كتب الكثير عن المخيم العشوائي المقام على الطرف الشمالي لمدينة كاليه المعروفة بمرفئها وهو الأقرب إلى بريطانيا وتحديدًا لمدينة دوفر التي لا تبعد عنها سوى 42 كلم. ولم تتوان قنوات التلفزة الفرنسية والعالمية عن نقل الصور البائسة لأشخاص بائسين حطوا الرحال في هذا المخيم الذي أطلق عليه اسم «الغابة» (بالإنجليزية). إنهم خليط عجيب. أوطانهم تتصدر أسماؤها صفحات الجرائد بسبب الحروب التي تضربها (سوريا، أفغانستان، السودان، إريتريا)، أو بسبب الفقر والجوع والجفاف. بينهم البيض والسود وما بين بين. هناك فئة الشباب (وهي الغالبة). وهناك القاصرون الذين حط رحالهم في «الغابة» وهم من غير عائلة أو معين. ثم هناك العائلات (وهي أقلية) كما أن النساء قليلات العدد.
كلهم قادتهم أقدامهم إلى المخيم لأن حلم اجتياز اللسان المائي الفاصل بين فرنسا وبريطانيا يراودهم. جميعهم يريدون الوصول إلى «أرض الميعاد» بأية وسيلة كانت. ولذا، عند هبوط الليل، ينتشر العشرات وأحيانا المئات من الشبان على الطرق التي تفضي إلى مرفأ كاليه. يوقفون الشاحنات المتجهة إلى بريطانيا على متن العبارات بالقوة ليدخلوا إليها وليختبئوا داخلها وأملهم ألا تفلح الشرطة الفرنسية ورجال الجمارك في اكتشافهم عند عمليات التفتيش. والبعض الآخر يحاول الصعود إلى القطارات السريعة التي تربط فرنسا ببريطانيا تحت بحر المانش. وكم من مرة، صدرت الصحف المحلية وهي تروي مآسي الذين صعقهم التيار الكهربائي لدى محاولتهم الوصول إلى القطارات أو صدمتهم الشاحنات التي يرفض سائقوها التوقف بسبب الخوف من عنف المتسللين أو تعنيف رجال الأمن. وللحول دون ذلك، عمدت السلطات إلى بناء جدار من الأسلاك الشائكة التي تحيط بحرم المرفأ وبالطرق التي تفضي إلى محطة القطارات غير البعيدة. ورغم ذلك، دأب المئات ليليًا على ابتداع حيل للالتفاف على الإجراءات الأمنية لا بل إنهم أحيانا كانوا يلجأون لاستخدام القوة والاصطدام بالشرطة من أجل إسقاط السياج الشائك والاقتراب من هدفهم.
إنه الخوف: خوف سكان كاليه من هؤلاء الغرباء الذين يرون فيهم تهديدا لأمنهم وأملاكهم ولصورة مدينتهم التي أخذت أسعار الشقق والمنازل فيها تتراجع. إنه الخوف من الخروج ليلاً والاقتراب من هذا المخيم، حيث يتمترس رجال الأمن بشكل دائم على مداخله. وكم مرة دارت اشتباكات بينهم وبين اللاجئين الذين كانوا يجدون دائما إلى جانبهم جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان خصوصا البريطانية منها وأشدهم مراسًا أنصار حرية التنقل (بلا حدود) واليساريون والفوضويون والباحثون عن «قضية» يدافعون عنها.
هؤلاء عثروا في «الغابة» على قضيتهم. إنها قضية الكرامة الإنسانية وليست قضية سياسية لأن ما رأته «الشرق الأوسط» وعاينته طيلة يومين في هذا المخيم يتخطى كل ما يمكن تصوره من بؤس على أرض بلد يعد الخامس في العالم من حيث الثروة القومية والتطور الاقتصادي. أزقة موحلة، خيم بلاستيكية تفتقد للكهرباء والتدفئة والمياه الحالية. القاطنون يفترشون الأرض ويهيمون ليلا ونهارا. ينتظرون الجمعيات الخيرية لتقدم لهم المأكل والمشرب. الأوساخ في كل مكان والجرذان تتنقل بـ«حرية تامة» بين الخيم وبين مكبات القمامة. وليس نادرًا أن تنشب نزاعات تنتهي باستخدام العصي أو السكاكين بين المجموعات البشرية المختلفة. لكن من الواضح أن الأفغانيين هم الأكثر تأقلمًا؛ لأنهم يمسكون بغالبية المتاجر العشوائية التي فتحت مع الوقت، لا بل إن بعضهم نجح في فتح مطاعم متواضعة لمن ما زال يملك بعض النقود.
«الشرق الأوسط» تجولت في هذه «الغابة» تسأل وتتحرى. والقصص الجديرة بأن تروى كثيرة جدًا. فهذا «أحمد»، فلسطيني مولود في سوريا، عمره 28 عاما ويحمل إجازة في إدارة الأعمال. «أحمد» وصل إلى «الغابة» منذ شهرين بعد رحلة دامت ثمانية أسابيع منطلقها كان الدوحة حيث عمل في شركة قطر للغاز. وبعد تسريحه، أراد الذهاب إلى بريطانيا. لكن الحصول على تأشيرة كان صعبًا للغاية، فانتقل إلى مصر ومنها إلى ليبيا، حيث اختبأ أسبوعين ينتظر الفرصة للذهاب إلى إيطاليا. الرحلة كانت بالغة الخطورة إذ كاد مركب الصيد القديم أن يغرق حاملا معه المئات من الأشخاص غالبيتهم من الأفارقة لولا وصول حرس السواحل الإيطاليين الذين أنقذوا غالبية المهاجرين. ومن ليبيا، انتقل أحمد إلى الحدود الإيطالية الفرنسية قريبا من مدينة مونتون التي وصل إليها خلسة عن طريق الجرود الفاصلة بين حدود البلدين. ومن هناك، نجح «أحمد» في الوصول إلى كاليه التي سمع عنها من «أصدقاء». ومشكلة «أحمد» أنه صرف كل الأموال التي وفرها لدفع كلفة سفره وقيمتها 5 آلاف دولار. ومنذ وصوله، حاول ثلاث مرات الوصول إلى المرفأ مختبئا داخل شاحنة تبريد لدى توقفها في مرأب قريب. لكن كل مرة، كان يعثر عليها ويساق إلى مقر الشرطة، ثم إلى السجن ليطلق لاحقًا سراحه ويعود إلى الغابة.
«أحمد» شاب مثقف يعيش في خيمة مظلمة تضم عشرة أشخاص بينهم سوريون وعراقيون وأكراد. هو والآخرون «ينتظرون». وعندما نسأله ما الذي ينتظره يأتي جوابه قاطعًا: أن أنجح في الاختباء المرة القادمة لتدوس قدميه التراب البريطاني. ويسترسل «أحمد» في رواية «حلم اليقظة» حيث يريد الالتحاق بأصدقاء يعرفهم هناك سيقيم عندهم ليبدأ البحث عن فرصة عمل مستفيدًا من التقديمات الاجتماعية التي توفرها بريطانيا للاجئين وليساعد عائلته التي تعاني في سوريا.
قصة «أحمد» ليست الأكثر مأساوية من بين قصص السبعة أو الثمانية آلاف من سكان «الغابة» التي ستبدأ السلطات بإزالتها من صباح غد الاثنين بعد أن التزم رئيس الجمهورية ووزير داخليته بذلك. هذا «جمال الدين»: شاب أفغاني ترك منطقته قندوز هربًا من الحرب في بلاده مع مجموعة من ستة أشخاص سافروا جوا وبحرا وبرا حتى وصلوا إلى «المخيم». «جمال الدين» ليس لديه علاقات في بريطانيا ولا يجيد من الإنجليزية سوى كلمات قليلة. لكنه مع ذلك، نجح في أن يفتح «تجارة» في المخيم يبيع فيها كل شيء تقريبا أكان ذلك الطعام والشراب أو شرائح التليفون الجوال. و«جمال الدين» كالمئات من سكان المخيم يبدو بائسًا بسبب إزالة المخيم وذلك لسببين: الأول، أنه سيخسر تجارته. والثاني، لأن السلطات الفرنسية ستبدأ بتوزيع سكان المخيم الذين تقدر عددهم بـ6400 شخص على 280 مقرًا منتشرين على كل الأراضي الفرنسية باستثناء جزيرة كورسيكا، وبالتالي فإن هؤلاء اللاجئين سيجدون أنفسهم بعيدين كل البعد عن هدفهم النهائي أي الانتقال إلى بريطانيا.
مع مرور الأيام، أصبح مصير «الغابة» قضية وطنية استفاد منها اليمين واليمين المتطرف للتنديد بـ«ميوعة» الحكومة وعجزها عن المحافظة على هيبة الدولة، الأمر الذي حفز الرئيس هولاند على زيارة كاليه شخصيًا وإطلاق وعد بإزالة المخيم قبل نهاية العام. لكن المشكلة برزت عند البحث عن حلول «بديلة» لتوزيع سكان المخيم. وبسبب الرفض، لجأ المحافظون لمصادرة المقرات الفارغة مثل الثكنات غير المستعملة أو أبنية بلدية مهجورة.. وأطلقت على هذه الأمكنة التي سينقل إليها قاطنو «الغابة» «مراكز الاستقبال والتوجيه»، ويفترض أن تكون مؤقتة بانتظار أن يحسم أمر طلبات اللجوء التي سيكون على هؤلاء الأشخاص تقديمها. وخلال عملية الإخلاء سيوزع نزلاء «الغابة» إلى ثلاث فئات: الشباب، العائلات والقاصرين وسينقلون بالحافلات (170 حافلة) إلى مقراتهم الجديدة خلال أسبوع واحد تحت رقابة 3350 رجل أمن وشرطة. وتريد بلدية كاليه أن تزيل المخيم تمامًا حالما يخرج قاطنوه. لكن الخوف أن «ينبت» مخيم آخر مكانه كما حصل سابقا مع مخيم «سانغات» الذي انتقل الكثير من ساكنيه إلى كاليه. وتريد باريس أن تتعاون لندن معها من خلال قبول القاصرين الذين لهم أقارب في بريطانيا. وحتى الآن، قبلت لندن استقبال 200 قاصر، وهناك 400 آخرين لهم الحق في الذهاب شرعيا إلى بريطانيا. ولكن ماذا ستفعل باريس بالقاصرين الذين لا حق لهم بالانتقال إلى الضفة المقابلة من بحر المانش؟
سؤال لا جواب له حتى الآن كما أن الأجوبة مفقودة حول مصير الذين سترفض طلبات لجوئهم. هل سيختفون في الطبيعة أم سيعادون من حيث أتوا؟ وكم من الوقت سيقيم سكان المخيم في المراكز المؤقتة؟ ألفترات قليلة؟ أم أن «مراكز الاستقبال والتوجيه» المؤقتة ستتحول مع الزمن إلى «غابات صغيرة» منتشرة هنا وهناك على الأراضي الفرنسية؟
مخيم «الغابة» سكانه ضحايا الحروب.. وطموحهم «أرض الميعاد» بريطانيا
«الشرق الأوسط» ترصد معاناة المهاجرين في أكبر تجمع في فرنسا
مخيم «الغابة» سكانه ضحايا الحروب.. وطموحهم «أرض الميعاد» بريطانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة