أسبوع التناقضات بدأ يوم الجمعة الماضي، إذ غزت أفلام جديدة خالية تمامًا من المؤثرات السوق مقابل أفلام كل لقطة منها مشغولة تقنيًا وعلى منوال جديد. أفلام تتناول مواضيع الأمس وأخرى تخاطب المستقبل. والسؤال هو: من أين يمكن أن نبدأ؟
* بين الأبيض والأسود
في عام 1967 نظرت المحكمة الأميركية العليا بقضية غريبة: رتشارد لفينغ وميلدرد لفينغ زوجان من ولاية فرجينيا يلاحقهما قانون الولاية بسبب زواجهما. ليس أن السلطات اكتشفت أن للرجل زوجة أخرى بل كل ما في الأمر أن رتشارد رجل أبيض وميلدرد امرأة أفرو - أميركية، أو كما كانوا يسمون غير البيض «ملوّنة».
حين التقيا لم ينظر أي منهما للون بشرة الآخر، عائلة «لوفينغ» وقعت في الحب فعلاً وقررا الزواج مخترقين بذلك قانونا عنصريًا يعود إلى عام 1883. والحكم صدر بالفعل بحبسهما لعام بسبب خروجهما عن هذا القانون. وراء هذا التمسّك بقانون بائد هو الرغبة في نصاعة العنصر الأبيض وإبقاء الفاصل اللوني سائدًا وبالتالي الوضع العنصري ذاته.
لكن المحكمة وصلت إلى قناعة مفادها أن الزواج هو حق للإنسان ولا يمكن ضحد هذا الحق على أسس عنصرية. وأضاف الحكم الصادر فقرة واضحة في نعتها القوانين المحلية لبعض الولايات بالعنصرية.
المخرج جف نيكولز لا يعمد إلى سينما تلهث وراء الدراما المفتعلة. لا يحقق فيلمًا للسهرة، بل فيلمًا جيدًا وهادئًا للنقاش أو، على الأقل، لطرح موضوع إنساني ينطلق من التاريخ القريب وينصب في الحاضر المتعب. يحافظ، قدر الإمكان، على الأحداث ويتدخل فقط كلما كان ذلك لضرورة تفرضها شروط الفيلم.
هناك صلات واضحة، وإن ليست مقصودة، بين هذا الفيلم لمخرج نشط (حقق في مطلع العام فيلم «خيال علمي» بعنوان Midnight Special) وفيلم «مونلايت» Moonlight لمخرج جديد، نسبيًا، اسمه باري جنكنز.
على عكس نيكولز، جنكنز هو مخرج أفرو - أميركي ونظرته إلى الواقع الذي يعيشه السود الأميركيون تأتي من الداخل. هذا لا يعني أن نظرة نيكولز مفتعلة أو غير صادقة، بل فقط إن جنكينز عايش فعليًا بعض ما يتحدث فيه.
«مونلايت» يدور حول صبي يترعرع، سنة 1980، في بعض أحياء مدينة ميامي. حي حابل بالفقر والمخدرات ووالدة الصبي مدمنة. الشخص الوحيد الذي يوفر للصبي بعض ما يحتاجه من شعور أبوي، ليس سوى الجار جوان (ماهرشالا علي) الذي يعتاش من وراء تجارته للمخدرات. هذا التعريف هو فصل أول من ثلاثة فصول تؤرخ، على نحو معين، لحياة ذلك الصبي. الفصل الثاني يبدأ به وقد أضحى فتى لكنه ما زال أضعف من أن يمنع عن نفسه الأذى. هنا الأم باتت أكثر وعيًا لمسؤوليتها لكنها لا تستطيع أن تحمي ما آل إليه وضع ابنها في المدرسة والشارع حيث يتعرض لتعنيف أترابه.
ينتقل الفيلم في فصله الثالث إلى الصبي وقد أصبح رجلاً يتعلم كيف يجمع عثرات حياته. لقد نشأ بلا أبوّة عملية، وعانى من بيئة عنيفة والآن أصبح عليه أن يختار أي نوع من الراشدين هو. وهذا يمتد ليشمل معرفة موقعه الجنسي والاجتماعي وعلاقته بالناس والمحيط بشكل عام.
* مصير الفيلة
وعلى علاقة بالوضع الأفريقي في الأساس ينبري «لعبة العاج» The Ivory Game إلى تناول واحد من أوجاع الحضارة المزمنة: قتل الفيلة للحصول على أنيابها العاجية في تجارة ما زالت تدر ملايين الدولارات كل سنة. المخرجان رتشارد لادقاني وكيف ديفيدسون يعمدان إلى معالجة هذا الوضع بصدق مخيف. أي درجة من الصدق هي في الحقيقة مخيفة، لأن ما يحدث لهذا الحيوان يحدث لسواه، لأسباب أخرى، وما يحدث لها جميعًا يضر بالبيئة والحياة على الأرض كما عرفناها.
عندما أعلن المخرجان عن مشروعهما كان الممثل ليوناردو ديكابريو من بين أوائل من اهتم به وهو ساعد في إنتاجه معتمدًا على حقائق واردة في السيناريو ومنفّذة في الفيلم. «لعبة العاج» سوف لن يصوّر مشاهده الأفريقية في تنزانيا وكينيا وجوارهما فقط، وسوف لن يعرض لصوص العاج فحسب، بل سيصوّر المدافعين عن حقوق الفيلة ومحاولاتهم المستميتة لردع اللصوص والإيقاع بهم.
ليس هذا فقط، بل يلجأ الفيلم إلى الانتقال إلى الصين حيث تغزو الأسواق المنتجات العاجية وسط قدر من اللامبالاة من الحكومة. بعض الجواهر التي يتم صنعها وبيعها في الأسواق الصينية وفي سواها يصل سعرها إلى أكثر من 250 ألف دولار. الفيلم يعرّف على من يقود أخطر عصابة في هذه المجال (رجل اسمه شيتاني) يُقال إن رجاله قتلوا إلى الآن نحو 10 آلاف فيل.
يتركنا الفيلم على أمل أن الحكومات بدأت تعي مسؤوليتها وتحاول الاستجابة لنداءات التدخل لحماية الفيلة. لكن هذا لا يمحو طعم العلقم الذي يسقينا الفيلم إياه والحزن الشديد على مآلات زمن لم يعد يشعر بالحياة إلا بقتلها.
* دكتور سترانج ضد الهيمنة
هذه الأفلام تحتشد لسباق الأوسكار، وبالتأكيد سنقرأ عنها وقد دخلت أحد المسابقات الكثيرة في هذا الموسم. لكن في الوقت الذي تتهافت فيه الأفلام النوعية لاحتلال عروضها في هذه الفترة، لا يمكن أن تخلو السوق السينمائية من أفلام جماهيرية. وآخرها «دكتور سترانج»، آخر ما توفره مؤسسة مارڤل من شخصياتها الكرتونية المتحوّلة إلى السينما الحية.
تاريخ هذه الشخصية، كباقي شخصيات «السوبر هيروز»، يعود إلى تلك الفترة من القرن الماضي (امتدت من الأربعينات وحتى الستينات) التي شهدت ثراءً في توجيه دفة الهواة صوب شخصيات المجلات المعروفة بـ«الكوميكس». مثل «باتمان» و«سوبرمان» وسواهما، تمتع دكتور سترانج بقوى خارقة لكن في حين أن هذه البطولات الأخرى كانت واضحة في شخصياتها، على تشعب مصادرها وملامحها الخاصة، فإن دكتور سترانج قُصد به أن يعكس شخصية غامضة تعلمت السحر والشعوذة وإن حاولت أن تنفع البشر بهما.
حسب العدد الأول من المجلة التي نشرت حكاياته فإن «دكتور سترانج» ملقب بـ«سيد السحر الأسود» وهو كان جراحًا ناجحًا لكنه تعرض إلى حادثة سيارة نجم عنها بتر يديه. انصرف باحثًا عن يدين ميكانيكيّتين تعيده إلى عمله وبحثه قاده إلى عصبة من سحرة الفودو الذي منحوه ما يطلب بالإضافة إلى قدرات غير عادية.
الفيلم يأتي على كل ذلك، لكنه ينطلق في سرد حكاية مشوّقة مرجعها محاولة البعض تنفيذ خطة للسيطرة على العالم وسعي «دكتور سترانج» لتقويض هذه الخطة. كل هذا يقع في عالم مستقبلي قريب ابتدعته مخيلة وتقنيات الكومبيوتر غرافيكس وأساطين المؤثرات البصرية وأخرجه سكوت ديريكسون الذي سبق له وأن حقق بضعة أفلام أشهرها إعادة لفيلم فرد زنيمان «اليوم الذي توقفت فيه الأرض» في الخمسينات، وذلك قبل ثمانية أعوام.
خلال مشاهدة «دكتور سترانج» تزورك ذكريات فيلم «تمهيد» لكريستوفر نولان: المباني التي تميل وهي تسقط. الأحياء وهي تتخذ أمام العين أشكالاً مختلفة. المدينة الكبيرة حيث شكلها المعتاد يتحوّل إلى أفق من البصريات الفانتازية والسوريالية. لكن منذ أن قام نولان بتحقيق فيلمه «تمهيد» قبل خمس سنوات وإلى اليوم تقدمت وسائط التمويه التقني إلى حد مذه.
كل هذا يخلق انتعاشًا لسينما الكوميكس يعبر حاليًا القارات ويضع الفيلم على قمّة أنجح الأفلام المعروضة، لكن الكثير من هذا النجاح مبني على الأسس ذاتها التي بنيت عليها نجاحات الأفلام المماثلة: كل الجهد المبذول لإتقان المؤثرات وأقل العناية موجهة لإتقان الدراما.
أفلام الأسبوع الجديدة تنتقل من أميركا إلى أفريقيا
بعضها واقعي لكن أنجحها «فانتازي» والغالبية خالية من المؤثرات
أفلام الأسبوع الجديدة تنتقل من أميركا إلى أفريقيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة