خيارات ترامب

يواجه تحديات صعبة بسياسات غامضة.. وألحق أميركا بمعسكر «الفوضويين والقوميين»

خيارات ترامب
TT

خيارات ترامب

خيارات ترامب

على الرغم من مرور أيام على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن «الزلزال السياسي» الذي صنعه الحدث لا يزال قويًا، وتداعياته تتفاعل داخل الولايات المتحدة وخارجها.
تعهد ترامب في خطاب الفوز بتوحيد الأميركيين ووعد بتجنب الصراعات مع العالم، ثم التقى في اليوم التالي الرئيس باراك أوباما مدشنًا المرحلة الانتقالية بكلام دبلوماسي «جديد»، لكن كل ذلك لم يمنع الأميركيين من الاستمرار في الخروج إلى الشوارع مرددين أن الرئيس المنتخب «لا يمثلني». وعلى غرار هذه المخاوف الداخلية، فإن القلق الدولي إزاء السياسات المحتمل انتهاجها من قبل ترامب لم يخمد. ويجمع كثير من المتابعين للشأن السياسي في الغرب، على أن ترامب، بفوزه بالرئاسة بعد حملة مثيرة للجدل تضمنت أفكارًا غريبة عن القيم الديمقراطية المألوفة، قد ألحق بلاده بمعسكر بلدان أوروبية أخرى تعرف أصوات «الفوضويين» و«القوميين» فيها تصاعدًا لافتًا، بما فيها بريطانيا التي صوتت العام الحالي لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت تأثير الأفكار الفوضوية والقومية.
يحذر محللون من تحد أكبر يواجهه ترامب عندما يبدأ فترته الرئاسية في يناير (كانون الثاني) المقبل، هو كيفية حكم بلد مقسم إلى حد غير مسبوق بفعل الانتخابات الرئاسية. وقالت كسينيا ويكيت مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين بمعهد «تشاتهام هاوس» في لندن، إن ترامب «فاز بالرئاسة في بلد مقسم وبعملية اقتراعية مثيرة للارتياب، مما يجعل من الصعب عليه جدًا أن يحكم بفعالية». وتضيف إن ترامب «سيرث، عندما يبدأ الحكم في 20 يناير، عبئًا ثقيلاً، والتحديات المتشعبة التي ستواجهه سيكون من الصعب تجاوزها». وترى ويكيت أن ترامب سيكون «الآن مطالبًا باختيار طريقه؛ إما الحفاظ على رؤيته بعزل (خصومه) وحكم أقل من نصف المجتمع بقليل، أو محاولة ردم الهوة ويحكم الجميع».
وأمام هذا الوضع الداخلي الصعب، ربما يجد ترامب من الأنسب المضي قدمًا في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أميركا تأتي أولاً»، وكان وجَّه عبره، فيما يبدو، رسالة إلى الخارج. وفي حال مضي ترامب في هذا الطريق (أميركا أولاً) فإن سياسته ستعصف بكثير من العواصم الأجنبية، بما فيها الدول الحليفة تقليديًا لواشنطن. من الصعب في الوقت الراهن، التكهن بملامح السياسة الخارجية لترامب، بالنظر لافتقاره للخبرة الكافية في هذا المجال. ولكن الرهان الأرجح الآن أنه حال توليه الرئاسة سوف يسعى للالتزام بما وعد به خلال حملته الرئاسية من التغيير الجذري في منهج الولايات المتحدة الحالي إزاء كل من روسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا.
ويقول الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس في هذا الصدد، إن «الصورة التي أخذها كبار المسؤولين في أكثر من 12 بلدًا تشي بأن ترامب رجل عديم الخبرة وغير موثوق فيه، وقد يندفع إلى تقويض التزامات وتحالفات الولايات المتحدة التقليدية». ويضيف إغناتيوس: «السياسة الخارجية لترامب، استنادا إلى تصريحاته المعلنة، سوف تجلب التركيز المكثف الواقعي على المصالح الوطنية الأميركية والرفض التام للتفاعلات الأميركية الخارجية المكلفة».
من خلال التصريحات التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية، يرجح خبراء كثيرون توجهه لانتهاج سياسة خارجية مختلفة عن إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وكل الأنظار الآن مركزة على ما سيقوم به الرئيس الأميركي إزاء الاتفاق النووي الذي أبرمه المجتمع الدولي مع إيران، علما بأن ترامب كان قد وعد في خطاب له أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية في مارس (آذار) الماضي، بأن أولويته الرئيسية ستكون «تفكيك الاتفاق الكارثي مع إيران»، إلا أن ذلك التهديد يتعارض مع تصريح آخر له قال فيه إن من الصعب تمزيق الاتفاق النووي من دون مساعدة أوروبية.
ويعتقد على نطاق واسع أن من التداعيات الكبرى لوصول ترامب إلى البيت الأبيض تغير السياسة الأميركية تجاه قضايا النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها الآن الأزمة السورية. وكان ترامب قد ركز مرارًا على أن أولويته في هذا النزاع هو دحر تنظيم داعش، بما أوحى أن المضي في مسارات دبلوماسية وعسكرية لإنهاء الأزمة عبر مرحلة انتقالية تقود لتنحي الأسد، لن يكون من أولوياته. وتتقاطع رؤية ترامب لوضع محاربة «داعش» أولوية، مع تصريحاته بخصوص تحسين علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، وهو أمر يلاقي قلقًا واسعًا لدى قادة أوروبا.
وإضافة إلى هذه التوجهات الجديدة، يتوقع الخبراء، بروز نزعة «انعزالية» لدى إدارة ترامب المرتقبة وربما تخليها عن التزاماتها مع حلفائها في الغرب. ويقول فابيان زوليغ من «مركز السياسة الأوروبية»، وهو معهد أبحاث في بروكسل، إن «إدارة ترامب ستعزز النزعات الانعزالية في الولايات المتحدة»، لافتًا إلى تراجع قوة واشنطن أصلا بسبب المنافسة من دول ناشئة على غرار الصين. ودليلاً على الصدمة، أدى الإعلان عن فوز ترامب، إلى سلسلة من ردود الفعل السريعة في أوروبا ضمنها تصريحات لرئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك الذي قال، من باب التمني فيما يبدو، إن واشنطن «ليس لديها بكل بساطة أي خيار آخر» سوى مواصلة التعاون بشكل وثيق مع أوروبا. وأضاف توسك وهو رئيس وزراء بولندي سابق: «لا أعتقد أن بإمكان أي بلد يزعم بأنه قوي البقاء معزولاً».
لكن كلام توسك لم يُخفِ وجود قلق إزاء التزامات إدارة ترامب المرتقبة بأمن أوروبا وربما حتى بالتزاماتها مع حلف شمال الأطلسي. ووسط هذا الغموض، يفضل البعض في الاتحاد الأوروبي (بينهم 22 من 28 دولة في الأطلسي) أن يرى فرصة للمضي قدما في النقاش الدائر حول أمن أوروبي أكثر استقلالية في مجال الدفاع والأمن. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الأربعاء، إن «الولايات المتحدة لن تتولى الاهتمام بأمننا، إنها مسؤولية أوروبا. نحن بحاجة إلى اتحاد أمني». وتعد برلين إحدى العواصم التي تجري نقاشًا بهذا الصدد مع باريس وروما ومدريد. ويشارك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في هذا الرأي بوضوح، إذ قال أمس: «من المهم جدًا أن يكون الأوروبيون، في هذه الظروف الجديدة، واضحين في الرغبة للعمل معًا» وخصوصا من أجل السيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب. وبدوره، قال دبلوماسي أوروبي، إن النتيجة المفاجئة للانتخابات الأميركية من شأنها أن تعمل على تطوير موقف الأكثر ترددا، في شرق أوروبا، حيال فكرة الدفاع الأوروبي.
ومن الأمور المقلقة حقًا لبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم ما هدد به ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم الدفاع عن هذه الدول الحليفة بشكل تلقائي. وتبدو دول البلطيق في مقدمة هذه الدول التي ينتابها القلق في حال تعرضت لهجوم روسي على غرار الضم الروسي لمنطقة القرم (غير البعيدة عنها) قبل عامين. وكان ترامب قد قال في تصريحات لصحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو (تموز) الماضي إنه لن يكون ملزمًا في حال وصل إلى الرئاسة بمساعدة ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلا إذا قدمت إسهامات مالية كافية لحلف شمال الأطلسي. وهدد ترامب أيضًا، بإغلاق كثير من القواعد العسكرية غير الضرورية، قائلاً إنه يطالب الدول التي تحتضن قواعد عسكرية أميركية أن تدفع أموالا مقابل حمايتها، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. كما وعد ترامب بخفض الالتزام الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وقال إنه سيطلب من الأوروبيين مضاعفة مساهماتهم في ميزانية الأطلسي.
ويبدي ترامب، من خلال تصريحاته خلال الحملة، سياسة عدوانية تجاه الصين، فهو يعتقد أن الصين هي عدو الولايات المتحدة الأول، وتسلب منها مليارات الدولارات وليس روسيا. كما أنه يطالب الصين بوضع حد لتهور الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بحكم الروابط القوية بين بكين وبيونغ يانغ.
وتبقى رؤية ترامب لمنظمة الأمم المتحدة، في صلب المخاوف الدولية من سياسات جديدة سيقدم عليها الساكن الجديد في البيت الأبيض، ويهدد بها النظام الدولي الحالي. وكان ترامب قد وصف، خلال كلمته الشهيرة في مارس الماضي، الأمم المتحدة، بأنها هيئة ضعيفة لا تتمتع بالكفاءة، واعتبر أن هذه المنظمة «ليست صديقة للديمقراطية ولا للحرية ولا حتى للولايات المتحدة الأميركية». وهدد حينها بالانسحاب من الاتفاق الدولي لمكافحة تغير المناخ، وهو حجر زاوية في إنجازات الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون. وعلق بان بعد فوز ترامب قائلاً، إن «الناس في كل مكان يتطلعون إلى الولايات المتحدة لاستخدام قوتها الكبيرة للإسهام في الرقي بالإنسانية والعمل من أجل الصالح العام». وقال دبلوماسي كبير في مجلس الأمن الدولي، طلب عدم نشر اسمه، إن سياسة ترامب الخارجية حتى الآن «ليست متماسكة» وإن انتصاره لا يبشر بالخير فيما يتعلق بكفاءة المجلس في المستقبل. وقال الدبلوماسي: «الافتراض هو أن (إدارة ترامب) ستكون أقل تواصلا مع الأمم المتحدة من إدارة (الرئيس باراك) أوباما والتي كانت أكثر التزاما بالعمل للتوصل لحلول جماعية من إدارات أميركية أخرى».
وتحدث عدد من دبلوماسيي الأمم المتحدة عن افتقار ترامب للوضوح بشأن سياسته الخارجية. وحذر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين الشهر الماضي من أن العالم سيكون في خطر إذا انتُخب ترامب رئيسا. وقال المتحدث باسمه إن الأمير زيد سيواصل التحدث بصوت مرتفع بشأن أي سياسات أو ممارسات لترامب تقوض أو تنتهك حقوق الإنسان. ولخص دبلوماسي غربي، طلب عدم نشر اسمه، تأثير فوز ترامب على الأمم المتحدة بقوله: «أعتقد أن التأثير سيستمر لفترة طويلة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.