ما زلت أومن بأن الإنسان مقيد جزئيًا بتجربته، كما أن الدول قد تصبح أسيرة فكريًا لماضيها، وهذا شعور إنساني طبيعي. لكني من خلال هذا الباب نبهت مرارًا إلى خطورة محاولات تطبيق مسيرة التاريخ الأوروبي والغربي في كل بقاع العالم على أنها أمر مسلم به في العصر الحديث.
هذا خطأ فادح لا يزال كثيرون من الغربيين يقعون فيه، استنادًا إلى الحقيقة السابقة الذكر. ولقد تابعت المبارزة الفكرية بين مفكرين غربيين يطرحون فيها إمكانية تطبيق ما يعرف بمعاهدة «صلح وستفاليا» - التي وقعت في مدينتي أوزنابروك ومونستر بشمال ألمانيا، عام 1648، وأنهت الحرب الدينية في أوروبا المعروفة باسم «حرب الثلاثين سنة» - على الشرق الأوسط. وأذكر أنني تناولت هذين الحدثين في هذا الباب مرات كثيرة، باعتبارهما أساس مفهوم السيادة الذي بني عليه مفهوم الدولة الأوروبية الحديثة، بعدما خاضت الإمبراطورية الرومانية المقدسة حربًا ضروسًا بين معتنقي المذاهب البروتستانتية من ناحية، وبين البابا (رأس الكنيسة الكاثوليكية) والإمبراطور اللذين حاربا للإبقاء على الطبيعة الكاثوليكية للقارة الأوروبية من ناحية أخرى.
وفي هذا الإطار، نشر مقال في مجلة «نيو ستيتسمان» البريطانية، بعنوان «نهاية حرب الثلاثين سنة»، تطرق لكيف أنه يمكن لـ«صلح وستفاليا» أن يكون نموذجًا عظيمًا للتطبيق على الشرق الأوسط حاليًا، وقد كتبه ثلاثة من المفكرين الغربيين. المفكرون الثلاثة رأوا أن حال الشرق الأوسط اليوم يشابه حال أوروبا خلال القرن السابع عشر، وبدأوا طرحهم بالقول إن «حرب الثلاثين سنة» نشبت بسبب حالة التعصب الديني في أوروبا، وإن ما أشعل فتيلها كان تدخل الدول الخارجية على أساس مذهبي في هذه الحرب، وذهبوا أيضًا إلى القول إن معاهدة «الصلح» لم تخلق مفهوم السيادة المطلقة كما هو شائع، بل ما أسموه «السيادة المشروطة» على أساس وجود ضامنين خارجيين وداخليين للسلام في المناطق التي دارت فيها الحروب بعد إقرار السلام. ومن ثم، استخلص كتّاب المقال أن الشرق الأوسط اليوم في خضم صراع مذهبي، وأن التسوية تحتاج إلى خريطة جديدة، من خلال مؤتمر موسع تشارك فيه كل القوى، على غرار ما حدث في المدينتين الواقعتين بإقليم وستفاليا الألماني، أوزنابروك ومونستر، وذلك لفرض سيادة مشروطة لضمان الوئام الداخلي، وضمان التسامح الديني، باعتباره الأساس السياسي لأي تسوية.
على الفور، رد الكاتب سليم جان على هذا الطرح، من خلال مقال له نشر في مجلة «فورين أفيرز»، بعنوان «لا وستفاليا للشرق الأوسط: لماذا سيفشل هذا الإطار»، وناقش على أساسه فكرة المقال السابق ولفظها، على أساس أن تلك المعاهدة جمعت بين إقرار مفهوم السيادة والمنظومة العلمانية في أوروبا، وهو ما لم يتطرق إليه المقال السابق. وأكد على أن السلام لم يصنع التسامح الديني في الممالك الأوروبية لأن الفصل الديني كان قد حُسم بقوة السلاح خلال الحرب. وبالتالي، فإن التجانس الديني الداخلي كان نتاج وسائل قسرية نجمت عن هجرات واسعة للمذاهب المختلفة من المناطق التي كانت فيها أغلبية مذهبية مناوئة. ثم إن صراع الدول تحوّل من داخل القارة إلى خارجها، عبر ما هو معروف بالحروب الاستعمارية الخارجية.. التي نقلت بؤرة الصراع إلى المستعمرات على حساب الداخل الأوروبي. وبناء عليه، لا ينطبق نموذج «صلح وستفاليا» على الشرق الأوسط.
حقًا، أيًا كانت الحجج المطروحة، سواء المؤيدة لمفهوم انطباق «صلح وستفاليا» على الشرق الأوسط اليوم أو المعارضة له، فإن ما يهمنا إبرازه وجود مجموعة من الحقائق التي تجعل الحوار السابق مجرد رفاهية فكرية مضللة، بالنظر إلى الطبيعة والهيكل المختلف لـ«حرب الثلاثين سنة» عن الشرق الأوسط اليوم. وفي هذا السياق، فإنني أطرح ما يلي:
أولاً: لا خلاف على أن معاهدة «صلح وستفاليا» أنهت صراعًا طائفيًا في أوروبا، فالكيانات البروتستانتية كانت رافضة لفكرة «التزاوج السياسي - الديني» بين مكانتي الإمبراطور الروماني المقدس وبابا الفاتيكان التي ولّدت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» للهيمنة على الحكم الأوروبي، ولكن في الحقيقة إن «حرب الثلاثين سنة» كانت تخفي في طياتها صراعًا سياسيًا عميقًا متأصلاً داخل الإمبراطورية، يتجسد في رغبة الزعماء الإقليميين في الاستقلال عن حكم الإمبراطور، ولقد وجد هؤلاء في التفتت المذهبي وسيلتهم للتخلص من السيطرة المركزية للإمبراطور. وطبعًا، هذا الأمر لا ينطبق أصلاً على الشرق الأوسط اليوم، لا من بعيد ولا من قريب، بل العكس هو الصحيح.
ثانيًا: واتصالاً بما سبق، كانت الكيانات السياسية الداخلية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة تتطلع إلى السيادة. ومن ثم، تولدت عن هذه الحرب اللبنة الأساسية لمفهوم السيادة كما هو متعارف عليه اليوم، وبالتالي فهي كيانات صغيرة كانت تسعى للتوسع السياسي الداخلي بفرض سيادة الحاكم، أي من المقاطعة أو الولاية إلى السيادة أو الدولة أو الدويلة. أما عن الشرق الأوسط، فإنه اليوم يشهد عملية تفتت لمفهوم الدولة ذاته وهياكله، وهكذا تكون هذه الفرضية معاكسة للواقع ولحركة التاريخ في الشرق الأوسط.. وهذا اختلاف حيوي يجعل من القياس على «وستفاليا» عملاً أقرب إلى المهاترة السياسية عن واقع جدلي ذي فائدة.
ثالثًا: يستند المقالان إلى أساس أن وسط أوروبا والإمبراطورية كانا يعانيان من مشكلة اضطهادات دينية، وهو أمر لا خلاف عليه مثبوت تاريخيًا منذ «الحروب الهاسية» إلى «حرب الثلاثين سنة»، مرورًا بحروب «الهوغونوت» في فرنسا بين البروتستانت (الكالفينيين في الأساس) والغالبية الكاثوليكية، إلا أن هذا ليس موجودًا في تركيبة الدول الشرق أوسطية، ذلك أن هذه الدول لم تبحر في الحروب الأهلية لأسباب مذهبية في الأساس، بل لأسباب سياسية أو قُل: عرقية بحتة. وبالتالي، فالدين ليس العنصر الحاكم في هذا الإطار، حتى وإن كانت بعض الفرق السياسية تلبس رداء الدين. ثم إن بعض الديكتاتوريات التي توارت في الشرق الأوسط لم تكن دولها تعاني من اضطهادات مذهبية، بل اضطهادات سياسية وتهميش اجتماعي واقتصادي، حتى مع الاعتراف بوجود بعض التفرقة المذهبية.
رابعًا: إن محاولة تطبيق عناصر «صلح وستفاليا» يمثل في واقع الأمر خروجًا عن نمط التاريخ، إذ لا بد من حماية مفهوم سيادة الدولة باعتبار أن الدولة هي حامية الحقوق الأساسية لشعوبها بكل مذاهبها وقطاعاتها وفئاتها. ومن ثم، فإن السيادة المطلقة للدولة على أسس مقبولة بعقد اجتماعي هي مصدر التسامح والتعايش بين أبناء الدولة الواحدة، حتى وإن اختلفت مذاهبهم، إذ إن مفهوم المواطنة اليوم هو أساس مفهوم التسامح، وهذا المفهوم لا يمكن أن ينبع من دون وطن، والوطن لا يتأسس إلا بالدولة وسلطاتها. أما فكرة «السيادة المشروطة»، فهي في حقيقة الأمر تمثل التحرك بعجلة التاريخ إلى الخلف، سواء لأهداف التفلسف العقيم أو لأهداف سياسية مغرضة.
خامسًا: إن تلميح المقال الأول إلى أن تقسيم الشرق الأوسط جاء لأسباب استعمارية، وأن «خريطة الشرق الأوسط The cartography» يجب أن تأخذ في الاعتبار الاختلافات العرقية والمذهبية بين الدول، على أساس تطبيق نموذج «وستفاليا» إنما يمثل في حقيقة الأمر تلميحًا غير منطقي على أقل وصف، ومحاولة للعودة بعقارب الساعة إلى الخلف، ذلك أن الدول، حتى مع اختلافاتها الحدودية عند استقلالها في القارة الأفريقية على سبيل المثال، طبقت المبدأ القانوني Utis Possidetis، أي «إبقاء الملكية على ما هي عليه»، فيما يتعلق بالحدود حتى بعد الصراعات. ومن ثم، فإن التلميح إلى أن الحدود الحالية للدول غير المطابقة مذهبيًا أو عرقيًا إنما هو سكب للزيت على الحريق ومدعاة للصراع!
واقع الأمر، ومع الاحترام الكامل للاجتهاد الأكاديمي والثقافي والعلمي للتعلم من التجارب الماضية ولأخذ العبر من التاريخ باعتباره مدرسة الحاضر، يجب أن يتواكب القياس السياسي والفكري مع الحاضر، إذا ما كنا نريد إفساح المجال لفكر جديد يضيف ولا ينتقص، ويثًّبت ولا يخلخل. ولكن محاولات البعض للسعي لفرض الأنماط الحتمية المستقاة من تجربتهم، باعتبارها المنارة المطلوب اللجوء إليها، التي نلاحظ نماذج منها في الآونة الأخيرة، تجعل من التاريخ أداة للتسلط الفكري والتمركز الثقافي. وتقديري أن الدراسة الأولى هي مثال لهذا، بينما الثانية تعد مقاومة منقوصة لطرح مشؤوم.
من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ
من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة