الحداثة العربية والصعود الأصولي

فرضيات خاطئة وتأريخ غير دقيق

عربة عسكرية إسرائيلية تقل جنودا وتمر بأخرى مدمرة في صورة تعود إلى حرب الأيام الستة في حزيران 1967(غيتي)
عربة عسكرية إسرائيلية تقل جنودا وتمر بأخرى مدمرة في صورة تعود إلى حرب الأيام الستة في حزيران 1967(غيتي)
TT

الحداثة العربية والصعود الأصولي

عربة عسكرية إسرائيلية تقل جنودا وتمر بأخرى مدمرة في صورة تعود إلى حرب الأيام الستة في حزيران 1967(غيتي)
عربة عسكرية إسرائيلية تقل جنودا وتمر بأخرى مدمرة في صورة تعود إلى حرب الأيام الستة في حزيران 1967(غيتي)

هل فشلت الحداثة العربية وكان فشلها مبررًا وسببًا رئيسيًا لصعود الأصوليات الدينية كبديل كما يقول البعض؟ وهل انهزمت هذه الحداثة في معاركها جميعًا.. وفي تحقيق أي من وعودها سواء في الحرية أو التحرر والتحرير.. أو في تحقيق الوحدة التي كانت في خمسينات القرن الماضي «نشيد إنشاد العرب»، حسب تعبيرات منيف الرزاز حينئذ؟ فصعدت تيارات الخلافة بديلاً عنها، كما يطرح بعض المؤرخين والمنظرين في الاتجاهين؟
من يقولون بفشل الحداثة العربية، لا يقيسونها بأفكارها ولكن بارتباطات زائفة مدخولة عليها. لا يقيسونها بممثليها وأطروحاتها ومنجزاتها التي غيرت شكل المجتمع والدولة العربية بعمومها، من مدنية التعليم وإنشاء الجامعة والدفاع عن حقوق المرأة وحضورها وعملها، إلى الإصلاح السياسي والفكرة ووضع الدساتير وصناعة المؤسسات كالبرلمان واستقلال القضاء والمواطنة... إلخ.
لا يمكن أن ينكر منصف أن مثل هذه المنجزات، كانت طرحًا وقضية رئيسية عند كل ممثلي النهضة أو الحداثة العربية، منذ أن كتب رفاعة الطهطاوي عن تعليم البنات في «المرشد البنين»، وأبدى إعجابه بالدستور الفرنسي وترجم بعض أجزائه، إلى النشيد الوطني والحديث عن إخوة الوطن.. مرورا بخير الدين التونسي، ووضع أول دستور عربي في عهد الصادق باي في يناير (كانون الثاني) 1861 ميلادية وأنشئ مجلس استشاري ضم ستين عضوا، حينها رأسه خير الدين باشا نفسه.
بداية لا بد لنا من ضبط مفهومنا لـ«الحداثة العربية» التي نراها جهودًا ومسارات تجاوز التقليد الثقافي والفكري والسياسي السابق على القرن التاسع عشر. وتمثلت في جهود مختلفة وفي مجالات متعددة، من السياسة إلى الاجتماع إلى الأدب إلى الصحافة والإعلام، التي تزامن تأسيسها مع هذا التوجه.. إلى إعادة المساءلة والهوية نفسها التي أنتجت تيارات وطنية وقومية وأممية. كما أنتج سؤال التقدم نفسه الذي طرح منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر ولم ينطرح فقط مع الكتيب الشهير للأمير شكيب أرسلان «لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» المطبوع عام 1939 ميلادية، بل تم طرح السؤال نفسه مرارا وتكرارا قبل ذلك.
ثم أن الحداثة لا تتحمل أخطاء وخطايا أنظمة شوفينية أو عسكرية أو انقلابية أو يمينية رفعت شعارات النهضة والوحدة وفشلت في تحقيق وعودها، أو خاضت معارك لم تكن مستعدة لها وحصدت هزائم لم تكن على مستوى معاركها، فليست هي الحداثة التي هزمت.
أسئلة كثيرة وإشكاليات مختلفة تحتاج للكشف والمناقشة، وتفض ضبابية الموضوع والقراءة في هذه المسألة، التي يكررها ويلح عليها الأصوليون والمتطرفون بمختلف اتجاهاتهم. ومن ثم، يحملون تيار الحداثة والتنوير العربي كل ويلات وأزمات الأمة على اختلافها، من وعد بلفور عام 1917 إلى سقوط خلافة العثمانيين عام 1924 إلى نكبات الصراع العربي الإسرائيلي، وصولا للأزمات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
وسنعرض فيما يلي لبعض القضايا والمسائل التي توضح وتثبت فرضيتنا لفض الاشتباك وتحقيق المناط في هذه المسألة.

في التأريخ الخاطئ للصحوة الإسلامية
يؤرخ - عند الكثيرين - لما يعرف بـ«الصحوة الإسلامية» بأنها انطلقت من شعور النكبات العربية، وخصوصا بعد النكسة والهزيمة أمام العدو الإسرائيلي عام 1967، التي عدت حينها إعلان نعي وفشل للفكرة الناصرية حينها ولوعودها بالوحدة والتحرر العربي.
وصحيح أن كثيرا من تيارات الإسلام السياسي والقتالي الأولى جددت نفسها وحضورها بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967، وتطورت لتنتج أول تنظيمات راديكالية مسلحة قوية أواخر السبعينات تحديدا. لكن يمكن القول إن المجموعات الراديكالية التي نشأت أواخر العقد التالي - السبعينات - كانت مرتبطة بالزخم والتأثر بنجاح الثورة الخمينية الإيرانية، ومنفعلة غضبا باتفاقات السلام مع إسرائيل، فتوحدت مجموعات «الجهاد المصري» في تنظيم واحد عام 1979، إذا استثنينا حركة ك«الشبيبة المغربية» التي أسست منطلق عام 1970 حينها.
لكن كان لنكسة يونيو 1967 تأثيرها الفكري والرمزي أيضًا، حيث مثلت هزة كبيرة لتيارات اليسار وأفكاره التي كانت صاعدة في هذا الوقت في المنطقة كلها. وبدأ التوجه للالتحام بالثقافة السائدة والرهان على الأمة بديلا عن القائد الذي انتكس وفشلت وعوده وتنظيماته في تحقيق النصر. وهكذا تحول كثيرون من المفكرين والكتاب للتوفيق بينهما من جديد والبحث عن الثورة في التراث، كما فعل حسن حنفي أو الطيب تيزيني. واتجه آخرون للتوجه الإسلامي كليةً على مستوى الفكر مثل المحقق الدكتور محمد عمارة والمؤرخ الأستاذ طارق البشري، إلى الراحل محمد جلال كشك، وصولا - وإن تأخر قليلا - للأستاذ عادل حسين وغيرهم، في اتجاه جمع مقولات اليسار العربي والماركسي إلى مقولات التراث الإسلامي والانتماء لهويته ومرجعيته.
ونود أن نشير لتجربة ونكسة عربية أخرى مثلت الفشل تمخّضت أيضًا عن تيارات متطرفة وعنيفة، وهي غزو النظام البعثي للكويت عام 1990 ثم خروجه منها، بتحالف غربي عربي، ما كسر الآيديولوجية القومية الوحدوية ونهجها الاندماجي من جديد - كما يقول برنارد لويس - واستنفر بعد هزيمتها راديكالية معولمة في وجه العالم الذي بدأ يستهدفها، فنشأت تيارات وتنظيمات «القاعدة» ونشأت التنظيمات الأخرى المعولمة بعد هذا التاريخ.
ولكن لا يمكن فصل الأخيرة بالخصوص عن المسار التاريخي قبلها، والذي امتد عقدا من الزمان بين 1979 و1989 من مرحلة «الجهاد الأفغاني» الذي أعطى للعرب الأفغان فيه ثقة على مواجهة الدول الكبرى والقوى العظمى، وتحقيق إماراتهم ودولهم، وأتاح لهم خبرة من الحرب لم تكن لولا هذه المرحلة أن تكون.

تاريخ سابق للأفكار الصحوية
لكن مع التدقيق نرى أن هذا التأريخ للصحوة الإسلامية بنكسة يونيو 1967 أو غيرها، في إشارة لصعود الفكر الإسلامي، وحضوره الاجتماعي والعنيف غير صحيح. ذلك أنه موجود دائما وأبدا، في مسار العصور الحديثة عربيا وإسلاميا، لكنه كان أفرادا حينها، ولم ينتظم في تيارات وتنظيمات منظمة وهيكلية إلا مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، استفادة وتأثرا بفكرة الحزب والتنظيم الحديثة، وتوفيقا مع فكرة الطريقة الصوفية القادم منها حسن البنا المؤسس للجماعة أيضًا. وهذا، خاصة بعد سعي البنا قبل ذلك بعام مع آخرين لإنشاء جمعية الشبان المسلمين عام 1927 التي كانت نخبوية محافظة في بدايتها، ضمت بقايا الحزب الوطني ورجال المجتمع، ولم تكن شعبية، كما كانت ثمة جمعيات دينية أخرى قبلها بسنوات كجمعية أنصار السنة المحمدية عام 1925 والجمعية الشرعية - التي كانت ذات ميل أشعري وشعائري - التي أسست عام 1912.
كذلك إن أي قراءة استقرائية لتفاصيل مرحلة ما قبل إنشاء الإخوان المسلمين، منذ بداية طرح فكر النهضة نفسه، وولادة «الإصلاحية الإسلامية» ممثلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما الذين حافظوا على اتجاههم ولم يغادروه ك«صاحب التمهيد» مصطفى عبد الرازق وشقيقه على عبد الرازق، يستحضر قوة وحضور الاتجاه التقليدي وتأثيره حينها. إذ نجح في حرمان الأخير من عالميته وطرده من هيئة كبار العلماء، وتكفيره ونزع كل شرعية عنه، حتى توقف قلمه عن الإنتاج وكان مسهبا لفترة طويلة. كما خاض التيار نفسه معركة «في الشعر الجاهلي» بعد ذلك بعام مع الدكتور طه حسين، ونجح في فرض ما أراد عليه حينها.. وكذلك مع أمثال قاسم أمين ومنصور فهمي ممن دافعوا عن حقوق المرأة، ومحمود عزمي وإسماعيل مظهر وإسماعيل أدهم والشاعر «الدارويني» العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي الذين دافعوا عن العقل والاستنارة، كما كان يسمى التنوير حينها.
بل كان للأفكار الأصولية حينها منابرها القوية كـ«المنار» للشيخ محمد رشيد رضا، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، إذ تحولت منبرا للدفاع عنها حينها، بعدما كانت منبرا لإصلاحية محمد عبده الذي نشر بها تفسيره. كما كان ينشر بها أمثال قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومجلة «الفتح» صوت جمعية الشباب المسلمين، وغيرها من المنابر.
لكن حتى هذا التاريخ، قبل ظهور تنظيمات دعوات الخلافة، كان تيار الاستنارة واتجاهاته المتنوعة قبل ثورة يوليو (تموز) 1952 موجودا وقويا وفاعلا، ويحدث تأثيراته وينجز منجزاته، ويحقق مكاسب للسياسة وللمجتمع وللمرأة وللدستورية والمواطنة في كل أنحاء المنطقة.

الحداثة العربية وتعليقات مغلوطة
حصرت الحداثة العربية خطأ فيما يسمى «العلمانية العربية» التي ظلت جزئية - بتعابير عبد الوهاب المسيري - لم تقل أبدا بالقطيعة الكلية مع الدين. وهي ليست وحدها الحداثة العربية، التي ولدت من أحضان الإصلاح الديني نفسه ومن جهود أصحاب العمائم شأن رفاعة الطهطاوي والأفغاني وعبده وغيرهم من دراسي العلوم الشرعية في الأصل. وكان سؤالها مؤسساتيًا أكثر منه سؤالا دينيا، أو سؤالا قيميا. وركزت حربها على التقليد وعلى الكراهية وعلى رفض اللحاق بالتقدم الغربي.
لقد كانت قضيتها التقدم في مختلف المجالات، سياسة واقتصادا ومجتمعا وآدابا ولم تكن قضيتها الرئيسة - وإن حضرت - نقد الدين بل نقد الفكر الديني السائد.
أيضًا تحملت الحداثة العربية عبء وفشل ما يسمى الحكومات الثورية التي حكمت في الحواضر التاريخية منذ خمسينات القرن الماضي، في مصر والشام والعراق. وسعت بشرعية من هوية وحدوية واجتماعية اشتراكية لاحتكار السلطة والتركيز على وعود التحرر والاستفادة من التناقضات الدولية في هذا الحين بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)، بعد الحرب العالمية الثانية، فنجحت في تحقيق الاستقلال الأول للوطن، إلا أنها لم تنجح في تحقيق الاستقلال الثاني للمواطن. وانقلبت بدعاوى الحرب والصراع على منجزات الحداثة السابقة على حكمها، في التعددية والحرية والقبول بالآخر والتسامح السياسي والفكري. واستعانت وتحالفت في مرحلتها الأولى في سبيل ذلك بالتيارات الأكثر شعبية، التي كانت تقليدية وتنظيمات إسلامية شأن الإخوان المسلمين في بداية ثورة يوليو 1952 في مصر. وهو ما استمر حتى صدامهما على السلطة في مارس (آذار) 1954، وأخرج الإخوان حينها أول مظاهرات عرفها العالم والتاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب بالآلاف في شوارع القاهرة دعما وتمكينا لمن اصطدموا به فيما بعد.
كذلك من الأخطاء الشائعة في مثل هذه الفرضية أنها تفترض الحداثة تيارا واحدا أو اتجاها واحدا، رغم أنها نسق مفتوح ضم الكثير من التيارات والاتجاهات، حتى لا يُرفض أعداؤها أحيانا، ومن ينحرف ببعض أفكارها. وهكذا أنتجت الحداثة الغربية في القرن العشرين النازية كما خرجت من أزماتها وتموجاتها وانفتاحها اتجاهات متطرفة متعددة ليس آخرهم آلاف المقاتلين في صفوف «داعش»، فهل الحداثة الغربية مسؤولة عن ذلك؟
لا شك لا..
إن القول بفشل الحداثة العربية وكونه سببا للصعود الأصولي والمتطرف يتجاهل كذلك السياقات البنية الفكرية الأصولية المعادية لها والمعادية لكل ما هو غربي في بدايتها، وفي بعض تجلياتها، وفي إلحاحها منذ سقوط خلافة العثمانيين على مسألة الحكم ورفض التشريعات الوضعية. وهذا ما أعاق أطروحات النهضة، وحصر مفكريهم خاصة مع توظيف بعض الأنظمة التسلطية لبعض اتجاهاتها أو الأفراد القريبين منها أحيانا في مواجهته.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.