«اللا أحد» - «Nobody» - هو اللقب الذي كان يطلق على فرنسوا فيون، هذا السياسي الذي يرجح أن يصبح مساء غد مرشحا عن اليمين والوسط لخوض المنافسة الرئاسية في شهر مايو (أيار) من العام المقبل. فالجولة الثانية (الأخيرة) من الانتخابات التمهيدية لحزب «الجمهوريون» اليميني ومجموعات يمين الوسط ستحصل الأحد بحلول الساعة الثامنة والنصف مساء سيخرج اسم الفائز من صناديق الاقتراع. وهذا الاسم سيكون رئيس الحكومة السابق فيون إلا إذا حصلت «معجزة» ما، وهي صعبة الحصول بالنظر للفرق الشاسع في نتيجة في الدورة الأولى حيث حصل فيون على أكثر من 44 في المائة من أصوات الأربعة ملايين ناخب الذين ذهبوا إلى مكاتب الاقتراع بينما حصل منافسه الأقرب آلان جوبيه على 28 في المائة. أما المرشح الثالث، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان مقدرا له أن يتأهل للمنافسة في الجولة الثانية، فقد خرج من السباق. وهكذا، فإن «اللا أحد» سيصبح غدا حامل لواء اليمين ويرجح بشدة أن يكون في الربيع المقبل الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة.
قبل شهر، لم يكن أحد يتوقع لفرنسوا فيون، الذي رأس الحكومة الفرنسية طيلة عهد الرئيس نيكولا ساركوزي (2007 - 2012)، أن يكون في الموقع الذي يشغله اليوم. الرجل الذي أعلن منذ سنتين ترشحه للفوز بتسمية حزبه للانتخابات الرئاسية كان يكافح لأن يكون الرجل الثالث في المنافسة التي ضمت سبعة مرشحين، من بين هؤلاء رئيس جمهورية سابق (ساركوزي) ورئيس حكومة سابق (آلان جوبيه) كان يصفه الرئيس الأسبق جاك شيراك بـ«الألمع بيننا». يضاف إليهما وزيران طموحان سابقان في حكومة فيون ما زالا في الأربعينات من عمرهما، هما وزير الزراعة برونو لومير، ووزيرة البيئة ناتالي كوسيوسكو موريزيه.
لومير كان يريد أن يكون الرجل الثالث في المنافسة السباعية. أما موريزيه، فقد راهنت على كونها المرأة الوحيدة في المنافسة، وأنها الأقرب إلى الشباب وحاملة راية التحديث والدفاع عن البيئة.
لكن فيون كذب كل استطلاعات الرأي وأخرج ساركوزي من السباق منتقما من سنوات التحقير والإهانة التي ألحقها به الأول خلال سنوات خمس. ولم ينس الفرنسيون أن ساركوزي وصف فيون يومًا بأنه «مساعده»، أي التابع له، وليس رئيس حكومة دولة كبرى تحتل مقعدا دائمًا في مجلس الأمن ولها موقع متقدم داخل الاتحاد الأوروبي ويحتل اقتصادها المرتبة الخامسة في العالم والثانية في أوروبا... ناهيك عن امتلاكها السلاح النووي وسبق أن كان لها إمبراطورية استعمارية في آسيا وأفريقيا وأميركا.
قيل وكتب كثير من التحليلات عن الأسباب التي أخرجت فيون من العتمة إلى الضوء وجعلته اليوم الرجل الذي يتراكض لكسب رضاه غالبية سياسيي اليمين والوسط. وبعدما كانت الوسائل الإعلامية على اختلافها تتجاهله، فهي اليوم تحني ركبتها أمامه، وتؤكد ما كانت تقول عكسه في الأمس القريب.
فمن هذا الرجل الذي يوصف بالكاثوليكي المحافظ على المستوى الاجتماعي والليبرالي على المستوى الاقتصادي كما أنه «صديق» الرئيس الروسي بوتين الذي تدخل «شخصيًا» في الحملة الرئاسية الفرنسية قبل ثلاثة أيام ليشيد به، وكلاهما كان رئيس حكومة ما بين عام 2007 و2012؟
بطاقة شخصية
فرنسوا شارل أرمان فيون ليس جديدا في عالم السياسة. فهذا الرجل الذي تنقل في كثير من المناصب السياسية، كان نائبا ووزيرا ورئيس بلدية ورئيس مجلس محلي ومناطقي وعضو مجلس شيوخ ورئيس حكومة... ولد قبل 62 سنة ونشأ في منطقة السارت بجنوب غربي فرنسا. والده ينتميان إلى البرجوازية المحلية التي تعتنق عادة مبادئ محافظة لن يشذ عنها - على الأرجح - رئيس الجمهورية القادم. ذلك أن السمة البارزة في طبع فيون، وفي برنامجه السياسي الذي يخوض على أساسه الحملة الانتخابية الرئاسية، هي أنه محافظ على المستوى الاجتماعي وليبرالي على المستوى الاقتصادي.
وهذا الرجل الكاثوليكي المتدين يرفع اليوم لواء العائلة. ومع أنه يمتنع عن انتقاد القانون الذي يتيح للنساء الإجهاض، الذي أقر في السبعينات، فإنه يغتنم كل فرصة ليؤكد أنه على «المستوى الشخصي» يرفض الإجهاض، كما أنه عازم على إعادة كتابة بعض فقرات القانون الخاص بإتاحة المجال للمثليين بـ«التبني الكامل» للأطفال.
يقترب فيون في هذه المواقف من مبادئ ومقاربة الكنيسة الكاثوليكية إلى درجة أن خصومه من اليمين واليسار يتهمونه بأنه يقود «ثورة محافظة». وهذه المسألة خاصة، كانت أحد محاور «المنازلة التلفزيونية» مساء الخميس بينه وبين منافسه اليميني آلان جوبيه الذي يقدم نفسه على أنه أكثر ليبرالية على المستوى الاجتماعي وأقل راديكالية على المستوى الاقتصادي. وفي حين يفتخر فيون بمقارنته بمارغريت تاتشر «المرأة الحديدية»، التي حطمت النقابات في بريطانيا وقادت برنامجا اقتصاديا بالغ الليبرالية عن طريق بيع حصص الحكومة في الصناعات والخدمات، فإن جوبيه يريد إصلاحات «ناعمة» لا تزيد من تهميش المهمشين أصلا ولا تنزل العمال والموظفين إلى الشوارع وتعطل الاقتصاد.
وفي أي حال، فإن الاثنين يريدان إصلاح قانون العمل وخفض أعداد الموظفين ورفع سن التقاعد وزيادة ساعات العمل الأسبوعي وإلغاء «ضريبة الثروة» وزيادة رسوم القيمة المضافة، ما يجعل الاثنين يندرجان في الخط السياسي اليميني بدرجات متفاوتة، «معتدلة» بالنسبة لجوبيه، و«راديكالية» بالنسبة لفيون.
رجل متقشف
الصورة الشخصية الرائجة لفرنسوا فيون لدى الجمهور الفرنسي هو أنه رجل «متقشف»، منطو على نفسه، يضبط أعصابه ولا يضحك إلا في المناسبات «الكبرى». وخلال الأشهر الأخيرة، سعى مستشارو فيون إلى تغيير صورته وصقلها. ومن الأمور التي لا يعرفها كثيرون عن فيون أنه رياضي مكتمل يهوى التسلق والرحلات الراجلة في الجبال وهي عادة كسبها منذ أن انضم إلى فرقة الكشافة في منطقته حيث أصبح أحد مسؤوليها وهو في السابعة عشرة من عمره. والأهم من ذلك، أنه يهوى السرعة ويشارك شخصيا في سباقات السيارات التي تجرى سنويا في مدينة لومان الواقعة في دائرته الانتخابية.
عائليًا، تزوج فيون من مواطنة بريطانية هي بينيلوب كلارك، التي التقاها عندما كان طالبًا، وأنجب منها خمسة أولاد... ما يكشف مدى تمسكه بالقيم العائلية والمكان الكبير الذي تحتله العائلة في فلسفته الشخصية والسياسية على السواء. وعلى عكس ساركوزي الذي طلّق مرتين، وجوبيه الذي طلق مرة واحدة، فإن فيون لم يطلق أبدا في حياته.
مع نهاية دراسته الجامعية حيث تخصص - كذلك زوجته المستقبلية - في القانون، كوالديه، حيث كانت والدته أستاذة جامعية ووالده كاتب عدل، سعى فيون للعمل في الميدان الإعلامي. والتحق في فترتين تدريبيتين بوكالة الصحافة الفرنسية «أ.ف.ب» في مدريد ثم في بروكسل. لكنه لم يكمل في هذا الطريق لأن السياسة غلبت ميوله الإعلامية. ومنذ شبابه الأول، كان فيون يكن إعجابا منقطع النظير للجنرال شارل ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة وبطل تحرير فرنسا.
البداية السياسية
في عام 1976 بدأ فيون أولى خطواته السياسية ملتحقا بنائب المنطقة جويل لوتول، الذي ورث عنه لاحقا دائرته الانتخابية بعدما كان قد انضم إلى حزب التجمع من أجل الجمهورية الذي أسسه الرئيس السابق جاك شيراك وأراده «تجسيدا» للديغولية الحديثة. وبعد أن شغل مناصب مختلفة في الدوائر الوزارية، تنقل فيون بداية في مناصب محلية قبل أن ينتخب نائبا عام 1981 - أي عام وصول الاشتراكيين إلى السلطة مع الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران - وبذلك أصبح فيون الذي دخل الجمعية الوطنية في سن السابعة والعشرين من العمر، أصغر نائب في الندوة البرلمانية في تلك الفترة.
كان فيون أحد الوجوه الواعدة في الجمعية الوطنية. وفي السنوات التالية، أعيد انتخابه نائبا من غير انقطاع وتولى رئاسة لجنة الدفاع، حيث أصبح خبيرا في المسائل العسكرية والدفاعية كما انتمى إلى مجموعة من «المجددين» الذين تحلقوا حول الوزير السابق فيليب سيغان. وهذا الأخير كان الشخصية التي تعلق بها فيون بسبب تركيزها على المسائل السيادية وتبينها ما يسمى «الديغولية الاجتماعية» أي سياسة اليميني التي تعير الشأن الاجتماعي أولوية في تناولها السياسة.
وشيئا فشيئا، تجذر وجود فيون في دائرته النيابية وفي مدينة سابليه سور سارت، حيث انتخب رئيسا لبلديتها من غير انقطاع، لا، بل إنه في عام 1988 وفي عام 1993 انتخب نائبا منذ الدورة الأولى. إلا أن صعوده السياسي توقف في عام 1990 عندما وقف بوجه بقاء شيراك رئيسا لحزب التجمع من أجل الجمهورية وبقاء آلان جوبيه أمينا عاما له. ومن ذلك التاريخ، يتواصل التنافس بين الرجلين اللذين تواجها في موضوع التصديق على «معاهدة ماستريخت» التي عارضها سيغان وفيون؛ لأنها تتعارض مع رؤيتهما للاتحاد الأوروبي ولرفضهما العملة الموحدة «اليورو».
العودة إلى الأضواء
لم يعد فيون إلى الواجهة إلا مع وصول اليمين إلى الحكم حين عينه إدوار بالادور، رئيس الحكومة وقتها، وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي. وعند انتخاب شيراك رئيسا للجمهورية عام 1995 وتعيين جوبيه رئيسا للحكومة، اختير فيون وزيرا للإعلام والاتصال رغم وقوفه إلى جانب منافس شيراك على الرئاسة. وأعيد تعيينه وزيرا في حكومة جوبيه الثانية وبقي وزيرا حتى عام 1997. ولاحقا شارك فيون في بلورة برنامج شيراك للانتخابات الرئاسية التي فاز بها للمرة الثانية في عام 2002.
وخلال الحكومتين المتعاقبتين لرئيس الوزراء جان بيار رافاران، شغل فيون مناصب وزراية متعاقبة إذ أصبح وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية حيث ترك قانونا يحمل اسمه، خاصا بتنظيم العمل وتليين قانون الـ35 ساعة (مدة العمل الأسبوعي القانونية) الذي صاغته الحكومة الاشتراكية السابقة. وعمد في عام 2003 إلى طرح مشروع قانون يرفع فيه سن التقاعد. لكنه في العام الذي تلاه أصيب بأول انتكاسة انتخابية.
وعندما عين دومينيك دو فيلبان رئيسا للحكومة، عمد الأخير بالتفاهم مع شيراك إلى إبعاد فيون عن الوزارة، ما خلق عداوة بين الرجلين ودفع فيون للالتحاق بنيكولا ساركوزي، حيث أصبح مديرا لحملته الانتخابية. وفي عام 2007، أصبح ساركوزي رئيسا للجمهورية وسارع إلى تعيين فيون رئيسا للحكومة. وبقي الأخير في منصبه طيلة خمس سنوات من غير انقطاع.
علاقته بساركوزي
على الرغم من طول رئاسة فيون للحكومة، فإنه لم يكن يشعر بالسعادة في عمله بسبب أطباع ساركوزي من جهة، وبسبب ميله للهيمنة على كل أعمال الحكومة وتدخله في كل شاردة وواردة. ومع هزيمته في انتخابات عام 2012، سعى فيون للتحرر من قبضته فحاول الوصول إلى رئاسة حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، الذي تحول لاحقا إلى حزب «الجمهوريون» لكنه فشل في مشروعه. ثم عمد إلى الانتقال من دائرته النيابية التقليدية إلى باريس حيث انتخب نائبا عن الدائرة السابعة التي تتميز ببرجوازيتها.
وشيئا فشيئا، أخذ يبني مشروعه الرئاسي وعمد إلى إعلان ترشحه للفوز بتأييد حزبه رغم وجود ساركوزي على رأسه. وطيلة أشهر لا تنتهي كان فيون الحاضر - الغائب. وخلال الحملة التمهيدية، فشل في فرض نفسه ومشروعه وبقي يجر موقعه خلف ساركوزيه وجوبيه إلى أن كانت مفاجأة الدورة الأولى من الانتخابات التمهيدية التي «سحق» فيها منافسيه الرئيسيين بحصوله على 44 في المائة من الأصوات، وها هو يتأهب لأن يكون المرشح الرسمي لليمين ويمين الوسط، لا بل إنه أصبح على أبواب قصر الإليزيه إلا إذا حصلت مفاجأة ما ليست اليوم في الحسبان.