ما كان ممكنا للإسلام السياسي بالخصوص، مع طرحه الأول عند حسن البنا وعند أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وتقي الدين النبهاني وحتى الآن، أن يعتمد اعتمادا كليا في إعادة الخلافة على الآداب السلطانية وكتب النظر السياسي الإسلامي، عند الماوردي والجويني وابن أبي يعلى وغيرهم، التي اختلطت بكتب التوحيد وعلم الكلام في تبرير تصور الخلافة السني بموازاة مركزية الإمامة في الفكر الشيعي. بل كان لا بد له من الاتساع والاقتطاف لما يبرّر له عقديًا وواقعيًا وسياسيًا لعودتهًا، ويراها أولى الفرائض على الأمة والجماهير المسلمة، بل هوية هذا الدين، الذي اختزله وحبسه المودودي في كتابه «المصطلحات الأربعة»، وسيد قطب في «هذا الدين وغيره» في «الحكم» لغة واصطلاحًا، والشرط لاستئناف الحضور والحياة الإسلامية للمسلمين كما يقول تقي الدين النبهاني «نظام الحكم في الإسلام».
من هنا نجد استدعاء مبكرًا لدى حسن البنا في «الرسائل» لتراث عصر القومية، بما فيها النازية الألماني وغلواؤها القومية، ربما دون نسبة، أو مجرد اقتطافات ربما لم يكن يعرف مصدرها. إذ نجد تعبيرات «ألمانيا فوق الجميع»، وأن السيدة الإنجليزية تقول مؤنبة ابنها «أنت لا تستحق أن تكون إنجليزيا». ويستدعي التفاف الأمم حول هوياتها وتراثها واعتدادها بها، ووحدتها حولها في تأكيده على ضرورة الإيمان بالهوية والوحدة الدينية.
ولكن لم يقف هذا التأثير والتأثر عند مجرد الاقتطافات الشعارية والفكرية، الساكنة في بنية الخطاب والشعار والممارسة الخطابية، بين الأصوليات الدينية والآيديولوجيات العربية المعاصرة، بل حدث كثير من التحالف فيما بينها عمليا على مستوى الكيانات والنشاطات.
* تحالف الإخوان واليسار
نذكر أنه في أربعينات القرن الماضي وآخر انتخابات ديمقراطية في سوريا، قبل دخول موجة الانقلابات العسكرية مع حسني الزعيم عام 1949، تحالف الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور مصطفى السباعي - صاحب الكتاب الشهير «الاشتراكية في الإسلام» وكان مراقب الجماعة العام منذ تأسيسها عام 1945 - مع الشيوعيين وكان الشعار «الله - الشيوعية معًا». ورغم أن السباعي كان في بداياته من أشد المناوئين للشيوعية والاشتراكية كأفكار آيديولوجية في مرحلته الأولى، فإنه مال في مرحلته الثانية للتحالف معه لموقفها من الاستعمار بعد ذلك.
وفي مثل هذا السياق يمكن أن نفهم مشاركة كل من الإخوان والطليعة الوفدية ذات الميل اليساري والديمقراطي في مظاهرات عام 1946 ضد حكم إسماعيل صدقي في مصر. كذلك شارك الإخوان في مصر اليسار و«الوفد» في مظاهرات ضد العرش وضد الاستعمار بين عامي 1945 و1952، ودفاعا عن دستور سنة 1923م، وهي السنوات الممهدة لـ«ثورة يوليو» فيما بعد سنة 1952.
وفي السياقات نفسها من التأثر والتأثير، الإيجابي والسلبي، يمكن أن يفهم كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أواخر الأربعينات، الذي ألفه أثناء وجوده في الولايات المتحدة، وسياقاته في هذا التاريخ نفسه. وهو عد فاتحة دخوله من أوسع الأبواب للحركة الإسلامية حينئذ، رغم كثرة ما كاله فيه من نقد إنشائي لها حينئذ، ولقد اعتبره الإخوان معبّرا عن توجههم قبل انضمامه رسميا لجماعتهم عام 1951، حين كانت تيارات اليسار ذا شعبية كبيرة حينئذ، وتؤثر الحركة العمالية في الشارع بشكل واضح.
* القضية الفلسطينية
ولكن تظل «القضية الفلسطينية» وتحرير الحرم القدسي من اليهود هدفًا مشتركًا رئيسًا وكبيرًا بين كل من التيارين الكبيرين الإسلامي والقومي، وكذلك مقولة الوحدة التي يريدها الإسلاميون إسلامية أصلا، بينما يريدها القوميون عرقية عربية وقومية لغوية ثقافية في الغالب، حسب اختلاف تصوراتهم. ولكن كان التوجه التصالحي للإسلاميين، منظرين وتنظيمات، عبر الإيمان بفكرة التدرج وعقد المؤتمرات التقريبية بين الفكر الإسلامي والعروبي، تحت لافتة المقاومة وتحرير فلسطين القضية المركزية التي تجمع بين مختلف التيارات الآيديولوجية في العالم العربي على اختلافها.
من هنا يمكننا أن نوجز أربع قضايا رئيسية ربطت بين حركات الإسلام السياسي وما يدعو نفسه «الجهادي»، والتيارين القومي واليساري على الخصوص هما:
1 - الوحدة وتحرير فلسطين: فالوحدة شعار رئيسي ومركزي يجمع بين طموح الإسلاميين للخلافة وطموح القوميين في السابق للوحدة الشاملة، فقد كانت القومية والوحدة العربية كما يصفها منيف الرزاز «نشيد إنشاد العرب»، حين صعد الإسلاميون وظلت كذلك فترة طويلة طوال العهد الناصري. ولكن بينما تمرّنت ولانت فكرة الوحدة الشاملة والاندماجية عند القوميين خصوصا بعد حرب الخليج الأولى عام 1990 وقبل صعود إيمانهم بالقطرية والعروبة الجديدة التكاملية، لم تلن فكرة الخلافة عند الإسلاميين ومَن يسمون أنفسهم «جهاديين».
لقد كان هدف الوحدة عند كليهما السبيل لتحرير فلسطين وهزيمة إسرائيل. كان هذا التقارب الرؤيوي النظري رابطا بينهما، رغم صداماتهما الواقعية، بعد تحالفات قصيرة بعد الانقلابات الثورية الناصرية والبعثية عام 1952، مثل أزمة مارس (آذار) 1954، إلا أنه استعيد تقاربًا مرجعيًا ونظريًا ساعدهم في الثمانينات والتسعينات على التقارب وعقد مؤتمرات مشتركة، فشلت فيما بعد نتيجة الاختلاف حول «تطبيق الشريعة» وكيفيته، ورفض بعض القوميين العلمانيين له، وإصرار الإسلاميين على التطبيق الكلي له. ولكن لا يمنع ذلك من وجود أصوات تمثل هذا الاتجاه الإسلامي العروبي، غير منظمين وبعض الاتجاهات المنظمة في المغرب العربي.
2 - قضية العدالة الاجتماعية: رغم أنها القضية التي شغلت اليساريين والماركسيين بالخصوص واشتهرت لهم وبهم، فإنه لم يستطع أي تيار آخر تجاهلها، ومثلت مبدأ رئيسيا ومحركا أساسيا عندهم، وتمت «أسلمتها» من قبل الإسلاميين، مثل ما صنعه السباعي أو قطب وأشرنا إليه سابقًا، وبعدهم كانت جهود الراحلين أحمد وعادل حسين بالخصوص، كما تمت «مركسة» الإسلام من قبل بعض الاشتراكيين، مثل جهود حسين مروة وحسن حنفي وخليل عبد الكريم وغيرهم. ولكن بينما ظل تأثير الأولين عميقا كحجة مضادة ودعوى اكتفاء نظري لم تجد جهود الأخيرين صدى ونفاذا إلا في صفوف الفكريات وبعض النخبة المثقفة فقط.
إلا أن حركات الإسلام السياسي دأبت على اقتباس والتماس كل أدبيات معاداة الفقر، ونقد النظام العالمي الرأسمالي من الأدب اليساري والماركسي، ورفعته شعارًا في فعالياتها الانتخابية دائما، وجعلتها قضية رئيسية في خطابها الشعبوي. بل إن جزءًا كبيرًا من الدعاية «الجهادية» (السنّية والشيعية على السواء) المعارضة للحكومات كان الاتهام بالفساد وحجة الدفاع عن المظلومين والطائفة المضطهدة. وهكذا أسست حركة أمل، ثم «حزب الله»، بذريعة الدفاع عن الطائفة الشيعية المضطهدة في لبنان، وهكذا كانت ترفع شعارات الإخوان والجماعات المدعية «الجهادية» في مصر وغيرها، وتصبغ منشوراتهم ونداءاتهم الحركية في كل مكان، كأنها الدعوة لإصلاح الدنيا بالدين، والثورة من أجل الفقراء والعدالة الاجتماعية. ومن ثم، اتهام الحكام والصفوة ورجال الأعمال بالفساد والإجحاف في توزيع الثروة. وحضرت هذه التهمة اليسارية لدى الإسلاميين كاتهام ثالث بعد العقدي الذي يتهم بالردة وفق الحاكمية - الخاصة بهم - وبعد العمالة للغرب الذي يرونه اصطنع حكوماتهم.
3 - بين الإيمان بالديمقراطية وتكفيرها: بينما ظل الإسلاميون ردحًا طويلاً من الزمن يرفضون الديمقراطية والحزبية. بل أعلن حسن البنا أن هدف جماعته الأول «القضاء على الحزبية»، ولم تكن رؤاه تجاه التعددية الحزبية قبل العهد الملكي إيجابيًا، ورغم أن سيد قطب وعمر التلمساني وغيرهما كانت بداياتهم السياسية مع حزب الوفد الأكثر شعبية بعد ثورة 1919، فإن مواقف الجماعة من الحزبية كانت متناقضة أحيانا كثيرة. أما الديمقراطية التي تمثل جوهر العلمانية والمدنية فظلت متهمة، ومقصاة من الدفاع عنها، وظلت مقيدة لأنها تعادي الحاكمية ظاهريًا، حيث إنها حكم الشعب وفق اختياره، وظلت مقيدة بمرجعية الشريعة، وهو ما قبلته الدساتير العربية والإسلامية منذ دستور عام 1923، حين أصر المفتي - حينئذ - الشيخ محمد بخيت المطيعي بقوة على ذلك أثناء لجانه التحضيرية. ولكن، وفق براغماتية الإسلام السياسي، الذي وجد نفسه قد أحسن استثمارا في الحامل الشعبي، ونجح في انتخابات شعبية متعددة، ولم يكن يقبل أو يرحب بفكرة الصدام أو الثورة علنا حينها. وفي 22 يناير (كانون الثاني) 2011 أصدر الإخوان المسلمون بيانا أكدوا فيه رفض مشاركتهم في ثورة 25 يناير على نظام مبارك حينئذ. وعلى عكس حزب التحرير لم يكن الإخوان يرحبون بفكرته علنًا عن السعي للانقلاب على الأنظمة من داخلها. كان التحول للقبول النظري بالديمقراطية والقبول بها، لكنهم كانوا يأتون بها ثم ينقلبون عليها إقصاء للآخرين. لقد كان الإسلام السياسي العربي - ربما باستثناء المغاربي منه - أقرب إلى التجربة الإيرانية ونموذجها المرشدي الوصائي والمرجعي من التجربة التركية. ومن هنا كانت استعانة الرئيس المعزول في مصر عام 2013 بمستشارة له - اشتهرت بعد إذاعة حديثه مع القوى السياسية حول بناء سد النهضة - وهي باحثة متخصصة في الثورة الخمينية، وكيف نجح الإسلاميون فيها في سرقة الثورة وإقصاء حلفائهم فيها، ولم يعرف لها غير أطروحتها تلك، وهو ما حاوله الإخوان بعد توليهم الحكم تمامًا. كذلك لم يقبل إخوان ليبيا بنتائج الديمقراطية حين خسروا الانتخابات وانتصرت القوى المدنية في يونيو (حزيران) 2014، وأنشأوا ميليشيات تدافع عن بقائهم، تدعى «فجر ليبيا» فحل ظلامها، ثم دولة «داعش» فيها، بعد أن حاربتهم وأجلتهم عن سرت وهاجمتهم في مصراتة، واستمرت سيطرتها على درنة منذ سقوط نظام القذافي ربما حتى الآن. واستمر التطرف العنيف ممثلا في «القاعدة» و«داعش» وفروعهما أكثر صلابة في رفض الفكرة الديمقراطية وتكفيرها واعتبارها دينا يخالف دين الإسلام، ولا يجوز الأخذ أو الاقتباس عنه، متلاقيا مع حزب التحرير في ذلك، ولكن زاد بأن اعتبرها دليلا على الكفر بالحاكمية ومبررًا للخروج على الأنظمة.
4 - الحداثة الغربية ونقادها: استفادت الحركات الأصولية من مختلف منتوجات الحداثة الغربية أو التحديث، فسعت لتوظيف الإنترنت، وافتخر الظواهري يوما بأنهم صاروا يسيطرون عليه. ونجحت «القاعدة» عام 2005 في إنشاء خمسة آلاف موقع موال لها، واستفاد «داعش» من المواقع التواصلية وأنشأ أكثر من نصف مليون حساب يعبر عن أفكاره بمختلف اللغات، وما زالت «الساحة الإلكترونية ما بعد الحداثية»، رغم الحظر والتقييد، فضاء ممكنًا لتحميلها منشورات التنظيم وبياناته وأخباره المختلفة لعناصره ومتابعيه من كل اتجاه. ولكن على المستوى النظري يمكننا القول بأن مختلف الأصوليات، من الإسلام السياسي إلى ما يسمى «الجهادي»، ومن الأفراد إلى التنظيمات، تستفيد من أدبيات نقد الحداثة الغربية وما بعدها، عند أمثال نعوم تشومسكي وهوارد زين وغيرهما.
هذه بعض الروافد الآيديولوجية غير المباشرة التي يكتظ بها الخطاب الأصولي المعاصر، التي تثبت أن روافده ليست دينية تراثية فقط، بل إنه جزء أيضا من أزمة السياسة والحداثة عربيًا وعالميًا.
الروافد الآيديولوجية غير المباشرة للأصوليات
من تحرير فلسطين إلى نقد الحداثة
الروافد الآيديولوجية غير المباشرة للأصوليات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة