ترجِّح دوائر شعبية كثيرة أن يعود السودانيون إلى أكل «الكسرة» بعد أن عز الخبز «الرغيف» وغلا سعره وأصبح طعامًا للأثرياء. فإثر الزيادات في أسعار الوقود والكهرباء وتعويم سعر الجنيه، وانعكاس ذلك على الأسعار وعلى «معايش الناس» بشكل عام، أصبح الخيار المتاح أمام الكثيرين هو العودة للخبز الشعبي التقليدي المصنوع من الذرة والدخن، المعروف بـ«الكسرة»، ولعل الاسم مشتق من «كسرة خبز».
فبعد أن كانت الكسرة سيدة المائدة السودانية إلى وقت قريب، تراجعت مكانتها بسبب النزوع نحو خبز القمح الذي تسببت فيه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبت ما يعرف محليًا بـ«أيام البترول السوداني»، الذي هرب جنوبًا بعد انفصال دولة جنوب السودان. وهي طعام أهل الوسط والغرب والجنوب، أما أهل الشمال فطعامهم يصنع من القمح.
يقول الباحث في الأطعمة الشعبية علي طه إن «السودانيين عرفوا صناعة الكسرة منذ تاريخ بعيد كوجبة رئيسية، خصوصًا في المناطق التي تنتج الذرة والدخن في أواسط وجنوب وغرب البلاد، أما الاعتماد على الخبز المصنوع من القمح، فخلا شمال البلاد فهو طارئ على معظم أنحاء السودان.
وتصنع الكسرة من عجين الذرة بعد تخميره، ليطهى على «طاجن» خاص يطلق عليه «الصاج» الذي تنشر عليه العجينة الخفيفة لتنضج في شكل ورقي خفيف، وتعرف الواحدة منها بـ«الطرقة»، ثم ترص بشكل ملفوف و«اللفة» بها أكثر من «طرقة»، وتوضع على صينية دائرية، وتقدم لتؤكل مع أنواع من الإدام الشعبي مثل البامية والملوخية «المفروكة»، فضلاً عن الخضراوات المطبوخة باللحم مثل القرع والبطاطا والكوسا والباذنجان، بل وقد تؤكل بإضافة الماء والزيت والسكر إليها وتعرف بـ«كسرة الموية».
ومن أسمائها: «كسرة الدخن، الرهيفة، الطرقة»، وكان الناس يستخدمون الحطب لصناعتها (عواستها)، لكنهم تحولوا إلى استخدام الفحم، ثم الغاز الطبيعي، وأخيرا دخل الأسواق «صاج الكهرباء». وتبدأ صناعة الكسرة باختيار نوع الذرة الملائم لذوق الأسرة ثم طحنه و«عجنه» وتركه يخمر قليلاً، ثم طهيه (أي عواسته) وترصف شرائح الكسرة بعضها فوق بعض ثم تقدم للناس.
وتستخدم في صناعة الكسرة أدوات شعبية تحمل أسماء محلية، بدأت بالطاجن الفخاري، ثم المعدني، وصولاً للكهربائي، وتحمل كلها اسم «الدوكة»، إضافة إلى الأداة الخاصة بمسح الطاجن المعروفة بـ«التملة»، وهي قطعة قماش تسقى بزيت السمسم، ويضاف لها بعض النخاع الشوكي (الطايوق)، ويقال إنه يسهل انزلاق الكسرة على الطاجن، ويمنع التصاقها به، بينما يُستخدم جريدة النخيل (القرقريبة) في نشر العجين.
وتراجع موقع الكسرة في المائدة السودانية بسبب ارتفاع تكلفة صناعتها، وحل محلها الخبر المصنوع من القمح، كبديل للذرة والدخن التي تصنع منهما الكسرة. لكن على الرغم من زيادة تكلفتها، فإن ارتفاع أسعار الخبز الأخير والزيادات المرتقبة، يتوقع أن تؤدي إلى عودة قوية للكسرة إلى المائدة السودانية من جديد.
بل لم يعد أمر العودة إلى الكسرة خيارًا شعبيًا، فقد بشر وزير المالية السابق المواطنين بالعودة للكسرة، على خلفية زيادات على أسعار الخبز أقرها في عام 2013 أدت إلى احتجاجات سبتمبر (أيلول) الشهيرة، وكان وزير المالية الأسبق علي محمود عبد الرسول قد ذكر في حوار مع «الشرق الأوسط»: «تحدثت إلى الشعب السوداني عن أهمية العودة إلى منتجاتنا المحلية، إلى الذرة والدخن، إلى الكسرة والعواسة».
من جهتها، تقول السيدة ليلى عبد النبي من أنحاء أم درمان، إن العادات الغذائية تغيرت خلال العقدين الماضيين، فبعد أن كان الناس لا يعرفون غير الكسرة طعامًا، تحولوا إلى الخبز (الرغيف)، لكن لأن دوام الحال من المحال، فإنها تتوقع عودة الكسرة مجددًا لتتسيد الموائد مرة أخرى.
ووفقًا للسيدة ناهد محمد، فإن أحد أسباب تراجع الكسرة في المائدة السودانية هي كلفتها الباهظة والجهد الكبير الذي يبذل في صناعتها، لكنها تعود لتقول: «إذا أصبح سعر قطعة الخبز بجنيه، فلا مفر أمام الأسر إلاّ العودة مجددًا للكسرة والعواسة، فهي على الرغم من صعوبة صناعتها وكلفتها، لن تبلغ مرحلة رغيف هزيل بجنيه».
وتوضح السيدة ناهد أن الكسرة في مرحلة من المراحل ارتقت من طعام الفقراء إلى طعام للأغنياء بسبب تكلفتها العالية، وهو الأمر الذي جعل كثيرًا من الأجيال الجديدة لا يعرفونها، لكنهم سيُضطرون للتعرف عليها مجددًا، لأن الخبز ارتفع ثمنه جدًا وخف وزنه كثيرًا.
وتنتشر في أنحاء المدن السودانية نسوة احترفن صناعة الكسرة وبيعها، يعرفن بـ«ستات الكسرة»، ومنهن السيدة حليمة علي، تقول: «الكسرة انتقلت من وجبة شعبية إلى وجبة أثرياء، فبعد كانت الوجبة الأولى في البلاد، أصبح من يستطيعون شراءها هم القلة، وتحولت إلى وجبة يشير حضورها في المائدة إلى المكانة الاجتماعية الرفيعة لمن يقدمونها». وحسب السيدة حليمة فإن بائعات الكسرة اعتدن على اختيار الأحياء الثرية ليعرضن بضاعتهن فيها، لكن بعد غلاء الخبز فإنها تتوقع أن تعود للكسرة مكانتها التي فقدتها، وتضيف: «قد تعود النساء إلى العواسة في البيوت بعد أن كن قد تركنها لنا، ومع هذا فنحن نتوقع لسوقنا المزيد من الازدهار».
وينقل عن فقهاء السودان وشيوخ تحفيظ القرآن أقاويل كثيرة عن الكسرة ودورها في نشر الدين مثل: «الدين دايرلو طحين»، وتعني أن الطعام يلعب دورًا مهما في تثبيت الناس على دينهم، ولعلها تشير إلى المقولة الشعبية الشهيرة «الجوع كافر».
هل يعود السودانيون لتناول «الكسرة» بعد ارتفاع سعر الخبز؟
سعره وهزال وزنه يدفعان الأسر للعودة إلى لأطعمة الشعبية
هل يعود السودانيون لتناول «الكسرة» بعد ارتفاع سعر الخبز؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة