إذا كانت استطلاعات الرأي صحيحة فإن المناظرات التلفزيونية الأخيرة في الحملة الرئاسية الأميركية لم تنتج حتى الآن الفائز الواضح بين المرشحين. فقد أعلنت وسائل الإعلام عن فوز مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون في المناظرتين اللتين شاهدناهما حتى الآن، حتى ولو بهامش ضئيل يفرقها عن منافسها الجمهوري. وقد يرجع ذلك، رغم كل شيء، إلى كراهيتهم الشديدة للمرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي، كما يجب القول والاعتراف بذلك، يبدو أنه يستمتع بصناعة الأعداء في أي مكان يذهب إليه، بأكثر من أي جهد آخر بذلته السيدة كلينتون في حملتها الرئاسية.
بدأ ذلك التقليد من حيث المناظرات الرئاسية التلفزيونية في عام 1960 من خلال المواجهة الشهيرة بين ريتشارد نيكسون وجون كينيدي. وبلغ الأمر ذروته في 1980 عندما نجح رونالد ريغان، الممثل المحترف في مرحلة من مراحل حياته المهنية، في توجيه ضربة قاضية إلى الرئيس الحالي وقتها جيمي كارتر. وبالنسبة لبقية المناظرات الرئاسية، فقد كانت أكثر قليلا من مجرد كونها جزءا من طقوس الحملة الانتخابية الرئاسية من دون تأثير ملحوظ على نتيجة الانتخابات.
أما عن مناظرة هذا العام بين كلينتون وترامب، ورغم كل ما قيل، يمكن أن تعتبر مناظرة تاريخية لسبب واحد على الأقل. إنهما قد أتما دورة تاريخية في الحياة الأميركية التي انتقلت إلى التلفزيون، ثم عادت وتحولت إلى برامج تلفزيون الواقع قطاعا وراء قطاع.
وبدأ هذا الاتجاه مع ظهور التلفزيون، الذي اخترع في الأربعينات، ولكنه حظي بالشعبية الجارفة بدءًا من الخمسينات وحتى الآن، واحتل بذلك المساحة المحجوزة لشبكات الراديو في صورة الحفلات الموسيقية، والعروض الترفيهية من جانب فرق موسيقى البوب، وبرامج المسابقات، والمسلسلات الدرامية. وبحلول نهاية الستينات، احتل التلفزيون محل الراديو تمامًا في كل هذه المجالات المذكورة.
وكان المجال التالي الذي دخله التلفاز هو مجال الرياضات الشعبية الشهيرة، خصوصًا رياضة البيسبول، وكرة القدم الأميركية. وخلال عشر سنوات تحولت الرياضات الشعبية في الولايات المتحدة من الحدث الذي يتابعه الناس في الملاعب إلى البرنامج الذي يشاهدونه على التلفزيون.
وفي سبعينات القرن الماضي، بدأ التلفزيون في الدخول إلى مجال جديد، وهو السينما، إذ إن البرامج والمسلسلات المنتجة لصالح التلفاز تحديدا بدأت في حيازة مساحة متزايدة من السوق الإعلامية. كذلك، ومنذ أواخر السبعينات، وخصوصا مع ظهور شبكات «الكابل»، بدأ التلفاز في غزو المجال الذي تحتله الصحافة المطبوعة، لا سيما بالقدر الذي تعنيه وتهتم به الأخبار. ومع هبوط تداول الصحف والمجلات ارتفع عدد مشاهدي التلفزيون وبصورة كبيرة. وإلى جانب تلك التطورات، بدأ التلفزيون في غزو أكثر أعماق الحياة الأميركية خصوصية في شكل تلفزيون الواقع وفيه يظهر المواطنون المتطوعون مباشرة أمام الكاميرات لـ«غسل ملابسهم المتسخة على الملأ».
وكان من المحتم، عند نقطة معينة، أن تتحول أساليب تلفزيون الواقع إلى السياسة على أعلى المستويات. وكان مثل هذا الاحتمال متوقعا لدى رواية جيرزي كوسينسكي بعنوان «أن تكون هناك»، وفيها كانت علاقة البستاني الوحيدة مع الواقع عبر التلفزيون يجد نفسه عن طريق الخطأ أمام الكاميرا بدلاً من شاشة التلفزيون، ويقوم عن غير قصد بتحويل مجرى النقاش السياسي على المستوى الوطني بأسره. (ولقد تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي من بطولة بيتر سيللرز وشيرلي ماكلين).
وكان ذلك، رغم كل شيء، عبارة عن الخيال الذي يخلق الواقع بينما كانت مناظرة كلينتون وترامب عبارة عن الواقع الذي يحاكي الخيال. فهناك 4 ملامح رئيسية في المناظرة الرئيسية الشهيرة اقتربت بها من مجال تلفزيون الواقع وابتعدت بها عن الاشتباكات السياسية التقليدية.
وبادئ ذي بدء، كانت تلك هي المرة الأولى التي نرى فيها مرشحين رئاسيين من كلا الجنسين، الذين جعلوا من شخصيات الفونس وغاستون الكرتونية حقيقة واقعة. وإذا ما كان المرشحين من الجنس نفسه، كانت مساحة الاشتباكات بين الجنسين ستصبح ضئيلة للغاية، ومموهة، ومن دون التلميحات والتصريحات المباشرة التي توفر المادة الغنية والثرية لكل برنامج من برامج تلفزيون الواقع.
ثانيًا، يرجع الفضل الكبير إلى دونالد ترامب لخبرته الطويلة كنجم من نجوم برامج تلفزيون الواقع، حيث زادت المناظرات الانتخابية من التركيز على الحركات البدنية بأكثر مما ركزت على التكهنات الفكرية.
وإليكم الطريقة التي وصف بها جيم روتنبرغ مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الأمر إذ قال: «جاءنا السيد ترامب بفلسفة جديدة: امنح الجمهور عرضا كبيرًا فوضويًا مع كثير من الحركة، وسوف يأتون بكاميراتهم ولن يغلقوها أبدًا».
ومن زاوية فهم ترامب لتلفزيون الواقع فإنه يجب على الممثل أن يدخل في حركة راقصة مع الكاميرا. وهذا هو السبب في أنه كان يتحرك كمثل الدب داخل القفص، خصوصًا خلال المناظرة الثانية، وكان يهز رأسه ذات الشعر المستعار لإضفاء المزيد من التأثير.
والسبب الثالث وراء اختلاف هذه المناظرات عن سابقتها هو أنها ابتعدت تماما عن أي شيء يحاكي الخيارات السياسية الجادة. وتحت تأثير ترامب، إلى حد كبير، استخدم كلا المرشحين الجمل الموجزة والعبارات القصيرة ذات المفردات اللغوية البسيطة، وتجنبوا تماما الكلمات ذات المقاطع اللفظية المتعددة.
هكذا حول ترامب السياسات العليا إلى حلقات مثيرة من تلفزيون الواقع
المناظرتان الأخيرتان في الحملة الرئاسية الأميركية لم تحسما حتى الآن الفائز النهائي بين المرشحين
هكذا حول ترامب السياسات العليا إلى حلقات مثيرة من تلفزيون الواقع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة