على الرغم من مرور أيام على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن «الزلزال السياسي» الذي صنعه الحدث لا يزال قويًا، وتداعياته تتفاعل داخل الولايات المتحدة وخارجها.
تعهد ترامب في خطاب الفوز بتوحيد الأميركيين ووعد بتجنب الصراعات مع العالم، ثم التقى في اليوم التالي الرئيس باراك أوباما مدشنًا المرحلة الانتقالية بكلام دبلوماسي «جديد»، لكن كل ذلك لم يمنع الأميركيين من الاستمرار في الخروج إلى الشوارع مرددين أن الرئيس المنتخب «لا يمثلني». وعلى غرار هذه المخاوف الداخلية، فإن القلق الدولي إزاء السياسات المحتمل انتهاجها من قبل ترامب لم يخمد. ويجمع كثير من المتابعين للشأن السياسي في الغرب، على أن ترامب، بفوزه بالرئاسة بعد حملة مثيرة للجدل تضمنت أفكارًا غريبة عن القيم الديمقراطية المألوفة، قد ألحق بلاده بمعسكر بلدان أوروبية أخرى تعرف أصوات «الفوضويين» و«القوميين» فيها تصاعدًا لافتًا، بما فيها بريطانيا التي صوتت العام الحالي لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت تأثير الأفكار الفوضوية والقومية.
يحذر محللون من تحد أكبر يواجهه ترامب عندما يبدأ فترته الرئاسية في يناير (كانون الثاني) المقبل، هو كيفية حكم بلد مقسم إلى حد غير مسبوق بفعل الانتخابات الرئاسية. وقالت كسينيا ويكيت مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين بمعهد «تشاتهام هاوس» في لندن، إن ترامب «فاز بالرئاسة في بلد مقسم وبعملية اقتراعية مثيرة للارتياب، مما يجعل من الصعب عليه جدًا أن يحكم بفعالية». وتضيف إن ترامب «سيرث، عندما يبدأ الحكم في 20 يناير، عبئًا ثقيلاً، والتحديات المتشعبة التي ستواجهه سيكون من الصعب تجاوزها». وترى ويكيت أن ترامب سيكون «الآن مطالبًا باختيار طريقه؛ إما الحفاظ على رؤيته بعزل (خصومه) وحكم أقل من نصف المجتمع بقليل، أو محاولة ردم الهوة ويحكم الجميع».
وأمام هذا الوضع الداخلي الصعب، ربما يجد ترامب من الأنسب المضي قدمًا في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أميركا تأتي أولاً»، وكان وجَّه عبره، فيما يبدو، رسالة إلى الخارج. وفي حال مضي ترامب في هذا الطريق (أميركا أولاً) فإن سياسته ستعصف بكثير من العواصم الأجنبية، بما فيها الدول الحليفة تقليديًا لواشنطن. من الصعب في الوقت الراهن، التكهن بملامح السياسة الخارجية لترامب، بالنظر لافتقاره للخبرة الكافية في هذا المجال. ولكن الرهان الأرجح الآن أنه حال توليه الرئاسة سوف يسعى للالتزام بما وعد به خلال حملته الرئاسية من التغيير الجذري في منهج الولايات المتحدة الحالي إزاء كل من روسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا.
ويقول الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس في هذا الصدد، إن «الصورة التي أخذها كبار المسؤولين في أكثر من 12 بلدًا تشي بأن ترامب رجل عديم الخبرة وغير موثوق فيه، وقد يندفع إلى تقويض التزامات وتحالفات الولايات المتحدة التقليدية». ويضيف إغناتيوس: «السياسة الخارجية لترامب، استنادا إلى تصريحاته المعلنة، سوف تجلب التركيز المكثف الواقعي على المصالح الوطنية الأميركية والرفض التام للتفاعلات الأميركية الخارجية المكلفة».
من خلال التصريحات التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية، يرجح خبراء كثيرون توجهه لانتهاج سياسة خارجية مختلفة عن إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وكل الأنظار الآن مركزة على ما سيقوم به الرئيس الأميركي إزاء الاتفاق النووي الذي أبرمه المجتمع الدولي مع إيران، علما بأن ترامب كان قد وعد في خطاب له أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية في مارس (آذار) الماضي، بأن أولويته الرئيسية ستكون «تفكيك الاتفاق الكارثي مع إيران»، إلا أن ذلك التهديد يتعارض مع تصريح آخر له قال فيه إن من الصعب تمزيق الاتفاق النووي من دون مساعدة أوروبية.
ويعتقد على نطاق واسع أن من التداعيات الكبرى لوصول ترامب إلى البيت الأبيض تغير السياسة الأميركية تجاه قضايا النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها الآن الأزمة السورية. وكان ترامب قد ركز مرارًا على أن أولويته في هذا النزاع هو دحر تنظيم داعش، بما أوحى أن المضي في مسارات دبلوماسية وعسكرية لإنهاء الأزمة عبر مرحلة انتقالية تقود لتنحي الأسد، لن يكون من أولوياته. وتتقاطع رؤية ترامب لوضع محاربة «داعش» أولوية، مع تصريحاته بخصوص تحسين علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، وهو أمر يلاقي قلقًا واسعًا لدى قادة أوروبا.
وإضافة إلى هذه التوجهات الجديدة، يتوقع الخبراء، بروز نزعة «انعزالية» لدى إدارة ترامب المرتقبة وربما تخليها عن التزاماتها مع حلفائها في الغرب. ويقول فابيان زوليغ من «مركز السياسة الأوروبية»، وهو معهد أبحاث في بروكسل، إن «إدارة ترامب ستعزز النزعات الانعزالية في الولايات المتحدة»، لافتًا إلى تراجع قوة واشنطن أصلا بسبب المنافسة من دول ناشئة على غرار الصين. ودليلاً على الصدمة، أدى الإعلان عن فوز ترامب، إلى سلسلة من ردود الفعل السريعة في أوروبا ضمنها تصريحات لرئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك الذي قال، من باب التمني فيما يبدو، إن واشنطن «ليس لديها بكل بساطة أي خيار آخر» سوى مواصلة التعاون بشكل وثيق مع أوروبا. وأضاف توسك وهو رئيس وزراء بولندي سابق: «لا أعتقد أن بإمكان أي بلد يزعم بأنه قوي البقاء معزولاً».
لكن كلام توسك لم يُخفِ وجود قلق إزاء التزامات إدارة ترامب المرتقبة بأمن أوروبا وربما حتى بالتزاماتها مع حلف شمال الأطلسي. ووسط هذا الغموض، يفضل البعض في الاتحاد الأوروبي (بينهم 22 من 28 دولة في الأطلسي) أن يرى فرصة للمضي قدما في النقاش الدائر حول أمن أوروبي أكثر استقلالية في مجال الدفاع والأمن. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الأربعاء، إن «الولايات المتحدة لن تتولى الاهتمام بأمننا، إنها مسؤولية أوروبا. نحن بحاجة إلى اتحاد أمني». وتعد برلين إحدى العواصم التي تجري نقاشًا بهذا الصدد مع باريس وروما ومدريد. ويشارك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في هذا الرأي بوضوح، إذ قال أمس: «من المهم جدًا أن يكون الأوروبيون، في هذه الظروف الجديدة، واضحين في الرغبة للعمل معًا» وخصوصا من أجل السيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب. وبدوره، قال دبلوماسي أوروبي، إن النتيجة المفاجئة للانتخابات الأميركية من شأنها أن تعمل على تطوير موقف الأكثر ترددا، في شرق أوروبا، حيال فكرة الدفاع الأوروبي.
ومن الأمور المقلقة حقًا لبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم ما هدد به ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم الدفاع عن هذه الدول الحليفة بشكل تلقائي. وتبدو دول البلطيق في مقدمة هذه الدول التي ينتابها القلق في حال تعرضت لهجوم روسي على غرار الضم الروسي لمنطقة القرم (غير البعيدة عنها) قبل عامين. وكان ترامب قد قال في تصريحات لصحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو (تموز) الماضي إنه لن يكون ملزمًا في حال وصل إلى الرئاسة بمساعدة ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلا إذا قدمت إسهامات مالية كافية لحلف شمال الأطلسي. وهدد ترامب أيضًا، بإغلاق كثير من القواعد العسكرية غير الضرورية، قائلاً إنه يطالب الدول التي تحتضن قواعد عسكرية أميركية أن تدفع أموالا مقابل حمايتها، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. كما وعد ترامب بخفض الالتزام الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وقال إنه سيطلب من الأوروبيين مضاعفة مساهماتهم في ميزانية الأطلسي.
ويبدي ترامب، من خلال تصريحاته خلال الحملة، سياسة عدوانية تجاه الصين، فهو يعتقد أن الصين هي عدو الولايات المتحدة الأول، وتسلب منها مليارات الدولارات وليس روسيا. كما أنه يطالب الصين بوضع حد لتهور الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بحكم الروابط القوية بين بكين وبيونغ يانغ.
وتبقى رؤية ترامب لمنظمة الأمم المتحدة، في صلب المخاوف الدولية من سياسات جديدة سيقدم عليها الساكن الجديد في البيت الأبيض، ويهدد بها النظام الدولي الحالي. وكان ترامب قد وصف، خلال كلمته الشهيرة في مارس الماضي، الأمم المتحدة، بأنها هيئة ضعيفة لا تتمتع بالكفاءة، واعتبر أن هذه المنظمة «ليست صديقة للديمقراطية ولا للحرية ولا حتى للولايات المتحدة الأميركية». وهدد حينها بالانسحاب من الاتفاق الدولي لمكافحة تغير المناخ، وهو حجر زاوية في إنجازات الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون. وعلق بان بعد فوز ترامب قائلاً، إن «الناس في كل مكان يتطلعون إلى الولايات المتحدة لاستخدام قوتها الكبيرة للإسهام في الرقي بالإنسانية والعمل من أجل الصالح العام». وقال دبلوماسي كبير في مجلس الأمن الدولي، طلب عدم نشر اسمه، إن سياسة ترامب الخارجية حتى الآن «ليست متماسكة» وإن انتصاره لا يبشر بالخير فيما يتعلق بكفاءة المجلس في المستقبل. وقال الدبلوماسي: «الافتراض هو أن (إدارة ترامب) ستكون أقل تواصلا مع الأمم المتحدة من إدارة (الرئيس باراك) أوباما والتي كانت أكثر التزاما بالعمل للتوصل لحلول جماعية من إدارات أميركية أخرى».
وتحدث عدد من دبلوماسيي الأمم المتحدة عن افتقار ترامب للوضوح بشأن سياسته الخارجية. وحذر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين الشهر الماضي من أن العالم سيكون في خطر إذا انتُخب ترامب رئيسا. وقال المتحدث باسمه إن الأمير زيد سيواصل التحدث بصوت مرتفع بشأن أي سياسات أو ممارسات لترامب تقوض أو تنتهك حقوق الإنسان. ولخص دبلوماسي غربي، طلب عدم نشر اسمه، تأثير فوز ترامب على الأمم المتحدة بقوله: «أعتقد أن التأثير سيستمر لفترة طويلة».
خيارات ترامب
يواجه تحديات صعبة بسياسات غامضة.. وألحق أميركا بمعسكر «الفوضويين والقوميين»
خيارات ترامب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة