الشعر في عباءة الطفولة والذكريات

المريخي يحتضنه بخفوت في ديوانه «ما فعلت يدي»

الشعر في عباءة الطفولة والذكريات
TT

الشعر في عباءة الطفولة والذكريات

الشعر في عباءة الطفولة والذكريات

حالات إنسانية، متشابكة ومعقدة، من الشجن والفرح، من الطفولة والأحلام والذكريات، يطرحها الشاعر أحمد المريخي في ديوانه «ما فعلت يدي» الصادر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة.
يخطف الشاعر الشعر خطفا، يكتب وهو يجري ويلهث، وهو يسافر ويرحل، يشاغب الحياة بقصيدة، ويبكيها بأخرى، متأملا سنوات عمره الخمسين، كموجة تضل الشط دائما.. لكن في كل الأحوال الشعر صديقه الحميم، حصانته من الخوف والنسيان، من الجوع والإحساس بلا جدوى الأشياء والحياة.. وكما يقول في الديوان:
«هذه الغيوم ترحلُ إلى مكانٍ
ليس مُهمًّا هذا المكان؛
إنها تتحركُ، ويراها الأطفالُ موجًا
وقد كنت طفلاً أملكُ لونًا، وأرسمُ الأمواج بحرًا
أنا الآنَ خمسون عامًا تنظرُ منّي
فترى الموجَ أكبر مني؛
ما الذي تغيّر؟
أنا لم أضع يدي في الغيوم!».
ومن ثم، تهيمن مناخات الطفولة ونثريات الحياة على قصائد الديوان، ويبدو فعل الكتابة مهموما بمحاولة الإمساك بشيء ما، يفتش عنه الشاعر في فراغات جسده، في أصابعه وكفه وعنقه وذراعيه، ونبض قلبه، وأيضا في فراغات العالم وتداعيات الأشياء من حوله، بتقاطعاتها وتقلباتها الإنسانية المراوغة، اجتماعيا وسياسيا، ونفسيا.. لكن هذا الشيء الغامض الواضح في الداخل والخارج معا، يظل عصيا عن هذا الإمساك بشكل نهائي وتام، إنه دائما يتقلب في بياض العتمة والنور، يراوغ ما بين واقع حي وماض لم يزل يبحث عن حقيقته وظله في القصيدة نفسها، وفي حركة الواقع ودبيبه الشائك الملتبس. إنه محاولة للإمساك بروح الأشياء، في بداهتها وفطريتها الأولى، قبل أن يلوثها العالم بخرافاته السمجة، ويحولها إلى آفة، باسم صناعة التاريخ، والحلم والمستقبل.. تحت هذه المظلة تجيء صرخة الذات الشاعرة مشربة بحالة من شجن الوجع، بحثا عن تصالح، ولو زائفا وهشا، ومؤقتا مع عالم يوسع كل يوم الفجوة بينه وبين الذات الشاعرة.. مثلما يقول الشاعر في هذا النص:
«يا العالم- يا أخي- يا أنا
لقد كنت طيبًا قبل أن تصير مثقفًا،
وكنت مثقفًا وأنت طيبٌ
كنتُ أبكي عندما تهلُّ عليّ،
وأدعو الله أن يرفعني كي أُقبِّلَ بدنك
ما الذي بدَّلك
هل الشرُّ يجب الخير؟
البوصلة تُشيرُ إلى القبر،
الصدر قنبلة.. وكيف أقولها...؛
أحتضنك!».
تتعدد صور العالم في الديوان، لكنها رغم بريقها وصخبها لا تصمد كثيرا في ذاكرة الشاعر، فليس هذا هو العالم الذي يحلم أن يكون، خاليا من القبح والرعب وفوضى الحروب والدماء. لذلك تهرب القصيدة من رعب هذا العالم، لأنها ببساطة شديدة تدرك أن مواجهته بكل هذه الدمامة هدر للوقت والشعر، هي تحب الخسائر الأجمل، المفعمة ببراءة الرعب والضعف الإنساني النبيل. لكن العالم، رغم هذا لا يكف عن مطاردتها، وإغوائها بأقنعة مزيفة، فلا تجد في المقابل سوى السخرية منه، واللعب على حيوات إنسانية بسيطة مهمشة ومنسية، منفلتة من بشاعة هذه الأقنعة.
يطارد الشاعر هذه الحيوات في إسكتشات شعرية نثرية شيقة، تتسلل تحت جدار الهامش المنسي، أو ما يمكن أن أسميه «فائض الرعب»، رعب العالم، وحقيقة المصير الإنساني المؤلمة المعلقة في رقبته وفوق أسواره. فبنبرة من السخرية والفانتازيا، يكتب عن بائع تين شوكي، عن «عامل ملاط»، عن أم تنتظر أطفالها بحرقة، حتى يعودوا من بيوتهم الطينية وأحلامهم الصغيرة، عن عجوز لم يعد يمتلك أي شيء سوى دخان سيجارته الأشيب، عن الفلاحين والعمال المكدودين بعرق الروح والجسد. إنها الحياة في خفوتها الأبعد والأعمق، في رنينها الإنساني الحي، بعيدا عن متاهة الرتوش وكرنفالات الألوان.. يقول الشاعر مجسدا بعض أجواء هذه الفانتازيا في أحد نصوص الديوان:
«في آخر الشارع بيت
البيتُ على النهر،
والسمكُ يدعوه إلى جزيرة تُطلُّ على ماضٍ
يطعنُ الحاضرَ بنصل الألم؛
حيثُ بقي شيءٌ من كلِّ شيء؛
ربما شارعٌ يُفضي إلى بيت،
ربما بيتٌ على نهر،
والسمك يفزُّ إلى لا شيء».
هكذا، نحن أمام لغة احتمالية شفيفة، لا تتسلح بيقين ما، أو تتظاهر به، وتدعي أنها تخفيه لضرورة ما. فالصدق ليس هو أقرب الأشياء إلى الحقيقة دائما، ربما كان الكذب أيضا كذلك. إذن كل شيء محتمل أن يكون أو لا يكون، في تقاطعات حياة مليئة بالتشققات، وفجوات الأضداد، المتناثرة، بلا جسور توحد بينها، وتمنحها إمكانية التعايش في ظل كينونتها الخاصة، وكينونة الآخر المختلف أيضا. فبائع التين له حكمته، حتى لو لم يجن سوى الخسارة في يومه المرهق.. يتبدى هذا في أحد نصوص الديوان على هذا النحو:
«حملَ بائعُ التين ثماره ومضى إلى حيث يبيعُ
لم يشتر الناسُ في ذلك اليوم
عاد بائعُ التين إلى بيته، ومرَّ يوم؛
الثمرُ غالٍ والمواسم غابرة والسوقُ لا ترحم
صارت الأيامُ أشجار عَطبٍ،
كلما نَظَرَها تحسَّر على حديقته؛
كيف تركها نهبًا لبذرة واحدة».
من الأشياء اللافتة فنيا في الديوان، أن تيمة السؤال تلعب على فكرة المغايرة دائما، لا تنتظر إجابة، بقدر ما تسعى إلى أن تظل الحالة والمشهد الشعري مفتوحين بحيوية على شتى الاحتمالات، على حركة الأشياء والعناصر في عيانها الظاهر المباشر، وتعينها الأبعد فيما وراء الحركة والسكون معا. الأمر الذي انعكس على طبيعة اللغة في الديوان، فهي لغة محايدة تعشق منطقة الظل، تنحاز إلى ضعفها وهشاشتها، إلى شفاهية الواقع وإيقاعاته الدارجة، إلى ما فعلت يداها، وفي الوقت نفسه تنفر من صخب الرموز والدلالات وافتعال المفارقة، لاصطياد جاذبية عارضة ومؤقتة. كما أنها لغة لا تنشغل بالمجهول الغامض كلغز في قبضة الميتافيزيقا، وإنما كمرآة ينعكس عليها ويتراءى الواقع في سعيه إلى الحلم بالجمال والحرية والأمان. ومن ثم لا يلوح المجهول كمعجزة عصية عن الفهم، بينما في الواقع معجزات إنسانية، تستحق التأمل والاحتفاء.. مثلما يتبدى في هذا النص الخاطف بالديوان:
«انظروا إليه؛
بلا قدمين ويمشي
بلا ساعدين ويعملُ
بلا عينين ويرى
بلا أذنين ويسمعُ
بلا أنف ويتنفسُ
وبلا شفتين يقول لكم: أنا ظلكم».
وبهذه اللغة المشطوفة في بقعة الظل تتفاعل الذات الشاعرة مع تحولات واقعها الخارجي، ترصد الحر، وتشبهها بالسلحفاة القديمة، توحد بينها وبين فكرة الصياد والفريسة، وكأن الحرب نفسها صائد متنكر يأتي بغتة من الماضي من الحاضر، ومن وراء حائط بليد يكرر نفسه، وسط صرخات الفساد والقمع والطغيان، من أجل الأمل في الحياة.. وهو ما يطالعنا في رمزية شفيفة بأحد النصوص، حيث يقول الشاعر:
«ثقبٌ في الباب
نفسُ التلفاز القديم
نفسُ الفيلم ونفسُ الممثلِ
ورجل يضحكُ كمَنْ مَلَكَ الكونَ
أخبطُ رأسي في الحائط يأتيني الصوتُ:
لا تجزع يا حبيبي؛ هذا حائط
ما أجملَ هذا الحائط
وهذا بحرٌ؛ ما أحلى ماءَ البحرِ
وهذا رأسٌ لا يخشى الحائط؛
سبق له أن شرب البحر».
لقد نأى أحمد المريخي في هذا الديوان عن الصراخ، ليس لأنه يعرف ما فعلت يده، وإنما لأنه يريد لقصيدته أن تتأمل المشهد في صخبه الأبعد، بعيدا عن مشاحنات الواقع الفجة، وعطب الأسئلة المكرورة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!