كانت هذه المرة الأولى التي يجلس فيها العقيد نصر على كنبة بعد خمس سنوات من العذاب. يروي لضيوفه تجربته التي استمرت كل هذا الوقت خلف القضبان والغرف المظلمة والجوع والمرض والموت، مع زملائه وعددهم مائة عسكري جرى القبض عليهم في سرت عقب مقتل معمر القذافي. إنه أحد الضباط الذين نجوا من قصف حلف شمال الأطلسي «الناتو» لرتل القذافي في سرت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2011. وتمكن من الفرار من قبضة تنظيم أنصار الشريعة الموالي لـ«داعش» في بنغازي. ويعيش في الوقت الراهن في ضاحية بالمدينة. ويخشى أقاربه من انتقام الخصوم، وهم كثر، بينما يحاول أبناء المدينة إعادته إلى العمل في الجيش للمساعدة في طرد من تبقى من فلول الدواعش وبسط الاستقرار في بنغازي.
وألقى قادة الانتفاضة المسلحة التي أطاحت بنظام القذافي، بمعاونة من الناتو، القبض على عدة ألوف من أنصار النظام السابق بينهم رئيس الوزراء البغدادي المحمودي ورئيس المخابرات عبد الله السنوسي، ورئيس الأمن الخارجي بوزيد دوردة، واثنان من أبناء القذافي بالإضافة إلى مجاميع من العسكريين ورجال الأمن وفئات من الطبقة الوسطى من المسؤولين. وهؤلاء اختفوا في الظلام منذ ذلك الوقت، إما خلف قضبان سجون الميليشيات وإما فروا إلى الخارج وابتعدوا عن الأضواء.
فبعد أن ركز الناتو ضرباته بالصواريخ وقنابل الطائرات على طرابلس ترك القذافي في أغسطس (آب) من تلك السنة العاصمة وتوجه للإقامة في سرت في محاولة يائسة للدفاع عن دولته المنهارة. كان العقيد نصر ضمن مجموعة العسكريين التي تولت الدفاع عن آخر الحصون. وبعد مقتل القذافي وعدد من رجاله ألقى المسلحون الذين كانوا يحاصرون سرت القبض على من نجا من الموت. ومطاردة الفارين في الداخل والخارج.
ومثلما جرى نقل جثامين القذافي وأحد أبنائه ووزير دفاعه من سرت إلى بلدة مصراتة التي ينتمي إليها معظم المقاتلين جرى أيضا نقل الأسرى والمعتقلين والجرحى. لكن العقيد نصر ظل محبوسا وحده في غرفة في أحد سجون مصراتة لمدة تزيد على تسعة أشهر. يأكل ويشرب لكنه مثل طير في قفص. وبعد ذلك بدأت رحلة جديدة من العذاب لم تنته إلا بعد أن فر قبل عدة أسابيع من بين أيدي الدواعش في غرب بنغازي وعاد إلى المناطق الآمنة التي أصبحت تحت سيطرة الجيش في المدينة نفسها.
وروى مسؤول أمني في بنغازي تفاصيل رحلة العقيد نصر لـ«الشرق الأوسط»، قائلا إن عددا آخر من أبناء القوات المسلحة، ممن وضعتهم الظروف في مرافقة القذافي والدفاع عنه، نفذوا بعد سنوات من الأسر عمليات هروب من سجانيهم التابعين لميليشيات منفلتة. وتعرض عدد من هؤلاء للقتل أثناء محاولة الفرار في الشهور الأخيرة، حيث تستعر الحرب بين الميليشيات وبعضها البعض في غرب البلاد وبين بقايا الميليشيات والجيش في المنطقة الشرقية. ويقول إن مساجين في سجون في طرابلس ومصراتة يتعرضون للتعذيب ويحرمون من أبسط الحقوق، ويرزحون في مواقع احتجاز غير قانونية، رغم صدور قرار بالعفو العام عنهم من البرلمان الشرعي الذي انتخبه الليبيون ويعقد جلساته في طبرق.
كان العقيد نصر موجودا مع القذافي في معمعة معارك 2011 في سرت. وكان ضمن رتل القذافي الذي جرى قصفه وهو يحاول الخروج من المدينة. قضي الأمر. الموت أخذ من أخذ وترك من ترك. حققوا معه في مصراتة ولم يجدوا عليه أي مؤاخذة لكنه بقي في السجن ثمانية شهور.. بالتحديد حتى شهر يوليو (تموز) 2012. حينذاك جرى استبداله بضابط من مصراتة كان محتجزا في بنغازي. جرى تسليمه للجيش الذي لم تكن ملامحه قد تحددت بعد. هل سيكون جيشا بالمعنى المتعارف عليه، أم ستحل محله التنظيمات المتطرفة. كانت الانتفاضة المسلحة تطلق على نفسها «ثورة» وعناصرها من كل المشارب يطلقون على أنفسهم «الثوار».
حين نقل لبنغازي شعر بارتياح رغم أن أمور الحكم في المدينة لم تظهر حدودها بعد. بنغازي أثيرة إلى قلبه.. ولو كان العقيد نصر قد خرج إلى شوارعها في تلك الظروف فربما كان قد تعرض للأذى. أناس ماتوا وتعرضوا للغدر ولتصفيات جسدية بحجة أنهم ينتمون للنظام السابق. كان من الممكن أن ينتهي مع من انتهوا في العمليات التفجيرية خصوصا أنه من المعروفين. فقد كان من المسؤولين في عهد القذافي وعمل بالقرب منه ودافع عنه في أيامه الأخيرة. لكن بنغازي اشتعلت فيها النار سريعا.. نار حرب جديدة لفرض السيطرة.. يشنها متطرفون أخذوا وقتها يتمددون وينتشرون في المدينة مثل الجراد. حرب ضد كل ما تبقى من معسكرات الجيش ومقرات وزارة الداخلية بما فيها مديرية الأمن.
حين نقل في عملية التبادل إلى بنغازي جرى وضعه في سجن تابع لمعسكر «17 فبراير» الذي كان يديره «الثوار» في الضاحية الجنوبية الغربية من المدينة. كان اسم هذا المعسكر في العهد السابق «معسكر السابع من أبريل».. ثم جرى نقله إلى سجن الشرطة العسكرية في منطقة «أبو هديمة» في قلب بنغازي. وهناك وجد نحو مائة من زملائه وأغلبيتهم من العسكريين. مكث في هذا السجن نحو سنتين، حيث كانت المدينة ما زالت تحت سلطة المتطرفين، وكانت التفجيرات لقتل رجال الجيش والشرطة داخل بنغازي تجري بوتيرة سريعة لدرجة أنه سقط ما لا يقل عن 500 في سنة واحدة. وهنا بدأ تحرك المشير خليفة حفتر الذي تمكن من تنظيم صفوف الجيش للدفاع عن رجاله من خطر المتطرفين ثم محاربتهم. شعر المتطرفون بأن الجيش قادم، فزادت في نظرهم قيمة من لديهم من سجناء عسكريين حتى لو كانوا من رجال النظام السابق. ولم يكن أي من المساجين يعلم ماذا يدور في الخارج من تطورات بالضبط.
لا محاكمة ولا تهم واضحة ولا شيء. مجرد سجن بلا نهاية. وبدأ تنفيذ عملية إضراب عن الطعام. لكن قلوب السجانين ظهر أنها كانت غليظة أكثر مما ينبغي. فزاد المساجين من الضغط حين قاموا بتمرد محاولين تحطيم الأبواب من الداخل.. تمكنوا من الوصول إلى الباب الرئيسي الذي يؤدي إلى ساحة السجن، لكن وجدوا الحرس أمامهم حيث استخدم قوة السلاح لإعادتهم للعنابر. وطوال المدة المتبقية في هذا السجن، كان يجري تبديل المحبوسين داخل العنبر الواحد يوما بعد يوم. كان الهدف كما يبدو عدم تمكين السجناء من رسم أي خطط مكتملة للهروب أو العصيان.
وفي صيف العام الماضي حين بدأ الجيش يتحرك بأوامر حفتر من الرجمة التي تبعد نحو 30 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من بنغازي، ويتقدم صوب المدينة، تقهقر المتطرفون ومن معهم من سجناء إلى الخلف. كان عدد المقبوض عليهم من زملاء العقيد نصر في سرت مائة عسكري. انتقلوا بهم إلى مزرعة وزير الدفاع الذي قتل مع القذافي في سرت، اللواء أبو بكر يونس، وهي مزرعة تقع في منطقة الليثي ببنغازي. ووجد العقيد نصر ومن معه أن هناك 25 شخصا آخرين محبوسين في المزرعة ممن جرى القبض عليهم داخل بنغازي بتهمة عملهم تحت إمرة حفتر. تتكون مزرعة يونس من فناء كبير فيه أشجار وخزانات مياه وجراجات. كما يوجد في داخل فيلته ثلاجات وأثاث جيد. لكن المساجين الـ125 جرى حشرهم في عدد من الغرف المهملة. بينما تمركز المتطرفون الذين كانوا يلقبون بـ«الأنصار (نسبة إلى اسم التنظيم)» في ذلك الوقت، داخل الغرف المجهزة في الفيللا.
وحين بدأت طلائع الجيش تصل إلى ضاحية الليثي نفسها وتقترب من مزرعة اللواء يونس قرر المتطرفون الانتقال بمن معهم من المساجين الـ125. في رتل من السيارات، إلى منطقة القوارشة في جنوب غربي المدينة. نحو 30 سيارة فيها عناصر أنصار الشريعة، أما المساجين فكانوا في خمس سيارات ضمن الرتل. الخروج من فيللا أبو بكر يونس كان في وقت ما بعد العصر.. حين بدأ النهار يلملم أطرافه. في تلك اللحظة كان مقررا أن يقوم سلاح الجو التابع للجيش بقصف الرتل بالطائرات. المعلومات كانت تقول إن الدواعش وأنصار الشريعة يتحركون إلى منطقة أبو هديمة.. إلى أن اكتشف سلاح الجو من مصادره وجود مساجين داخل الرتل، فتراجع عن تنفيذ الضربة.
وفي أبو هديمة جرى حشو كل هؤلاء المساجين في بيت صغير لمدة أربعة أيام. ثم قامت عناصر التنظيم بنقلهم إلى بيت كبير وجديد في منطقة قنفودة المجاورة والأكثر تحصينا على أيدي المتطرفين من الضواحي الأخرى. مكث فيها العقيد نصر ومن معه سبعة شهور إلى أن فر بأعجوبة.
سجن قنفودة كان عبارة عن فيللا بفناء كبير تقع وسط مجموعة من الفيلات التي تحيط بها الأشجار من كل جانب. هذه المنطقة ما زالت تشهد معارك شديدة بين المتطرفين وقوات الجيش. ولم يدخل المشاة أو قوات الصاعقة بعد بسبب كثرة الألغام والقناصة. ويجري ضرب مواقع المتطرفين بالطائرات. وفي لحظة معينة.. وبعد المعاناة من الجوع ومن أكل الأرز المسلوق في الزيت، ومن موت المرضى بأمراضهم لعدم وجود علاج ولا طبيب، جاءت فكرة الهروب في رأس العقيد نصر من هذا السجن، رغم أن الحراس الملثمين والمدججين بالأسلحة، يحيطون به من كل جانب. هم شبان صغار.. أولاد لا يزيد عمر الواحد منهم على 18 أو 19 سنة.. مقنعون وخائفون ومرتبكون وعلى استعداد لإطلاق الرصاص مع أي هفوة.
جاءت فكرة الهروب حين تعرضت الفيللا لأول غارة من طيران قوات الجو التابعة للجيش الوطني. كان السجناء موزعين على الغرف.. الغرفة التي فيها العقيد نصر تضم 37 رجلا. والغرفة التي أمامها فيها 34 رجلا والغرفة المجاورة فيها مجموعة من العسكريين الآخرين الذين كان قد تم القبض عليهم من إحدى كتائب الجفرة. كانوا نحو 18 رجلا. أما كبار السن، ومنهم آمر عسكري كبير يدعى عمر ومسؤول مهم من عهد القذافي يدعى موسى، فكانوا في غرفة منفصلة في الداخل. هذا بالإضافة إلى عزل الـ25 سجينا الآخرين في مكان منعزل في الفيللا.
لكن العقيد نصر لم يخبر أحدا وهو يدرس الوضع ويتحين الفرصة المناسبة لبدء رحلة الفرار. كانت ضربة الطائرة غير مباشرة أدت لهدم جانب من السور الذي يحيط بالجراجات، ويبعد عن السور الذي يحيط بجسم الفيللا بنحو عشرين مترا. كان أحد جراجات الفيللا مخزن ذخيرة. وتصادف أنه قبل يوم من الضربة الجوية الأولى كان المتطرفون قد استهلكوا كل الذخيرة التي في الجراج، وإلا لحدثت كارثة وتفجرت الفيللا بمن فيها من سجناء. ولم تخلف الغارة أي قتلى أو جرحى من المساجين الـ125.
وبدأت الأمور تزداد سوءا. الطعام يقل يوما بعد يوم.. من يصب بمرض يظل يعاني حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي زملائه المساجين. فيأخذ عدة سجانين جثته ويخفونها في مكان بعيد ويعودون. ومنذ وصل العقيد نصر ومن معه إلى هنا لم يخرجوا للشمس. حين تدخل الشمس من النافذة إلى الغرفة التي يوجد فيها مع الـ37 رجلا، يبدأون في تبادل الجلوس في بقعة الشمس لعدة دقائق.. تتحرك الشمس ويتحركون معها في الغرفة. لم يكن لديهم إلا هذه البقعة. ومن يحين دوره يخلع قميصه ويجلس في بقعة الشمس لكي تلامس حرارتها جلده.
عقب الدمار الذي أحدثته الغارة وانخلاع أبواب عدة جراجات أصبحت الحراسة أكثر تشددا. يدخلون على المساجين وهم يشهرون أسلحتهم. استبدلوا جانبا مهدما من السور بستارة من القماش، وقالوا اعتبروا هذا بابا حديديا من يقترب منه سنطلق عليه الرصاص. يقول الواحد منهم وكأنه يلتمس العذر لنفسه نحن نعاملكم بما يرضي وجه الله.. يتحدثون بلهجة أهل بنغازي. ولم يزيلوا الأقنعة عن وجوههم أبدا. كانوا صريحين. قالوا للمساجين إن مصيرنا ارتبط بمصيركم.. حياتنا وحياتكم واحدة.. وبالنسبة للأكل والشرب نقدم لكن أحسن ما عندنا. إذا وجدنا دواء نعطيكم وإذا لم نجد فلا تلوموا علينا. نحن لسنا دولة ولا يوجد إفراج أو ما إفراج أو محكمة أو ما محكمة. لا تقولوا لنا نريد نيابة. ليس لدينا مثل هذه الأمور.
لم يسأل السجانون المساجين عن قضاياهم ولا كيف سيكون مستقبلهم. مجرد كومة لحم يتنقلون بها من مكان إلى مكان لاتقاء ضربات الطيران وضربات الجيش. ورأى العقيد نصر ومن معه أنه ليس أمام أي منهم، في مثل هذه الظروف، غير أن يسلم الأمر لله. ومع ذلك استمر يقلب مسألة الهروب في رأسه. وتذكر أنه حين تعرض الموقع للغارة الجوية، اختفى المسلحون عن المكان نحو ثلاثين دقيقة. وفكر أنه لو جاءت غارة أخرى فلن يترك الفرصة. وهذا ما حدث.
بعد الغارة الأولى بنحو 28 يوما، دوى انفجار الغار الثانية.. كان العقيد نصر في هذه اللحظة يصلي المغرب مع زملائه المساجين في الغرفة. في الركعة الأولى وبين السجدة والسجدة، جاءت الضربة. كانت قوية وقريبة من الفناء. وطارت سلالم الفيللا وضرت الواجهة وحطمتها. تحولت الغرف إلى فوضى. واشتعل حريق.. بدأ المساجين يخرجون إلى الفناء ويعودون في حالة من الارتباك. كانت النيران تزداد وتفصل العقيد نصر عن باقي زملائه.. نظر إلى الحراس فوجد أربعة منهم قد سقطوا على الأرض قتلى.. وهناك آمر السجن ومساعده كل منهما ملقى على الأرض.. مكوم وغارق في دمائه.
عبر العقيد نصر من فتحة صغيرة خلفتها الغارة بين جدران غرفته. ورأى مكان انفجار الصاروخ الذي قذفت به الطائرة. حفرة في الفناء في اتساع غرفة. بدأ يتحرك بعيدا عن الفيللا بينما كانت طائرة أخرى تحوم في السماء لضربة جديدة. وبدأ يسمع صوتا يطالبه بالانتظار فقال إنه سيتوقف.. كان صوت الطائرة يقترب. وفجأة دوى انفجار صاروخ آخر سقط في الشارع الموجود أمام الفيللا وغطا الطريق بالتراب وصنع مع أجواء ما بعد المغرب ساترا تصعب الرؤية من خلفه. فأخذ يجري. ووجد مسجونا من زملائه يجري معه.. اسمه جمعة. لكن الصوت عاد مجددا يطالبهما من وراء سحابة الغبار والظلام بالتوقف. ثم بدأ في إطلاق النار. خمس طلقات وراء بعضها. كل طلقة تمر من جوار العقيد نصر وصاحبه وهو يرى مقذوفها يخترق الغبار وله ذيل من النار.
واجتاز الرجل عدة فيلات مهجورة وهو ينزف من فخذه وقدمه. لقد أصيب من شظايا الانفجار. ولا يعرف أين هو بالتحديد وما إذا كان سيجد مسلحي أنصار الشريعة أمامه أم خلفه. أما جمعة فكان قد اختفى. إما أنه أصيب وسقط على الأرض وتسلمه الحراس. أو أنه سلم نفسه خوفا من الرصاص. ووفقا للمصدر الأمني ما زال جمعة على قيد الحياة لكن غير معروف مكان احتجازه لدى التنظيم المتطرف بالتحديد. وبدأ العقيد نصر يلتقط أنفاسه ويستكشف معالم المنطقة.. الكهرباء مقطوعة والمباني مهدمة ومحترقة وشاحنات مهمشة من القذائف الحربية على جانبي الطريق.
وسمع صوت سيارة قادمة من بعيد وهي مطفأة الأضواء فالتصق بعامود على جانب الطريق إلى أن مرت. كانت تابعة لتنظيم أنصار الشريعة. وظل يتلمس الليل حتى تناهى إلى أذنيه صوت أمواج البحر. فتوجه إليه.. هنا بحر بنغازي. وهناك في البعيد أضواء المدينة. مزق قطعا من قميصه وربط جروحه ليوقف النزيف. وأخذ يسير حتى وجد أكواما من الرمال. صعد أعلاها فرأى البحر. كان يخشى من المشي على الرمال الجافة خوفا من أن يكون هناك ألغام مزروعة فيها. قال لنفسه إنه لا حل غير أن يمشي بجوار خط المياه.. مشى من نحو الساعة السابعة مساء حتى ما بعد الثانية صباحا. وحين دخل المدينة كان يختبئ خلف الزوايا ووراء السيارات المركونة خوفا من أن يراه أحد المارة فيظن أنه من تنظيم داعش. ويضيف المسؤول الأمني أن العقيد نصر، وبصفته رجلا عسكريا، كان يخشى أيضا من أن يراه رجل أمن أرعن فيخاف من هيئته التي تشبه هيئة المتطرفين ويبادر بإطلاق النار عليه.
قطع نحو 27 كيلومترا على الرمال المبلولة الرخوة، وعلى الأرصفة، إلى أن وصل إلى بيت أحد أقاربه في منطقة الفويهات في قلب المدينة. لم يتعرفوا عليه إلا بصعوبة. خمس سنوات وهو غائب في المجهول. وحين ظهر كان ذا شكل غريب رجلا نحيفا طويل اللحية كثيف الشعر وملابسه متسخة وملوثة بالدماء.
ويقول المسؤول الأمني إن هناك أعدادا كبيرة من المسجونين العسكريين منذ عام 2011 حتى يومنا هذا في سجون الميليشيات في كل من بنغازي ومصراتة وطرابلس، مشيرا إلى أن غالبية القيادات الكبيرة مثل السنوسي والمحمودي ودوردة، موجودون في سجن الهضبة في العاصمة. أما غالبية من نجحوا في الفرار من سجون الميليشيات أو الخروج في عملية استبدال مع محتجزين آخرين فقد فضلوا الحياة بعيدا عن الأضواء، فيما عدا بعض الاستثناءات فهناك من عاد من الضابط للعمل في صفوف الجيش ومحاربة المتطرفين، وهناك من يلعب دورا لإنقاذ باقي المساجين الذين يقدر عددهم بالآلاف.
ومن بين من خرجوا لهذا الغرض، محمد الزوي، أمين المؤتمر الشعبي العام (البرلمان في عهد القذافي)، والذي جرى إطلاقه من سجن الهضبة قبل ثلاثة أشهر للتفاوض بين سجاني سجن الهضبة وأنصار النظام السابق الموجود أغلبهم في مصر. ويضيف المسؤول الأمني إن قوات الجيش حين اقتحمت فيللا اللواء يونس، في فبراير الماضي، والتي كان العقيد نصر أحد المساجين فيها، عثرت على عشرات الجثث والأشلاء في مزرعة الفيللا تركها تنظيم أنصار الشريعة حين انسحب على عجل خوفا من تقدم الجيش.
وكشف عن أن مراجعة من راحوا ضحية الانتقام بعد سقوط النظام السابق يحتاج إلى تحقيقات موسعة لكن هذا لن يتحقق إلا بعد عودة الدولة، مشيرا إلى وجود مبادرات قبلية تجري بعيدا عن الأضواء للإفراج عن سجناء محتجزين منذ عام 2011 ليس لشيء إلا لأنهم كانوا يؤدون عملهم في الجيش والشرطة. ويقول إن مثل هذه المفاوضات تنجح أحيانا في المناطق شبه المستقرة، لكنها لا تشمل المساجين الذين وقعوا بين أيدي التنظيمات المتطرفة التي أصبحت تتخذهم كدروع بشرية لمنع الجيش من تحرير المناطق التي يتحصنون فيها خصوصا في بنغازي.