ما زلنا حتى الساعة نراقب تبعات الانتخابات الأميركية التي أجريت في وقت سابق من الأسبوع، ومعظمنا يوجه أنظاره نحو مستقبل السياسة الدولية، بينما البعض الآخر يتأمل طريقة الانتخابات ذاتها خاصة فكرة «المجمع الانتخابي» ما بين مؤيد ومعارض لها. وفي حين يتابع كثيرون المظاهرات التي اندلعت في بعض الولايات رفضًا لنتائج الانتخابات يعبّر فريق آخر عبر وسائل التواصل الإعلامي عن رفضه سياسات شخص الرئيس المنتخب أو تأييده له.
اليوم اخترت العودة إلى الوراء متابعًا نتائج هذه الانتخابات لعام 1787، بالتحديد عند اجتماع «لجنة إعداد الدستور الأميركي» في محاولة لتأمل العملية الانتخابية برؤية تاريخية. من أين بدأت؟ وإلى أين توجهت المسيرة الديمقراطية الأميركية؟ بينما ترن في إذني الجُمل الشهيرة خلال مداولات لجنة كتابة الدستور وعلى رأسها كلمات ألكسندر هيلتون، مؤسس تكتل «الفيدراليين» وقائده، ومنها وصفه العامة - ويقصد هنا المواطنين البسطاء - بأنهم «الدابة الكبرى»، وفي المقابل، بينما حذّر إلبريدج جيري، وهو أيضًا من المساهمين بوضع الدستور «من مخاطر الديمقراطية المفرطة». وهذا، في حين تعالت أصوات رافضة لفلسفة وظيفة رئيس الجمهورية من الأساس إذ رأوا فيها «جنين الملكية الفاسدة» خلال هذه الأيام الحاسمة من تاريخ الولايات المتحدة بعد استقلالها بسنوات قليلة.
الحقيقة أن الولايات المتحدة تتمتع بميزتين أساسيتين تفرقانها عن الأغلبية العظمى من الدول: الأولى هي أنها الدولة الوحيدة التي ولدت «ديمقراطية أو شبه ديمقراطية» منذ إعلان استقلال الولايات الثلاث عشرة عن الحكم البريطاني بعد الحرب التي اندلعت عام 1776، والثانية هي كونها الدولة الوحيدة التي ولدت من رحم برلمان معروف باسم «الكونغرس» - أو «المؤتمر» - . ذلك أن معظم الدول تبنى في الأساس على قوة شخص أو شخصيات توحّدها، بعد ذلك تأتي سلطة البرلمان تدريجيًا كحال غالبية الدول، وهي السلطة التي كانت دائمًا غير مطلقة باستثناءات قليلة وقصيرة في التاريخ، لعل أبرزها فترة ما بعد الثورة الإنجليزية قبيل حكم أوليفر كرومويل مباشرة. فلقد أسس «الكونغرس»، أو «المؤتمر القارّي» المكون من ممثلي الولايات الـ13 الأساسية الدولة الأميركية الوليدة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التركيبة التاريخية الأميركية آنذاك.
في كل الأحوال انتصر الجيش القارّي الأميركي على القوات البريطانية، وبدأ «الكونغرس» يحكم البلاد على المستوى الجماعي بينما ظلت الولايات الثلاث عشرة تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي داخل ما يشبه «الكونفدرالية» أكثر منه للنظام «الفيدرالي» أو الاتحادي، وذلك على أساس «مواد الكونفدرالية Articles of the Confederation» والتي نظمت السلطة الجماعية للولايات. وحقًا الترجمة الدقيقة في العربية لكلمة State في الإنجليزية هي «دولة» وليس «ولاية»، وعليه، فالاسم الأقرب للصواب للكيان الجديد هو «الدول المتحدة الأميركية».
وبمرور الوقت، صار واضحًا، كما حدث مع ثورة كرومويل على الملك تشارلز الأول، أن البرلمانات وحدها لا تستطيع إدارة الدولة بمفردها. إذ إن الدول والشعوب وطبيعة الحكم غير مؤهلة لذلك، خاصة عندما بدأت تندلع المشاكل الخاصة بترسيم الحدود الأنهار والتجارة البينية بين الولايات وعلاقاتها الخارجية، وهو ما دفع «الكونغرس» الأميركي لإصدار قرار لمراجعة «مواد الكونفدرالية» في عام 1787، وهو ما تقبلته بعض الولايات، خاصة الصغرى، بالشك والريبة، خشية تسلط الولايات الكبيرة على الكيان «الكونفدرالي» الفضفاض وتحويله إلى كيان «فيدرالي» أشد تماسكًا. ومن ثم، عارضت هذه الولايات الصغيرة هذا التوجه تمامًا، قبل مداولات متطاولة أفلحت أخيرًا بتبديد الخوف من تحوّل «الولايات المتحدة» إلى حكم أوتوقراطي بعد التغلب على ذلك من خلال فكرة توافقية صاغها بعض العباقرة وعلى رأسهم المفكر المنعزل والمثقف جيمس ماديسون - أحد واضعي الدستور ورئيس الجمهورية لاحقًا - بعد موائمات نتجت عنها فكرة «الموازنة بين السلطات»، أو «الحدود والتوازنات» المعروفة بالـChecks and Balances في السياسة الأميركية. ذلك أنه ثبت للمشاركين أنه لا يمكن إدارة دولة إلا بوجود سلطة تنفيذية يعتليها شخص مُنتخب، وتتعايش مع سلطتين مستقلتين: برلمانية (ممثلة بـ«الكونغرس») وأخرى قضائية (ممثلة بالمحكمة العليا). إلا أن حدود صلاحيات كل سلطة كانت محل بحث وتمحيص وموائمات لا حصر لها، خاصة فكرة «الرئيس» الذي وجب وضع قيود على سلطاته من قبل «الكونغرس» والعكس صحيح. ومن ثم، تقرر أن يكون لـ«الرئيس» صلاحيات تنفيذية واسعة ولكن من دون الحق في إعلان الحرب أو عقد اتفاق السلام. ومنح «الكونغرس» حق نقض قراراته، بل أيضًا حق العزل في حالة ثبوت اتهامه. أيضًا منح الدستور «الرئيس» حق النقض للقوانين الصادرة عن «الكونغرس»، ولكن للأخير بغالبية ثلثي الأعضاء له الحق في مراجعة نقض «الرئيس».
مع هذا، يرى كثيرون أن «عبقرية» الدستور الأميركي تكمن في سبل معالجته مخاوف الولايات الصغيرة أمام تغوّل سلطات الولايات الأكبر من حيث عدد السكان. وكان أهم عنصرين في هذه المشكلة هو كيفية احتساب تعداد السكان والوزن النسبي لمشاركة الولايات في انتخاب «الرئيس» والتمثيل في «الكونغرس»، وهي مشكلة ممتدة ومعقدة لا تزال تلقي ببعض ظلالها حتى اليوم. إذ استقر الرأي على جعل «الكونغرس» مؤسسة تشريعية من مجلسين هما «مجلس الشيوخ» Senate The و«مجلس النواب» The House of Representatives، يكون الأول على أساس متساوٍ بين الولايات بشيخين لكل منهما ويكون المجلس الأكثر صلاحية، بينما الثاني على أساس نسبي لتعداد سكان كل ولاية وسلطاته أقل بصفة عامة. ومن هنا نشأت فكرة ما عرف فيما بعد بـ«المجمع الانتخابي» Electoral college في انتخابات الرئاسة، وهو ما حسم في بعض الانتخابات النتيجة على أساس الأصوات الانتخابية كل ولاية على حدة وليس مجموع الأصوات الشعبية كما حدث في انتخابات عام 2000، وأيضًا، الانتخابات الأخيرة قبل أيام.
واقع الأمر أن بعض القادة كان يأمل في أن تكون انتخابات الرئاسة مبنية على انتخابات ديمقراطية مفتوحة لكل مواطن صوت واحد يُنتخب بعدها «الرئيس» بالأغلبية المطلقة، إلا أن مداولات «لجنة إعداد الدستور» وُجدت مشاكل كثيرة مرتبطة بهذه الفكرة على رأسها صعوبة السيطرة على العملية الانتخابية، لا سيما، في ظل بدائية الوسائل التي كانت متاحة في ذلك الوقت، إضافة إلى ارتباط مشكلة تعداد الولايات بوجود طبقة العبيد الذين لا يحقّ لهم الانتخاب بطبيعة الحال. لكن الولايات الجنوبية كانت تريد استغلال هذا الأمر لتوسيع قاعدة تمثيلها، ومن ثم تم الاتفاق على أن يُحتسب تعداد العبيد بثلاثة أخماس فقط، وعلى هذه الأسس تقرر انتخاب «المجمع الانتخابي» المكون من مُنتخبين Electors عن كل ولاية وفقًا لتعدادها على أساس حجم تمثيلها في مجلسي «الكونغرس» وتكون مسؤوليتهم أن يعكسوا الهوى الانتخابي للدوائر التي يمثلونها، على ألا يكون هؤلاء المُنتخبون من حملة الوظائف العامة، ويكون لهذه الجماعة حق انتخاب أول رئيس للجمهورية.
عُقد «المجمع الانتخابي» جلسته في مارس (آذار) 1789 لانتخاب أول رئيس للجمهورية الأميركية ونائبه على أساس أن يحصل صاحب أكبر الأصوات من المرشحين على منصب الرئيس بينما الحاصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات يؤول له منصب نائب الرئيس، وهو ما يختلف عن مسيرة الانتخابات الحالية التي يدخل فيها الرئيس ونائبه سباق الرئاسة في قائمة واحدة. وجاءت نتائج انتخابات «المجمع الانتخابي» لصالح جورج واشنطن (من ولاية فيرجينيا في الجنوب)، قائد الجيش القارّي الأميركي إبان حرب الاستقلال، حاصلاً على 99 صوتًا - أي بإجماع «المجمع» - فبات أول رئيسًا للولايات المتحدة، كما بات كان أول وآخر رئيس يصار إلى انتخابه بالإجماع في تاريخ الولايات المتحدة. ويومذاك احتل أحد كتبة الدستور المحامي جون آدامز (من ولاية ماساتشوستس في شمال البلاد) في المركز الثاني بـ34 صوتًا، فأعلن أول نائب لرئيس الجمهورية. وأقسم الرئيس واشنطن اليمين الدستورية على نفس النحو الذي يقسمه الرؤساء الأميركيون اليوم وتولى المسؤولية على رأس فريق ضم وزير خارجية ووزير مالية ومحاميا عاما، وهو ما اعتبره البعض أول «مجلس وزراء»، إذ ما كانت قد استحدثت بعد الوزارات والمؤسّسات الأخرى التي نعرف اليوم مثل مجلس الأمن القومي أو وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها.
وفيما بعد، جرى إدخال الكثير من التعديلات على الدستور والعملية الانتخابية لعل أهمها كما هو إلغاء الدور العملي للمُنتخبين Electors في «المجمع الانتخابي» لمعظم الولايات وإبدال الغالبية البسيطة لكل ولاية به تترجم إلى نقاط يحصل عليها المرشح الفائز وفقًا لتعداد كل الولاية كما هو ممثل في الكونغرس، والملاحظ أن أول تعديل لقواعد الانتخابات جاء في انتخابات عام 1800 عندما ترشّح توماس جيفرسون، وزير الخارجية في فريق واشنطن وأحد ألمع واضعي الدستور، للمنصب مع آرون بُر كنائب للرئيس، فحصل الاثنان على 73 صوتًا لكليهما مقابل 65 لنائب الرئيس جون آدامز، وهو ما اضطر الكونغرس للتصويت 35 مرة في أسبوع حتى تم انتخاب جيفرسون في أعقاب بعد تدخل مباشر من ألكسندر هاملتون، وزير المالية الذي انشق عن معسكر آدامز، لصالح جيفرسون. ولاحقًا اشتدت العداوة بينه بين بُر (الذي انتخب نائبا للرئيس)، انتهت بمبارزة قُتل فيها هاملتون بيد بُر، ومن بعدها أضطر الكونغرس لتغيير أساليب الاقتراع على نائب الرئيس فكانت هذه بداية لسلسلة من التعديلات إلى وصلت العملية الانتخابية إلى ما وصلت إليه اليوم، غير أن الأساس ظل في مجمله على ما صيغ منذ قرنين ونصف القرن من الزمان.
من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي
من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة