المثقفون المصريون يستعيدون جمال الغيطاني في ذكرى رحيله الأولى

طالبوا بتخصيص جائزة باسمه ومؤتمر سنوي حول أعماله

جانب من الأمسية
جانب من الأمسية
TT

المثقفون المصريون يستعيدون جمال الغيطاني في ذكرى رحيله الأولى

جانب من الأمسية
جانب من الأمسية

شهد المجلس الأعلى للثقافة الخميس الماضي أمسية ثقافية كبيرة أحيا فيها المثقفون المصريون الذكرى الأولى لرحيل الأديب جمال الغيطاني، بحضور زوجته الكاتبة ماجدة الجندي، وأبنائه محمد وماجدة، وشقيقه اللواء إسماعيل الغيطاني، وحشد كبير من الكتاب والشعراء، وعدد من الرموز السياسية والعسكرية، متذكرين دوره الثقافي والأدبي والوطني أيضا في توثيق حرب أكتوبر (تشرين الأول)، كمراسل صحافي حربي.
استهل الأمسية وزير الثقافة المصري الكاتب حلمي النمنم معربا عن حزن الوسط الثقافي المصري على رمزان يُعدان من أهم رموز الثقافة المصرية والعربية، وهما: الكاتبة نعمات أحمد فؤاد، والشاعر فاروق شوشة. ووصف النمنم الغيطاني بأنه «واحد من بناة الثقافة والأدب في مصر والوطن العربي»، وطالب المجلس الأعلى للثقافة بتنظيم مؤتمر أدبي سنوي يتناول إنتاج الغيطاني الأدبي ومسيرته ودوره الثقافي.
بينما قالت الدكتورة أمل الصبان، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة: «الغيطاني أحد الأصوات الروائية الأصيلة في نصف القرن الأخير؛ إذ أسهم بإنتاجه الروائي الغزير في تشكيل ملامح فن الرواية العربي، وفى ترسيخ مكانته في الأدب العالمي المعاصر». وأشارت إلى أن الغيطاني «ينتمي لجيل الستينات من كتاب الرواية في مصر، وهو الجيل الأهم في تاريخ الرواية العربية، فإذا كان نجيب محفوظ هو المؤسس الحقيقي لهذا الفن في أدبنا العربي الحديث، فإن جيل جمال الغيطاني هو الذي انتقل بهذا الفن إلى آفاق جديدة، وأحدث نقلة نوعية في أشكاله الفنية ومضامينه الحضارية، ورسخ وجوده على خريطة الأدب، وقد نالت ترجمات أعماله رواجا جيدا». ثم تحدثت زوجته الكاتبة ماجدة الجندي قائلة: «لم أبك حتى الآن على جمال الغيطاني، لأنني توصلت إلى صيغة مع نفسي أنه ما زال معنا»، موضحة أنها لا تنوي الكلام أو الكتابة عنه، قائلة: «عرفته إنسانا وكاتبا ومثقفا رفيعا محبًا للحق، وعارفا بوطنه مصر».
«سلكت مع الغيطاني دربا واحدا خلال فترات كبيرة، فقد جمعنا الأستاذ والأديب الكبير نجيب محفوظ، حتى أصبحنا توأمًا في الأدب والسياسية» هكذا بدأ الكاتب محمد سلماوي، حديثه عن الغيطاني، مستطردا: «كلانا انتمى لجيل ثورة يوليو (تموز). وقد جمع الغيطاني بين الأدب والصحافة، وكان متعدد المواهب بشكل كبير. كانت من هواياته الموسيقى، ولديه مكتبة عظيمة في منزله، وبشكل خاص الموسيقى الإيرانية والتركية».
وطالب سلماوي بتخليد الغيطاني من خلال «عمل دراسات لأعماله؛ لأنه لم يأخذ حقه من النقد». وطرح سلماوي مبادرة لتأسيس جائزة سنوية باسم «جمال الغيطاني» قائلاً: «يشرفني أن أكون أول المؤسسين لهذه الجائزة، بحيث يعتمد تمويلها على مساهمة المثقفين والكتاب ومحبي الغيطاني، وتقوم وزارة الثقافة المصرية بالإشراف عليها»، مؤكدا أن «قيمتها الحقيقية تكمن في أنها تحمل اسم الغيطاني».
بينما قال الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل: «بعد عام من رحيله، لم يخف الوهج الذي صنعه بمعاركه وإشعاعاته وعباراته وإبداعاته ومقالاته اللاذعة. سيبقى الغيطاني نورا هادئا جميلا مستمرا ومستقرا لا يكمن على رفوف المكتبات، وإنما يكمن في أيدي القراء.. لعب دورا في إحياء الصحافة الثقافية، عندما أصدر (أخبار الأدب)، فعادت مصر معها لتكون مركز إشعاع في الوطن العربي».
وقال الناقد الأدبي الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطاني حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذي استقاه من أجداده الفراعنة. قاوم الغيطاني في كل ما كتب أشياء كثيرة تتصل بالقبح والتسلط والظلم والتعصب، وحاول أن يصل إلى قيم تعكس ذلك. لقد ترك لنا تجاربه الحافلة وتأملاته الثاقبة»، مضيفا: «بعد عام من رحيله، بقى لنا من الغيطاني ما هو أبعد وما هو أقرب من الدموع، وما هو أكبر وأبقى من الذكرى.. أن يبقى.. وللدموع أن تنعى وتجف».
وبكلمات مؤثرة تحدث الأديب سعيد الكفراوي عن رفيقه الراحل، قائلا: «حين أتكلم عن صديقي وأخي الغيطاني أذكر 50 عامًا قضيناها في قلب الثقافة المصرية»، وأضاف: «بغياب الغيطاني، غابت أسئلة الثقافة التي كان يطرحها، وغاب البحث عن كُتاب جُدد، وغاب اهتمامه بكشف الفساد والمفسدين، فقد كان مشغولا بسؤال المصير والكينونة تماما مثل نجيب محفوظ».
يذكر أن الغيطاني من مواليد 1945، في محافظة سوهاج. نشأ وتلقى تعليمه الأولي في القاهرة. فُتن منذ الصغر بالقراءة والكتاب وحب الأدب. درس فن تصميم السجاد الشرقي في القاهرة، وعمل في هذه المهنة حتى عام 1968، وانتقل بعدها إلى العمل بقسم الأخبار في جريدة «أخبار اليوم» الرائدة، وعمل لفترة مراسلا حربيا في منطقة السويس، وأسس عام 1993 صحيفة «أخبار الأدب» وترأس تحريرها.
استهل رحلته مع الكتابة والنشر عام 1969، حينما أصدر مجموعته القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، التي أثارت الاهتمام ولفتت إليه الأنظار بشدة، ثم وفي عام 1971 أصدر رائعته الروائية «الزيني بركات» التي أعلنت عن مولد روائي كبير، وكاتب متميز احتل الصدارة بين أبناء جيله من كتاب الستينات. اعتبر جمال الغيطاني من أكثر الكتاب إنتاجا ونجاحا من بين أبناء هذا الجيل. صدر له كثير من الكتب، راوحت بين مجموعات قصصية وروايات، وكذلك كتب الرحلات والروايات التاريخية، إضافة إلى دراسات حول فن العمارة الإسلامية في القاهرة القديمة، وكثير من كتب السيرة الذاتية. ترجمت أعماله لعدة لغات أجنبية. رحل عن عالمنا في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، بعد أن ظل فاقدا للوعي عدة أشهر.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.