي إس»: مقاطعة، ومعاقبة، ومعارضة الاستثمار)، وكانت إسرائيل، يوم أعلن ترامب اختيارها سفيرة لدى الأمم المتحدة، أول دولة ترحب بذلك. في المقابل، في موضوع اللاجئين السوريين، لم تنضم هايلي إلى قادة الحزب الجمهوري الذي عارضوا دخولهم الولايات المتحدة، مع أنها لم ترحب بهم بصورة واضحة في ساوث كارولينا. وقالت كلامًا يوحي بترددها.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.