تحدي ترامب.. توحيد الأميركيين

أنصاره يحتفون بـ«استعادة البلاد».. ومهاجرون: نشعر برعب شديد ونفكر في الرحيل

تحدي ترامب.. توحيد الأميركيين
TT

تحدي ترامب.. توحيد الأميركيين

تحدي ترامب.. توحيد الأميركيين

أدلى الأميركيون بأصواتهم في انتخابات الرئاسة يوم الثلاثاء باعتبارهم شعبا واحدا، واستيقظوا الأربعاء دولة من أمتين؛ إحداهما مبتهجة ومفعمة بالأمل، والثانية يتملكها التشاؤم والرعب الشديد. كان هذا من أهم نتائج فوز الجمهوري دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، بعد حملة شرسة وغير مسبوقة، احتدم فيها التنافس إزاء قضايا سياسية واقتصادية كثيرة، وأثيرت خلالها فضائح أخلاقية ومالية وفتحت تحقيقات من قبل المباحث، مما زاد الجو المشحون أصلا مزيدا من التوتر والترقب.
والآن بعد إعلان الفائز بالسباق الرئاسي، وجد ترامب نفسه أمام شعب مقسم، مما دفعه للتخفيف من تصريحاته المثيرة للجدل. وتعهد، خلال خطاب النصر، بالسعي لتوحيد الأميركيين، هو تحد ربما لم يتوقعه ترامب نفسه خلال حملته. ومن خلال مقابلات أجرتها الصحافة مع مواطنين من شرائح وخلفيات مختلفة، اتضح أن عددا ممن اختاروا ترامب ازدادوا ابتهاجا وتشبثا بخيارهم، بينما أطاح الصعود غير المتوقع، للمرشح الجمهوري، بمفهوم الولايات المتحدة لديهم وأجبرهم على النظر في أمرهم وفيما إذا كانوا يعيشون في البلاد التي لم تعد مثلما كانوا يعتقدون.
في ميدلتاون بولاية أوهايو، استيقظت زوجة قس الكنيسة ذات الـ26 عاما وهي مبتهجة ومفعمة بالآمال في إمكانية أن يحقق ترامب التحول الاقتصادي المنشود ويعمل على معارضة وتجريم الإجهاض. وفي دالاس، تلقى محامي الهجرة، البالغ من العمر 51 عاما، اتصالات هاتفية مذعورة من العملاء الذين يخشون من الترحيل القسري من البلاد، معتقدين أن طلبات الحصول على حق اللجوء السياسي قد تعطلت وباتوا يفقدون الأمل في إمكانية لم شمل الأزواج والأطفال.
وفي منزلها في منطقة راذرفورد الريفية من ولاية نورث كارولينا، كانت تلك المرأة البالغة من العمر 55 عاما تقضي صباحها في ألم وندم شديدين على قرارها الذي اتخذته في آخر لحظة عندما أدلت بصوتها الانتخابي لصالح المرشح ترامب.
وتقول سيندي أدير، وهي مهندسة للديكور: «إنني في حالة عصبية شديدة. إننا منقسمون بشدة، وهناك الكثير من الكراهية في كل مكان». وكانت في كل صباح تعيد النظر في قرارها برفض المؤسساتية، وكانت تشعر بالقلق حول ما يقولونه عنها. «أعني أنني أميل للإدماج. إنني لا أوافق أن نذهب ونقول لجماعة معينة من الناس، مثل المسلمين، إنكم غير مسموح لكم بالبقاء هنا».
وقد تردد هذا السؤال كثيرًا في الكثير من المقابلات الشخصية التي عقدت مع الناخبين في طول البلاد وعرضها: ما الذي يعنيه بالضبط فوز دونالد ترامب بالنسبة للولايات المتحدة كأمة؟ تقول زينب الحسني، 30 عاما، من هامترامك في ولاية ميتشيغان، وهي ضاحية في مدينة ديترويت التي تضم مجلس المدينة الوحيد ذا الأغلبية المسلمة: «إنني أشعر بالرعب الشديد»، حيث كانت تنتظر تناول الإفطار في أحد المطاعم بالمدينة، وكانت تنظر بعينين قلقتين إلى طفلتها البالغة من العمر 15 شهرا فقط. وأضافت الحسني تقول وهي تضبط حجابها على رأسها: «إن بلادنا تريد طردنا إلى الخارج. إنهم يكرهون المسلمين. هذا ما قالوه بالأمس. إنهم يكرهوننا أكثر مما يحبون أميركا نفسها».
وأردفت الحسني تقول وهي تشير نحو طفلتها الرضيعة وتقاوم دموعها بشدة: «كيف يمكنني الرحيل، فلتشرحوا لها. الرجل الذي يقول مثل تلك الأشياء الحقيرة عن الجميع قد أصبح اليوم نموذجا يحتذى به؟ لماذا لم تعد مسألة كهذه مهمة عند الناس المحترمين؟».
وعلى مسافة بضعة أميال إلى الشمال، كان جيمس ماكدانيالز البالغ من العمر 27 عاما يطعم طفله البالغ من عمره 4 شهور فقط في مقهى ستاربكس الشهير، حيث قال: «إنني متحمس للغاية!»، وهو يرتدي سترته على كتفيه ومكتوب عليها «أرسلوا هيلاري إلى السجن». وأضاف ماكدانيالز يقول وهو يحتسي قهوته المفضلة في ماونت كليمينت بولاية ميتشيغان – وهي من مناطق الطبقة البيضاء العاملة في الولاية: «لم أعد أهتم بما يقولونه عن الرجل. إنه الإعلام الذي يحاول تشويه صورته لدينا. إننا لا نكره المسلمين، ولكن لا يمكنهم تطبيق قانونهم وشريعتهم في بلادنا. إن كانوا يحبون هذه البلاد بحق، فعليهم مساعدتنا في التخلص من الإرهابيين الإسلاميين الموجودين في مساجدهم هنا». ويتابع ماكدانيالز، الذي فقد وظيفته في عام 2015 عندما أغلق متجر بيع قطع غيار السيارات الذي كان يعمل به أبوابه: «لقد كان الوضع حرجًا للغاية هنا ولسنوات كثيرة ولم يكن أحد يعبأ بنا»، وقال: إنه تمكن في نهاية الأمر من العثور على وظيفة نادل في أحد المطاعم. وقال مضيفا: «لقد استعاد الشعب الأميركي بلاده بالأمس أخيرًا». وقال الرئيس المنتخب ترامب صباح الأربعاء إن الأمة تدين لهيلاري كلينتون بدين عظيم للخدمات الجليلة التي أدتها للبلاد، وأضاف قائلا: «إنني أعني ذلك بكل إخلاص وأمانة».
ولم يصدق ماكدانيالز من ذلك شيئا، حيث كان يعول على أن يعمل ترامب في الواقع على سجن كلينتون كما وعد بذلك في حملته الانتخابية، ووصفها ماكدانيالز بأنها «امرأة محتالة وكاذبة».
وتقدم الرئيس باراك أوباما إلى حديقة الورود في البيت الأبيض بعد ظهيرة يوم الأربعاء، وتحدث عن الانتقال السلمي للسلطة، مقرًا بخلافاته مع ترامب، ومضيفا أن الجميع معترف بنجاحه.
في لوس أنجليس، كانت باتي غيجانز، 72 عاما، تحاول استدراك الأمر، حيث قالت: «لا أزال مصدومة حتى أكون مصدقة لما يحدث». وكانت غيجانز تعمل منذ ثلاثة عقود في منظمة غير هادفة للربح معنية بمساعدة النساء اللاتي تعرضن للاعتداءات الجنسية. وقالت مضيفة: «تعرضنا للكثير من النقد اللاذع طيلة العام الماضي: لقد وصفت النساء بالكاذبات. وانتقص من قدرهن لأنهن فقط نساء. وكان الخطاب العام نحونا عنيفا ورخيصا للغاية، وكان إقصائيا بدرجة كبيرة».
وكما شاهدت نتائج الانتخابات مساء الثلاثاء، قالت: إنها كانت مضطرة إلى إجبار نفسها على التوقف عن متابعة الأخبار حيث إن التصويت لصالح ترامب كان بمثابة استفتاء على العنف الجنسي نحو النساء. وقالت: «لو سمحت لنفسي بالتفكير في ذلك لكنت أقدمت على الانتحار على الفور».
بدلاً من ذلك، قالت غيجانز، عندما بدأت في رؤية الانتخابات كما لو كانت تحذيرًا مدويًا الذي تجاهله الكثيرون أو رفضوا الاستماع بشكل غير منصف لشكاوى رفاقهم من المواطنين الأميركيين الساخطين على الأوضاع، أولئك الذين اتضح أنهم اندفعوا ذرافات ووحدانًا في مسيرات تأييد ترامب. وتقول غيجانز: «في مجال عملي، نتعمد الاستماع إلى الآخرين، ولدينا مستشارون وخط هاتفي ساخن. نستخدم قلوبنا وعقولنا لمحاولة فهم الآخرين، وهذا ما يتعين علينا القيام به إذا أردنا المضي قدما».
ولكن كيف يمكنك الاستماع من دون نسيان ما قاله ترامب لتوه؟ كما يقول فيكتور إيبارا. فمن اليوم الأول لترشح ترامب – عندما وصف الشعب المكسيكي بأنهم مغتصبون وتجار مخدرات ومجرمون – كان إيبارا من أشد المنتقدين.
وإيبارا من المهاجرين غير الموثقين، كان غادر بلدته راينوسا في المكسيك قبل 20 عامًا للفرار بحياته من العنف المتفشي في بلاده محاولا العثور على الراحة والسلام. وقد ظن أنه عثر عليه في هيوستن، حيث يكتسب رزقه من تنظيف السجاد لتربية ولده المولود في الولايات المتحدة الأميركية. ويعمل إيبارا الآن كناشط في مجال حقوق المهاجرين اللاتينيين، ويقول إن هاتفه لم يتوقف عن الرنين منذ مساء الثلاثاء الماضي. «إنهم يبكون، إنهم يعانون، إنهم خائفون. بعضهم من الصبيان بأعمار تناهز 14 و15 عاما، ومنهم الأطفال لآباء لا يحملون وثائق الهجرة القانونية، إنهم يبكون كثيرا ويقولون: إنهم خائفون للغاية من ترامب، ويتساءلون: ما الذي سوف نفعله الآن؟».
وقالت ميتزي ميلر إنها كانت تكافح من أجل محاولة رأب الصدع مع أولئك الذين، من خلال أصواتهم، صادقوا على سخريات ترامب من الكثير من الناس. وتضيف أن ابنها كايسي يعاني من مرض الشلل الدماغي، والاضطرابات العقلية، وأمراض الكلى. وعندما شاهدت هي وابنها، البالغ من العمر 19 عاما، ترامب، يسخر من أحد المراسلين من ذوي الإعاقة، قالت: إنها شعرت بإعياء شديد وأجهشت بالبكاء. وتابعت ميلر: «إن كل ما تذكره ولدي هو كل أنواع السخرية والآلام التي مرت به في حياته. ألا تسمعوا، إننا مدمرون، فقط مدمرون، ولا يفهم أحد ما الذي سوف يحدث في بلادنا ولأطفالنا». في وقت مبكر من صباح الأربعاء، كانت ناجا نيلسون (18 عاما) تتجول في شوارع واشنطن، مركز الزلزال الذي كشف عن كافة أشكال الحقد والانقسامات الحزبية التي مزقت البلاد إربا، وقالت: إنها شاهدت تداعي كل المثل منهارة أمام عينيها.
وبعد الإثارة الأولى للتصويت لأول مرة في حياتها، تتساءل الطالبة في عامها الأول بجامعة جورج واشنطن إن كان لصوتها الانتخابي أهمية تذكر. كما تساءلت ما إذا كانت كافة الاحتجاجات والمشاجرات التي وقعت في السنوات الأخيرة لصالح الدفاع عن حقوق المرأة والأقليات لها، أيضا، أهمية تُذكر. وتقول ناجا نيلسون: «لقد بدأت أشكك في كل شيء»، وأضافت أنها تحمل ترامب مسؤولية تطبيع الكراهية، وكره النساء، والإسلاموفوبيا، وكراهية الأجانب. وحتى أنصار ترامب واجهوا مشكلة في التخلي عن معتقداتهم كذلك. ومع انتظار سي جيه لويس (74 عاما) في غرفة معيشتها للاستماع إلى خطاب التنازل من هيلاري كلينتون، تحدثت كيف أنها كانت تشعر بالخزي من قبل غيرها من السكان في بلدتها لأنها فقط من مؤيدي دونالد ترامب.
وتقول لويس الديمقراطية المؤيدة لترامب: «كنت خائفة من وضع علامة ترامب في فناء منزلي أو على خلفية سيارتي. لم أكن أريد أي شيء أن يحدث لمنزلي أو سيارتي. والأمر هو أنني لن أتحدث عنهم بالطريقة التي تحدثت بها هيلاري عنا، لقد وصفتنا بأننا يُرثى لنا». وتضيف لويس أن أكبر آمالها، بعد أن انتهت الحملة الانتخابية، هي أن يتوقف الناس في النهاية عن كراهية بعضهم البعض. وحتى الآن، ومع مشاهدتها للتلفزيون في انتظار ما ستقوم به كلينتون، لم تتوقف لويس عن تعداد إخفاقات كلينتون في الحكم على الأمور وفي شخصيتها الذاتية.
وأدلى ترامب بعد فوزه بتصريحات طمأنة تجاه خصومه، إذا قال ضاحكا أمام حشد من أنصاره في نيويورك: «بالنسبة لأولئك الذين اختاروا عدم مساندتي في الماضي، وهم عدد قليل من الناس، فإنني أحاول التواصل معكم من أجل الاستفادة من توجيهاتكم ومساعدتكم بحيث يمكننا العمل سويا من أجل وحدة بلادنا العظيمة». وأعرب الكثير من الناخبين المؤيدين لترامب عن التفاؤل المطلق حيال رغبته وقدرته على القيام بذلك.
وما يفتقر إليه ترامب في الخبرة السياسية، يحاول تعويضه في مجال المال والأعمال والتجارة، كما يقول دياموند مايك آلن، 55 عاما، وهو المصارع المحترف الذي تحول إلى مجال الكوميديا والترفيه ومن أنصار ترامب منذ اليوم الأول.
ويقول آلن من مدينة دولستون بولاية بنسلفانيا، في المقاطعة التي أيدت هيلاري كلينتون: «إن رجل الأعمال الناجح دائما ما يقرب منه الشخصيات المناسبة. فعندما يبدأ في بناء أحد المباني الكبيرة، فإنه لا يصب الخرسانة بنفسه أبدا». ويقول مايكل بارنت، وهو من المواطنين الأميركيين الأفارقة المؤيدين لدونالد ترامب ورئيس مقاطعة بالم بيتش في ولاية فلوريدا، ومن أعضاء الحزب الجمهوري هناك: «لا أعتقد أنه بمقدوره القضاء على العنصرية، لأنني لا أعتقد أنه بإمكانه تغيير الطبيعة البشرية. ولكنني أعتقد أن دونالد ترامب، ومن واقع خبراتي السابقة، يعرف كيف يعمل مع كافة الناس من كافة الأعراق».
ولكن بالنظر إلى حالة الانقسام الكبيرة والمؤلمة التي تجتاح البلاد اليوم، حتى بعض من الناخبين المؤيدين لترامب قد أعربوا عن شكوكهم ومخاوفهم.
وتقول جوليا سميث، التي صوتت لصالح ترامب من إحدى الضواحي في مدينة شيكاغو: «إنه مدفع هائج، ولا أدري ما الذي سوف يفعله». وسميث، التيس تعمل في مجال تحليل تكنولوجيا المعلومات، قد وجدت بعض العزاء في فكرة مفادها أن شخصا واحدا وانتخابات وحيدة ليس بإمكانهما تحديد مسار ومصير البلاد بأسرها، بصرف النظر عن الصدمات والتحولات الناجمة عنها. وتضيف سميث: «سوف يتطلب الأمر من الناس الذين يحبون بعضهم البعض، ويحبون مجتمعاتنا، ويحبون جيراننا، عما إذا كانوا من أبناء هذا الوطن أم لا، وهل عندهم المقدرة على التضحية من أجل أن نكون الدولة التي تتمتع بالنزاهة والمصداقية مرة أخرى. إنه كشعلة مضيئة في مكان مظلم».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.